وردت عبارة "حور عين" في القرآن ثلاث مرات: مرتين بصيغة "وزوجناهم بحور عين" في سورتي: الدخان 54 وفي سورة الطور 20، ومرة بصيغة "وحور عين" في سورة الواقعة 22. و"حور" في سورة الرحمان 72. لكن توجد مجموعة من العبارات الأخرى في القرآن التي ترتبط بها، مثل "أزواج مطهرة" و"قاصرات الطرف" و"أترابا" و"أبكارا" و"كواعبا"...والتي يستند عليها القائلون إن "حور عين" هن جميلات الجنة التي أعدهن الله للمتقين أو بالأحرى "للمحاربين". وقد بالغ المفسرون السابقون في وصف ذلك الجمال والتفصيل فيه، إلى حد خدش الحياء الذي هو من الإيمان ومن القيم الإنسانية لدى كل الشعوب وعبر الأزمنة والعصور.. وبفعلهم ذلك أساءوا إلى الإسلام وجعلوا أرواح فئة كبيرة من المسلمين لا تتعدى قيمتها بضع كلمات من صنف: "حور العين تناديني فدعيني أماه دعيني. لا تبكي دموعك يا أمي عن دربي لا لن تثنيني". ودون التفسير الخرافي أعلاه، هناك تفاسير أخرى يمكن أن يستوعبها العقل البشري. وهذه التفاسير تشترك في ما بينها في المعنى العام "لزوجناهم بحور عين"، وإن كانت تختلف من حيث المنطلقات وحول بعض الجزئيات. وقد اختصرنا تلك التفاسير في تيارين هما: 1) التيار الأول والانطلاق من فعل يحور: انطلق اجتهاد هذا التيار في تفسير "حور عين" من عبارة جاءت في القرآن وهي "لا يحور"، بمعنى لا يعود. وبالتالي يحور هي يعود، وقالوا يتجدد. وعين هي رمز للفيض والجريان، ومنه "فحور عين" تكون هي التجدد والغزارة. وهي صفة لموصوف سابق، وهي الفاكهة. ويقيسون تفسيرهم هذا على أساس النص التالي: "وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة"، سورة الواقعة 32/33. أما عن "قاصرات الطرف" "وأزواج مطهرة" و"عربا أترابا" و"أبكارا" و"كواعب"، فلا يختلفون مع التيار الثاني. 2) التيار الثاني وإضافة المدخل الآرامي/السريالي: خاصية هذا التيار هي أن منهجه يقوم على البعدين التاريخي واللغوي مما جعله يستحضر اللغة السريالية كإحدى المرجعيات لفهم القرآن، لكونها تشكل مكونا من مكونات سياقه التاريخي.. فقد كانت هي اللغة المكتوبة السائدة في المنطقة في مرحلة تدوين القرآن. وهذا التيار له حصيلة فكرية مهمة تتمثل في مجموعة من القواميس والدراسات. وتبقى دراسة لوكسمبورغ نموذجا لهذا التيار، خاصة ما يتعلق بمنهجه الذي يسمح له بتقليب العبارة المبحوث عن معناها على عدة أوجه تاريخية ولغوية، مستحضرا مبدأ الشمولية ومواءمة العبارة مع سياقاتها المختلفة. فمثلا في تفسيره ل"زوجناهم بحور عين"، توصل إلى أن "زوجناهم" هي في الأصل "روحناهم". ويستدل بوجود فعل روح في القرآن وأن الجنة هي مكان للراحة. أما حور فهي الأبيض أو "البيضاء" التي تطلق على العنب الأبيض لدى السرياليين. وعين هي اللامع أو الوضاء. فحصل على المعنى التالي: "سنجعلكم ترتاحون تحت- ظلال كرمة- العنب الأبيض/ اللامع أو الوضاء". ويرجع صاحب البحث وأزواجه السبب في هذا الخطأ إلى أن الكتابة الآرامية/ السريالية التي دون بها القرآن في البداية كانت دون تنقيط ولا حركة، كما تشهد على ذلك الوثائق التاريخية، خاصة النقوش والرقع، ما أدى إلى وقوع الكتبة والنساخ في بعض الأخطاء خلال النقل من الرسم الأول إلى الرسم العربي، وكذلك عند وضع النقط والحركات بعد ذلك، مثل كتابة "زوجناهم" عوض "روحناهم". ومن التيار نفسه نستحضر نموذجا آخرا لتفسير عبارة "زوجناهم بحور عين". قال غابريال صوما، المختص في اللغات السامية، ما يلي: "زوجو Zugo" تعني"الزبيب"/ العنب. و"هومو" هي هم، وحور "حيوورو" معناها الأبيض. وعين "عينو" وتعني مجرى الماء". ليكون المعنى النهائي حسب صاحبه هو: "الزبيب الأبيض ومجاري المياه". ولنا عودة لهذه النقطة. وإذا رجعنا إلى تفسير لوكسمبورغ، فإننا نجد أنه لم يقف عند تحديد معنى "زوجناهم بحور عين" منعزلة، وإنما فسر كل النصوص والعبارات التي تصلها بعلاقة مثل: "أزواج مطهرة"، التي فسرها على أنها أصناف الفواكه النقية. "وقاصرات الطرف" التي أعطاها معنى الأغصان والثمار الدانية والمنخفضة. أما معنى عبارة "لم يطمثهن إنس ولا جان" فهي عدم لمسهن أو تلويثهن من أي مخلوق. وعن "مقصورات في الخيام" فمعناها هي أن الفواكه تحميها قشورها.. ووقف كذلك على معنى الأبكار والكواعب، مبينا أنها هي الثمار الباكرة النضج أو الباكورة. والأتراب هي كل ما هو يافع ويانع. كما فسر النص 19 من سورة الإنسان. قال تعالى: "وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً". أما الولدان المخلدون، وحسب كريستوف لوكسمبورغ، فمرادف ولدان في اللغة السريالية هو "يلدا"، أي الثمار، ومخلدون، في الأصل هي مجلدون، أي أن ثمار الجنة تؤكل باردة بخلاف أهل الجحيم. وتحليله كان مدعوما بشهادات لا يتسع المجال للوقوف عليها. والخلاصة، تبعا له، هي أن كل تلك النعوت والصفات سالفة الذكر من حور عين وأزواج مطهرة وكواعب وأبكار وأتراب وولدان مخلدون، وغيرها، مرتبطة بالفواكه ونعم الجنة ولا علاقة لها "بالنساء"، لأن "النساء"، حسب قوله، سينعمن بخيرات الجنة مع أزواجهم.. واستشهد على ذلك بنصين هما: النص 70 من سورة الزخرف، قال تعالى: "0دْخُلُواْ0لْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ". والنص 56 من سورة يس، حيث قال العزيز الكريم: "هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى 0لأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ". إذا حاولنا فهم ما جاء بصدد زوجناهم بحور عين لدى كل من التيارين، نجد أن التيار الأول قد خطا خطوة جريئة بتجاوزه للتفاسير الخرافية، من خلال وعيه بأن "حور عين" هي صفة لفواكه ونعم الجنة (متجددة ونضاخة أو غزيرة). وهو يلتقي في ذلك مع التيار الثاني. لكن المشكل يكمن في طبيعة خطتهم التي لم تكن واضحة ودقيقة بما فيه الكفاية، ما جعل كلامهم عاما وفضفاضا. فمثلا، إذا أخذنا عبارة "متجددة ونضاخة"، ووضعناها في أماكن حور عين في النصوص القرآنية فإنها لا تتناسب مع سياق تلك النصوص. لأنهم اعتبروا "حور عين" صفة؛ ولكن إذا أخذنا كمثال سورة الواقعة نجد ما يلي "وحور عين". أي هناك واو عطف، وبالتالي فإن "حور عين" هي معطوفة على ما سبقها. أما النعت في تلك الجملة فهو: "كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ". إضافة إلى أن هناك فئة من هذا التيار لم تفسر مفهوم "زوجناهم بحور عين" في سورتي الطور والدخان، ما قلص من مجال تمكنها من المصطلح...أما تلك التي فسرته فقد توصلت إلى أن "زوجناهم بحور عين" هي قران العنب الأبيض بباقي الفواكه. وهو كذلك فهم لا يتناسب والسياق. أما ف يما يخص التيار الثاني، كمنهج وكآليات وأدوات البحث الحديثة والرؤية الشمولية والسياقية للموضوع، فهي حوامل لها أهميتها في تحقيق الموضوعية وتحري الدقة في البحث والدراسة. أما في ما يتعلق بحصيلة ما توصل إليه نموذج لوكسمبورغ وصوما في تفسير "زوجناهم بحور عين"، فكما نلاحظ، وإن اتفق الاثنان حول الأصل السريالي للنص، وكذلك في كون الموضوع يهم الفواكه وليس "النساء"، كما ساد الاعتقاد، فإنهما اختلفا في تفسير عبارتي "زوجناهم وعين". فزوجناهم التي فسرها الأول على أنها روحناهم، فغابريال صوما فسرها على أنها الزبيب zugo أما "عين" فصوما أعطاها معناها الحقيقي كمجرى مائي، أما لوكسمبورغ فأعطاها المعنى المجازي، وهو الضياء واللمعان، ما فتح المجال لقول آخر انطلق من قول صوما ولوكسمبورغ، إضافة إلى ما ورد في أحد القواميس السريالية الفرنسية: Raisins secs (pluriel) ‘ouSoro';'epshoto' (pluriel) Zugo: (Grappe de raisin)؛ ما يعني أن زوجوzugo هي عنقود العنب. وحسب غابريال، "هومو" تعني هم، أي صيغة للجمع. ليكون المعنى هو عناقيد من العنب، يقول صاحب التفسير الأخير، والذي أضاف أن إعطاء صوما لكلمة "عين" معناها الحقيقي كمجرى مائي فلا يوافق السياق. ويبقى المعنى المجازي الذي أعطاه لوكسمبورغ لعين هو الأصح، لأن عين من جهة تشغل محل نعت لحور، ومن جهة أخرى فالمعنى الحقيقي لعين (جنات وعيون) جاءت قريبة من حور عين في سورة الدخان. وبذلك يكون الاحتمال الثالث لزوجناهم بحور عين هو: "عناقيد من العنب الأبيض اللامع". ومهما كان الاختلاف فالمهم أن هناك اجتهاد من أجل الابتعاد عن الخرافة والأسطورة، والوصول إلى معان قرآنية تشرف الإسلام والمسلمين في إطار مقاصد الإسلام وعقيدته، مع تسييد العقل ورفع الوصاية عنه وعن دين وحياة خلق الله التي يجب أن ينظمها القانون والعدالة وليس الخرافة وسيف الجهالة، الذي يعتبر كل اجتهاد وتجديد بدعة ومروق. وكل مجتهد خارج اجترار القديم هو عدو للإسلام ويستهدف داره. وهذا بالضبط ما حصل مع كريستوف لوكسمبورغ وأمثاله من الباحثين، الذين كفرهم المضاربون في الدين وتجار الجهالة وأهدروا دمائهم، لا لشيء سوى لأنهم استعملوا العقل في فهم وتدبر القرآن كما أمرنا الله سبحانه وتعالى؛ بل حتى ما قالوه من حقائق فهي توافق ما جاء عند بعض السلف ذوي الألباب. بمعنى أن ما قاله لوكسمبورغ أو غيره في مسألة "زوجناهم بحور عين"، على أن لها جذورا سريالية، وأن الكتبة أخطؤوا وقت نقلها فهي ليست سابقة من نوعها؛ فالكلام عن الكلمات الغريبة في القرآن حاضر في التراث. ومشكل أخطاء الكتبة في نقل القرآن من الخط السريالي إلى الخط العربي، وعند وضع التنقيط لاحقا، كذلك، هي حقيقة تاريخية معروفة، أثيرت منذ عهد عثمان، الذي كان له فيها رأي، لكنه لم يكفر أو يهدر دم أحد. ناهيك عن أن الأخطاء الإملائية والنحوية الموجودة في القرآن، وهي وظاهرة للعيان وتصحيحها لا يمس بقدسية القرآن، بل بالعكس سيمكن من فهمه فهما صحيحا، ما سيخرج المجتمعات الإسلامية من الظلام إلى النور. وحتى من أخطأ من الكتبة فهو معذور لضعف الإمكانيات في ذلك الوقت. وكذلك لغياب التنقيط والحركة آنذاك، مع تشابه مجموعة من الحروف مثل (ر وز)و(خ وج وح) كسبب لوضع زوجناهم، مثلا، عوض روحناهم. وخباز عوض جبار. أما تشابه "ط وص وض" فنجم عنه مثلا وضع حضب محل حطب. أما عن إعادة النظر في معاني الجنة ونعمها، فهو أمر ليس بجديد كذلك؛ لأننا نجد في التراث الإسلامي أن بعض مفكري الإسلام المبكرين كان لهم رأي يتوافق مع الحداثيين ويخالف معاصريهم، ولنا في تفسير "زوجناهم بحور عين" بعض الشهادات، يتقدمها نفي الأصفهاني اعتبار أن "زوجناهم" معناها النكاح.. قال: "ولم يجئ في القرآن "زوجناهم حوراً"، كما يقال: زوجته امرأة؛ تنبيهاً أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف في ما بيننا من المناكحة؛. أما الرازي فقال في شرحه للنص 24 من سورة الطور ما يلي: ""وَحُورٌ عِينٌ" بمعنى ولهم حور عين، وثانيهما، وهو أن يقال ليست الحور منحصرات في جنس، بل لأهل الجنة". وهذا يخالف ما قالته الجماعة حينها في مسألة طبيعة الجنة ونعمها، بما فيها "زوجناهم بحور عين". فالأصفهاني والرازي يقران بأن طبيعة الأمور في الجنة تختلف عما هو معروف في الدنيا، ونعمها تختلف عن نعم الدنيا. والجنة ليس بها تمييز جنسي. ويحضرني هنا ما قاله ابن عباس في الموضوع: "ليس في الجنة شيءٌ يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء...هو تشابه في الأسماء واختلاف في الحقائق، وعرف ب"القدر المشترك"؛ رواه أبو نُعَيْم في "صفة الجنة" (21/ والبيهقي، وآخرون وصحَّحه الألباني). ويؤكد صحة هذا الاتجاه الذي يشترك فيه ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، وجود نصوص قرآنية قطعية، سواء في اختلاف زواج الدنيا عن الآخرة مثل قوله تعالى: "...وإذا النفوس زوجت..."، سورة ص، النص 7. وقوله تعالى كذلك: "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم" سورة الصافات، النص 22. فالزواج هنا هو بمعنى قران وجمع لأهل الجنة في ما بينهم كأرواح ونفوس، وليس كمادة أو جنس. أما ما جاء في كون الإناث لن يكن متعة للذكور في الجنة، وأنهم معا متساوون في التمتع بنعم الجنة. قال تعالى في سورة النساء، النصوص 122/ 123/124 "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا *لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا* وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا". ولا تفوتني في هذه النقطة الإشارة إلى أن النصين اللذين استشهد بهما لوكسمبورغ في هذا الباب، فربما لم يحسن الاختيار. ليس هذا فقط، وإنما حتى في تفسيره للنص 19 من سورة الإنسان. قال تعالى: "وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً". هناك تفسير آخر يرى أن كلما جاء من آيات تتكلم عن نعم الجنة باستعمال أسماء وأوصاف دنيوية مثل الحرير والاستبرق والكؤوس والأباريق واللؤلؤ والولدان المخلدين...هي صور بلاغية من نوع المجاز، الهدف منها توضيح وتبسيط نعم الجنة لكل فئات بني البشر، وحسب المتداول بينهم من لغة وصور وخيال وتمثلات، لأنه يتعذر أن تدرك كل فئات "العالمين" الغايات والمعاني المجردة للجنة. وقد ترجم رسول الإسلام ص الوحي كإلهام ومعان إلى نصوص قرآنية تعبر عن صور في منتهى الروعة والجمال مثل قوله تعالى: "مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ"، النص 76 من سورة الرحمان. ومفهومها أن في الجنة يوجد رفرف أو فراش (رفارف أو أفرشة) أو بساط من أغصان الأشجار وأوراقها الملتفة، كأنه زربية منسوجة بتفنن وعبقرية وجمال.. وفوق هذا الرفرف أو الزربية الرائعة تستلقي الثمار والفواكه. وكي لا يظل المجتهدون والباحثون في القرآن يخبطون خبط عشواء، لا بد أن يسلموا بقضاء إلهي، وهو أن نعم الجنة تختلف وتتميز عن نعم الدنيا كما تم توضيح ذلك انطلاقا من عبارة "وزوجناهم بحور عين". فنعم الدنيا مجرد زينة ولهو ولعب وشهوات. أما الجنة فأهلها ليسوا أجسادا وأشكالا فانية؛ وإنما هم عبارة عن نفوس وأرواح خالدة، ونعمها ليست مادة منظورة. وحتى وإن كنا نجهل طبيعتها، فالقرآن قد أخبرنا بالغايات التي تحققها، والتي هي إشباع كل رغبات وأماني وطلبات أهل الجنة؛ إذ توفر لهم الراحة والهناء والسلم والسلام والأمن والاطمئنان والألفة والأنس واللذة والحسن والجمال .... وفي الغايات فقط تشبه نعم الدنيا نعم الآخرة، وإن كان الشبه بينهما كالشبه بين قطرة ماء والمحيط. ولنختم هذا المقال بجزء من سورة الرحمان (46 78)، وإن كنا للضرورة سنذكر النص دون "الآية" الكريمة: "فبأي آلاء ربكما تكذبان". قال تعالى: "وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴿46﴾... ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ﴿48﴾ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ﴿50﴾ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ﴿52﴾ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ﴿54﴾ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ﴿56﴾ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ﴿58﴾ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴿60﴾ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴿62﴾ مُدْهَامَّتَانِ ﴿64﴾ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ﴿66﴾ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴿68﴾ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴿70﴾ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ﴿72﴾ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ ﴿74﴾ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ﴿76﴾ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴿78﴾. يتضح إذن أن التفسير الأكثر موضوعية ل"زوجناهم بحور عين"، والذي يناسب مختلف السياقات التي جاءت فيها تلك العبارة هو أن، "زوجناهم بحور عين" وما ارتبط بها من تعابير هي أوصاف لفواكه ونعم الجنة.. وكل ما جاء من وصف فاحش "للنساء" في هذا السياق فهو مجرد إسقاط للفكر الأبوي مع كل الأوهام والنزوات التي كانت سائدة في مجتمع بدوي يصعب عليه إدراك المعاني والقيم الروحية الراقية. أما ما جاء من تشابه بين أسماء الأشياء في الدنيا والآخرة فهو بلاغة ومجاز، وتلك خاصية من خصائص القرآن الذي في جانب منه يعتبر مرجعا تعليميا وتربويا. * باحثة في الديانات وقضايا المرأة.