هل تشعرين بالتمييز لانك مسلمة؟ ألا تحسين بأنك أقل من الرجل لأنك مسلمة؟ سؤال طرح علي منذ سنوات من قبل صحفي أجنبي خلال برنامج تلفزي مسجل مع قناة دانمركية مشهورة، في معرض مناقشة قانون مدونة الأسرة المغربي بعد المصادقة عليه من قبل البرلمان ودخوله حيز التنفيذ سنة 2004 .صراحة فاجأني هذا الصحفي, لم أكن أتوقع مثل هذا السؤال. لأول مرة استفز في مشاعري الدينية بهذه الطريقة المباشرة. وما أثارني في السؤال هو: كيف يمكن ان يكون انتمائي للاسلام مدعاة لإحساسي بالتمييز او شعوري بالنقص مقارنة بالرجل؟ نفس السؤال يطرح علي بطريقة أو بأخرى كلما التقيت بنساء من الضفاف الأخرى. اذكر انه في لقاءاتي ببعض الفعاليات النسائية المنتمية لثقافات متنوعة، اما لاتينية او اوربية او امريكية، في بعض المنتديات العالمية وخلال مناسبات متعددة، وبعد الكلام العام المعروف في مثل هذه الاجتماعات، سرعان ما تبادر محدثاتي الى سؤالي بطريقة فيها كثير من اللطف والشوق للجواب عن وضعية المرأة ولباسها وعلاقتها بالرجل في المجتمعات المسلمة, وكثيرا ما استشعر لدى الآخرين نزوعا نحو تحميل الدين الاسلامي مسؤولية أوضاع المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية. ان هذه التساؤلات والاستفسارات المباشرة وغير المباشرة تدعونا الى كثير من التأمل، فهي من جهة تؤكد ضعف التواصل الحضاري والثقافي بين الشعوب، وجهل كل ثقافة بمقتضيات الثقافات الأخرى، ومن جهة أخرى تبين ان الهيآت الدولية والأممية والإقليمية القائمة لم تؤد وظيفتها بعد في التعارف الحضاري والتثاقف المطلوب. والنتيجة الطبيعية لضعف التواصل والتعارف بين الشعوب هو تكوين صورة ذهنية نمطية سلبية عن الاخر، وفي موضوعنا عادة ما تستبطن هذه الصورة السلبية في عمقها خلفية تنطلق من اعتبار وضعية المرأة المسلمة في المجتمعات العربية والإسلامية وضعية سلبية، فهي امرأة مضغوطة اجتماعيا مهمشة سياسيا متحكم فيها، وعادة ما يتم تحميل الدين مسؤولية الظلم والحرمان من الحقوق الذي تعيشه النساء في بعض المجتمعات التي لازالت تعاني من تخلف حضاري عام. ان هذا الأمر جعلني اتساءل وأنتبه الى حقيقة مفادها ان البشرية اليوم لم تتعرف بما فيه الكفاية على رسالة الأديان السماوية الخالدة ودورها في تحرير الانسان من أغلال العبودية والظلم والاستبداد، خاصة قبل ان يتعرض بعضها للتحريف والتبديل. فبالرجوع الى رسالة الأديان السماوية نجدها قائمة على التوحيد وتحرير الانسان. فالأنبياء عليهم السلام منذ آدم ابي البشر الى محمد عليه الصلاة والسلام جاؤوا للبشرية برسالة الإصلاح والرقي بالإنسان. وأخص هنا بالذكر رسالة الإسلام التي تتسم بالعالمية والخلود وتصلح لكل زمان ومكان، وجاءت متصفة بالرحمة للخلق، قال تعالى ( وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) الانبياء 107 ومفهوم الرحمة هنا ينم عن بعد انساني عميق، نابع من تكريم الحق سبحانه للانسان، (ولقد كرمنا بني آدم) الاسراء 70وقد جاء هذا الخطاب في بيئة عرفت انحرافات اجتماعية واخلاقية كبيرة، حيث استبعد الانسان واتخذ سلعة و متاعا يباع ويشترى في الاسواق. فالمرأة في العصر الجاهلي قبل مجيء الإسلام كانت محرومة من كل الحقوق، لاترث ولا تملك، ولا يعترف بادميتها وإنسانيتها، بل تورث كالمتاع. ووصل الأمر الى حد وأد البنات وهن أحياء، من جراء ثقافة كره البنات واعتبارهن مصدرا للعار. فشكل مجيء الاسلام ثورة اجتماعية حقيقية وعميقة لصالح المرأة. أعادت التوازن الاجتماعي المطلوب، وأسست لمفهوم الكرامة الانسانية والمساواة بين الجنسين (انما النساء شقائق الرجال في الاحكام) حديث نبوي. ان حاجة الفرد الى معتقد يؤمن به اصبح أمرا واضحا في كثير من الدراسات النفسية والإجتماعية، اذ يتأكد يوما بعد يوم حاجة الانسان إلى التدين وأن يكون له معتقد ديني يعتقد به و يجيب له عن الاسئلة الوجودية اجابات مقنعة توفر له الامن والطمأنينة النفسية. فكثير من شعوب العالم التي لا تملك معتقدات دينية صحيحة، تبحث لها عن بدائل ومعتقدات من اجل تحقيق الراحة والطمأنينة النفسية، وهذا ما يفسر الحركية التي يعرفها مجال البحث في الأديان والإقبال عليها. ان الوعي بهذا الامر يقتضي اطلاق مبادرات عالمية لمنع ازدراء الاديان السماوية والاستهزاء بالأنبياء و رفض المس بمشاعر المتدينين. ذلك ان من شأن عدم احترم الخصوصيات الدينية للشعوب ان يغذي حركة التطرف في كل الاتجاهات.غير انه للاسف الشديد توجه حملات ممنهجة ضد الاسلام والمسلمين ويتم التركيز على تقديم صورة المرأة المسلمة في الإعلام الغربي وبصورة نمطية سلبية. فهي اما انها امرأة مغطاة كليا ومحرومة من التعليم ومن المشاركة في بناء المجتمع أو هي المرأة الجسد التي تروج لثقافة ألف ليلة وليلة ولا تصلح الاللمراقص والاغراء. وحتى التقارير التي تنجز من قبل العديد من الهيئات والمؤسسات عن المرأة في البلدان الاسلامية فهي تقارير تركز احيانا على قضايا جزئية تختزل و اقع المرأة المسلمة في الارث والطلاق والتعدد. التقريرالذي قدم في لجنة المساواة ومكافحة التمييز في الجمعية البرلمانية بمجلس اوروبا في ابريل 2012 بعد صعود حكومات مابعد الربيع العربي في شمال افريقيا. فقد اختزل هذا التقرير واقع المرأة في دول الربيع العربي في زواج الصغيرات وقضايا الارث وتعدد الزوجات،و قدم صورة قاتمة عن المرأة في هذه الدول وتحديدا المغرب وتونس. ومع ان هذه البلدان قامت باصلاحات عميقة في مجال تمكين المرأة من حقوقها على عدة مستويات. فقد عرف المغرب اصلاحات كبيرة في مجال المرأة، همت الجانب القانوني والسياسي والاجتماعي. وتعزز دور المرأة في المغرب مع دستور 2011 ا لذي أقر في الفصل 19 مبدأ المساواة واتجه اكثر من ذلك الى مبدأ السعي نحو تحقيق المناصفة. واشير الى مثال اخر للصورة السلبية للمرأة العربية في الولاياتالمتحدةالامريكية. ففي المتحف العربي الموجود في ولاية ميشيغن في الشمال الامريكي اثار انتباهي جانب من هذا المتحف الرائع الذي يؤرخ ويوثق للحضور العربي بامريكا، وهو كيفية عرض موقف الاعلام العربي المرئي والمكتوب وتحديدا الامريكي من المرأة العربية. اذ تم التعبير عن هذه الصورة بجدارين متقابلين يحملان صورا انسانية متناقضة: فهي اما امرأة منقبة قسرا ومحرومة من المشاركة في المجتمع, او امرأة غاوية لا تتقن الا الاغراء والغواية. امام هاتين الصورتين المتقابلتين والمتناقضتين تغيب الصورة الحقيقية للمرأة العربية و المسلمة وهي المرأة المنطلقة من النموذج الوسطي المعتدل، المرأة المعتزة بهويتها، المنفتحة في نفس الان على واقعها وعلى محيطها، المرأة التي تواكب هموم الانسانية وتناضل من أجلها. ان هذه الصورة النمطية السلبية للمرأة المسلمة في دوائر غربية كثيرة تؤكد الحاجة الى أمرين اساسيين: أ - التعريف بموقف الاسلام من المرأة من خلال مصادره الاصلية، وذلك بعيدا عن الكلام العام والشعارات الفضفاضة، بل التعريف برعاية الاسلام عموما لمفهوم انسانية المرأة وكرامتها وحمايتها من كل مظاهر الامتحان والاستغلال، وهذا تحد حقيقي يواجهنا جميعا ويسائلنا عن المجهودات المبذولة للتعريف بالصورة الحقيقية للمرأة في الاسلام من قبل المؤسسات الرسمية والمدنية، الصورة المبنية على مبادئ المساواة والكرامة والإنصاف و الاستقلالية والمسؤولية. مما جعل المرأة المسلمة في عصر الرسالة تدرك رسالتها ودورها في بناء المجتمع، وتنطلق بثقة وعزم في مسيرة الاصلاح والعطاء خدمة للصالح العام. وأذكر هنا قصة ام سلمة التي سمعت نداء المنادي وهو ينادي في الناس فأحست بالمسؤولية في متابعة ومواكبة الشأن العام، فعن عبد الله بن رافع قال: »كانت ام سلمة تحدث انها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر وهي تمشط: ايها الناس فقالت لما شطتها: كفي رأسي، وفي رواية فقلت للجارية استأخرى عني، قالت انما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت: اني من الناس« هذا تعبير نسائي عن وعي سياسي واجتماعي عميق بضرورة الانخراط في قضايا المجتمع وتدبير الشأن العام. فمطلوب من النخب المؤهلة ان تبذل الوسع والجهد الفكري اللازم على المستوى النظري لتحويل الاحكام العامة الى مقتضيات وتدابير وإجراءات قابلة للتطبيق. اضافة الى التعريف بالانظمة الاجتماعية الموجودة في الاسلام وأهمها نظام الحماية الاجتماعية الذي تتمتع به النساء، كما ينبغي التعريف بالنماذج النسائية الناجحة في الواقع وعبر التاريخ في مختلف المجالات، وهي نماذج كثيرة تحتاج لابحاث خاصة. ب - بناء ومأسسة الحوار النسائي بين مختلف التوجهات: ان من أهم الخلاصات التي خلصت اليها في بحث الدكتوراه الذي انجزته في موضوع »الحركة النسائية بالمغرب المعاصر« وجود قواسم مشتركة بين اتجاهات هذه الحركة، خاصة بعد صدور مدونة الاسرة التي حظيت بنوع من الإجماع لدى اغلب التنظيمات النسائية المغربية، وكذا التوافق حول بعض المقتضيات التنظيمية والتشريعية لرفع نسبة تمثيلية المرأة في المجالس المنتخبة . فمن المساحات المشتركة بين هذه التيارات في مجال العمل النسائي: الرفع من القدرات النسائية والنضال من أجل تمكين فئات واسعة من النساء في القرى واحواز المدن من الولوج الى الخدمات الاساسية والاسهام في التنمية. ان الحوار النسائي بين مختلف تيارات الرأي اصبح امرا حتميا للنهوض بقضايا المرأة وتحرير النقاش في القضايا العالقة. واليوم يتأكد لي ان الحوار النسائي يجب ان يتجاوز الايديولوجيات الضيقة وجغرافية المكان لينطلق في رحابة الزمان والافكار والمبادرات. ويتأكد اليوم ان قضايا المرأة تعرف تقاطعات كبيرة ونقط التقاء وتشابه كثيرة، وسيساهم في التنسيق في القضايا المشتركة بين مختلف التوجهات على المستوى العالمي بلا شك في تحسين وضعية النساء والنهوض بها، لان الاولويات والأجندة النسائية تلتقي في قضايا ومطالب كثيرة على المستوى العالمي، وكثيرا ما تتشابه معاناة النساء بغض النظر عن اوطانهم و جنسياتهن، ودياناتهن، واذكر كمثال على ما تقدم موضوع صورة المرأة في الاعلام، فاكاد اجزم ان هناك مطالب من الشرق والغرب بضرورة تحسين صورة المرأة في الاعلام و تقديم صورة ايجابية عنها، بعيدا عن التنميط والاستغلال في الاعلانات الاشهارية. ففي كثير من المؤتمرات الدولية التي شاركت فيها ارتفعت اصوات نسائية بمختلف لغات العالم للتنديد بالصورة السلبية التي يسوقها الاعلام المرئي والمكتوب عن المرأة. وينبغي أن نكون مقتنعين ان لدينا نقط قوة كثيرة في ثقافتنا وحضارتنا، مضيئة ومتقدمة وتشكل بلسما لكثير من المشكلات النفسية والاجتماعية والتي يتخبط فيها العالم والبشرية، لكن تحتاج الى مجهود لنفض الغبار عنها وحسن تقديمها. و يعتبر احترام التنوع الثقافي والديني للشعوب امرا حتميا اذا اردنا تحقيق التعاون والتعايش بين شعوب العالم. فالتنوع الثقافي يساهم في غنى البشرية وازدهارها واستمرارها, اما التنميط و إلغاء الخصوصيات الثقافية والدينية ففيه استخفاف بالغني الحضاري للبشرية وتراثها الانساني المتنوع. وفي هذا السياق فإن التصور الاسلامي للمرأة ينبغي ان يوطر بالمنطلقات المنهجية الآتية. 1 - التمييز بين الاصول الشرعية الثابتة والاجتهادات المتغيرة: فقد تعرضت الآراء الفقهية المرتبطة بالمرأة الى كثير من المبالغات وسوء الفهم بسبب الظروف الاجتماعية والسياسية التي انتجت بعض الفتاوى، وكذلك وضع المرأة في عصور الانحطاط التي توقف فيها الاجتهاد وكثر التقليد وتخلف المسلمون فيها عن فهم رسالة الإسلام ودور الانسان في عمارة الارض. ان التصور الاسلامي للمرأة ينطلق من اصل المساواة ليس في الحقوق فقط, بل في ما هو أعمق من ذلك وهو أصل الوجود» »يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء» سورة النساء فالمساواة بين الرجال والنساء تعتبر اصلا من اصول النظر الاسلامي في قضية المرأة: فالرجل والمرأة في نصوص الشرع متساويان شقيقان لا يجوز معاملة احدهما بالتمييز او التفضيل او المحاباة. واهمية توضيح هذا المبدأ يظهر في أن مساواة الجنسين في مجال الأوامرو الاحكام لا يحتاج اثباته الى دليل لانه الاصل. والذي يحتاج الى البحث عن الدليل هو عدم المساواة وتخصيص النساء باحكام مميزة« وادلة هذا الاصل في الشريعة الاسلامية كثيرة منها: كون الرجل و المرأة متساويان في اصل الخلق والتكوين ومتساويان في المسؤولية والعمل والجزاء ومتساويان في الامربالمعروف والنهي عن المنكر والهجرة والجهاد والاستشهاد. ومنها ان النصوص الشرعية تجعل التفاضل بين المسلمين ذكورا وإناثا على اساس التقوى لا على أساس الجنس، ومنها ما أكده جمهور الاصوليين من ان خطاب الذكور في نصوص الشرع سواء ان بالمفرد المذكر او بالجمع المذكر يخاطب النساء والرجال معا دون اي تفريق او تمييز اذا وجدت قرينة مخصصة: ومنها قوله صلى الله عليه وسلم »إنما النساء شقائق الرجال« وهو تصريح وارد بصيغة العموم يقتضي ان الأصل في الشريعة الاسلامية مساواة النساء بالرجال. و يرى الشيخ الغزالي رحمه الله ان المساواة بين الرجل والمرأة هي الأصل وان الفروق بينهما استثناء. قال رحمه الله: »ان الذي يتدبر القرآن الكريم يحس المساواة العامة في الإنسانية بين الذكور والإناث. وانه إذا اعطى الرجل حقا أكثر فلقاء واجب أثقل لا لتفضيل طائش«. وبناء على ما سبق, فالمرأة كائن حر مخير ومستقل مسؤول ومحاسب في تبعات اختياراته، اذ من المعلوم انه »لم تزر وازرة وزر أخرى« و »ان ليس للإنسان الا ما سعى« ,وهكذا فالمرأة مستقلة في افعالها ومسؤولة عن اعمالها، ومن مظاهر الاستقلالية اتفاق جمهور فقهاء الاسلام على أن للمرأة كامل الحرية والاستقلالية في ادارة اموالها واستثمارها وسائر التصرفات دون أي سيطرة عليها في شيء من ذلك للرجل من قريب او زوج. وكل استثناء من هذا الأصل لا يكون الا بنص ولا يتوسع فيه الا بدليل، وهي استثناءات تتعلق في الغالب بالأسرة والعلاقة بين الزوجين«. ومن القضايا المثارة اليوم بخصوص المرأة قضية المساواة في الارث التي تتخذ كمثال لاطلاق دعوى عدم المساواة بين الجنسين. والحقيقة ان موضوع الإرث من القضايا التي ذكرت انصبتها ومقاديرها بتفصيل كبير في القرآن الكريم، واختص الحق سبحانه ببيان احكامها في القرآن الكريم في سورة النساء. ذلك ان هذا النظام يعطي للذكر مثل حظ الأنثيين في حالات محدودة جدا ومرتبطة بقواعد توزيع الإرث على العموم، وفي حالات كثيرة تأخذ المرأة مثل الرجل وفي حالات أخرى تأخذ أكثر منه. وباستقراء هذه الحالات يظهر الآتي: 1 - ان هناك اربع حالات فقط ترث المرأة نصف الرجل 2- ان اضعاف هذه الحالات ترث المرأة مثل الرجل 3 - هناك حالات كثيرة ترث المرأة اكثر من الرجل 4 - هناك حالات ترث المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال وبالمناسبة فهذا النقاش في حقيقة الأمر لا يعكس الاهتمامات الحقيقية للنساء ولا الأولويات المجتمعية لعدة اعتبارات، منها أن النقاش في أصله مغلوط ومبني على جهل أصحابه بنظام الإرث في شموليته، فالذي يحدد الأنصبة في الميراث كما قال بعض علماء الفرائض هو ثلاثة أمور. أولها: درجة القرابة بين الوارث ذكرا كان أو أنثى وبين المورث المتوفى: فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب في الميراث دونما اعتبار للجنس. وثانيها: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال. فالأجيال التي تستقبل الحياة وتستعد لتحمل أعبائها، عادة يكون نصيبها في الميرات أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة، وتتخفف من أعبائها، بل وتصبح أعباؤها - عادة - مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات. وثالثها: العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين. وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتا بين الذكر والأنثى. لكنه تفاوت لا يفضي إلى أي ظلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها، بل ربما كان العكس هو الصحيح. فإذا كان الدافع لإثارة هذا الموضوع هو الرغبة في تحسين أوضاع المرأة ورفع الظلم عنها، فالمشكل الحقيقي هو حرمان المرأة من الإرث في العديد من المجتمعات. والشريعة الإسلامية بما فيها أحكام الإرث ليست هي المسؤولة عن هذاالواقع، فالإسلام بتشريعاته المتعلقة بالمرأة والأسرة قد ضمن أحسن نظم الحماية الاجتماعية لأفراده، وتقوم فلسفة هذا التشريع على مركزية الأسرة القائمة على الزواج الشرعي و أهميتها في البناء النفسي والاجتماعي، إضافة إلى إقرار نظام التكافل والتضامن بين أفراد المجتمع، وفرض النفقة للمرأة والنفقة مدى الحياة عند بعض المذاهب الفقهية، فالمسؤول عن الأوضاع السلبية التي تعيشها فئات عريضة من النساء هو التخلف بمعناه الحضاري الذي تعاني منه كثير من بلدان العالم الإسلامي التي لم ترتفع بعد إلى مستوى قيم ومبادئ الإسلام. 2- المنطلق المنهجي الثاني هو التمييز بين واقع المرأة المسلمة والدين الإسلامي: إن معرفة موقع المرأة في المرجعية الإسلامية، سيمكنننا من التمييز بين النموذج المعياري والنموذج التاريخي. لقد عرفت أوضاع المرأةاختلالات كبرى عبر التاريخ، وتداخلت العادات الاجتماعية مع التطبيقات الدينية السليمة، مما يفرض إطلاق مسيرة البحث والاجتهاد العلمي والفقهي وتحرير فهم الدين وتطبيقه من أسر صور ونماذج التطبيقات غير السليمة. وهكذا ينبغي التمييز بين القيم الدينية الأساس والأحكام الشرعية التي تتضمنها النصوص الصحيحة الثابتة، وبين الصور التطبيقية التي أملتها ظروف البيئة المشبعة بالموروث الثقافي والمرتهنة لثقل العادات والتقاليد. فالنظم الاجتماعية نتيجة لتفاعل الإنسان مع بيئته ومحيطه، ومهمة التجديد و المجددين هي إحياء القيم الدينية الأساسية في بناء المجتمع السليم وتوجيهه وجهة الخير والصلاح. ومن العلماء الذين وهبوا فكرهم لهذه القضية الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ومن أقواله في هذا الصدد: »إن هناك تقاليد وضعها الناس ولم يضعها رب الناس، دحرجت الوضع الثقافي والاجتماعي للمرأة واستبقت في معاملتها ظلمات الجاهلية الأولى، وأبت إعمال التعاليم الإسلامية الجديدة، فكانت النتائج أن هبط سوق التربية ومال ميزان الأمة كلها مع التجهيل المتعمد للمرأة والانتقاص الشديد لحقوقها«. فقد استنكر الشيخ رحمه الله بأسلوبه المعهود تهميش المرأة فقال: »المرأة عندنا ليس لها دور ثقافي ولا سياسي، لا دخل لها في برامج التربية ولا نظم المجتمع، لا مكان لها في صحون المساجد ولا ميادين الجهاد، ذكر اسمها عيب، ورؤية وجهها حرام، وصوتها عورة ووظيفتها الأولى والأخيرة إعداد الطعام والفراش«. إن تفعيل التجديد والاجتهاد لن يتأتى إلا بتخليص التصور الإسلامي من التقليد والغلو والتشدد والمخلفات الفكرية السلبية التي تنشأ من سوء فهم الدين والخضوع للتقاليد الاجتماعية المكرسة للتمييز ضد المرأة. وهذا لا يعني إغفال الاستجابة للتطورات التي عرفتها الحياة الاجتماعية وما تعانيه المرأة في ظلها من صعوبات واشكالات بسبب توزع الأدوار والضغوط التي تعيشها المرأة جراء الحياة اليومية. فالمشكل الذي تعاني منه المرأة أساسا ليس هو الدين بل هو التخلف العام الذي أصاب الأمة، وأبعدها عن ارساء دعائم التنمية الحقيقية، التنمية بمفهومها الشمولي التي تستحضر الانسان وحاجاته المتعددة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فبقدر ما يرتفع منسوب التنمية السياسية والدمقرطة والتطور تتحسن وضعية النساء باعتبارهن المتضرر الأول من الاستبداد السياسي وضعف مؤشرات التنمية البشرية في مختلف المجالات. 3 - المنطلق الثالث: الأحكام المرتبطة بالمرأة تفسر في شموليتها ولا تؤخذ مجزأة: إن التشريع في قضايا المرأة والأسرة لا يمكن فهمه بشكل تجزيئي، فهو بنية متراصة ومنظومة متكاملة يكمل بعضها بعضا ويفسر بعضها البعض الآخر، إن الشريعة الإسلامية قائمة على أن الأحكام الشرعية لا تؤخذ بشكل تجزيئي بل تفهم في شموليتها وتكاملها. وتفسر في نطاق تشريع أسري متكامل يضمن التوازن النفسي والاجتماعي للانسان. تشريع اهتم بالانسان وسعى لإقرار استقراره وسعادته، فأحكام الإرث وأحكام الزواج والطلاق وأحكام النفقة وأحكام النسب والأحكام المنظمة للعلاقة بين الجنسين وغيرها من الأحكام المرتبطة بالأسرة وبالنظام العائلي هي أحكام تكون وحدة منسجمة تعبر عن فلسفة النظام العائلي, بل النظام الاجتماعي في الإسلام، ويقوم هذا النظام على عدة مبادئ وأسس منها رعاية التوازن بين الحقوق والواجبات وبين الحرية والمسؤولية، ويؤدي إلى تحقيق مقاصد الاجتماع البشري المتمثلة في ضمان التوازن النفسي والاستقرار الاجتماعي والسعادة المطلوبة. في الختام أؤكد أن الدين الإسلامي في مصادره الأصلية وتطبيقاته السليمة ليس فيه ما يشرع أو يدعو للانتقاص من المرأة أو للتمييز السلبي ضدها. بل بالعكس هناك تمييز ايجابي لصالح المرأة في كثير من القضايا، وبعض التدابير والأحكام المحدودة التي يجتزؤها البعض من سياقاتها المنظومية هي اجراءات وتدابير ينبغي أن تفهم في اطار تلك السياقات، وينبغي أن تفهم في سياق التغاير والتنوع الذي هو ثراء للبشرية وحق من حقوق الإنسان. *أستاذة باحثة ومهتمة بقضايا المرأة والحركة النسائية (عن كتاب نساء وديانات)