تعتبر الرواية الشفوية مصدرا خاما للكتابة التاريخية المعاصرة، ليس فقط على مستوى تجميع الجزئيات والتفاصيل الحدثية الضيقة، ولكن ? كذلك ? على مستوى القدرة على الإنصات لنبض التحولات العميقة التي يحبل بها المجتمع ويعبر عنها بصيغ متعددة لا تندرج ? بالضرورة ? في سياق أدوات اشتغال المؤرخ « المنهجي « ولا آفاقه الإجرائية في البحث وفي التنقيب وفي التحليل وفي التركيب. وإذا كان المؤرخ التقليدي قد حصر عمله في إطار الحدود الضيقة لسلطة المظان المدونة، فالمؤكد أن تطور مناهج البحث التاريخي المعاصرة، قد انتهت إلى إعادة استثمار رصيد الرواية الشفوية ومعطيات الواقع المباشر وتراث الإبداع الرمزي على المستوى السلوكي / الرمزي وعلى المستوى الذهني / المجرد، باعتبار ذلك مجالا خصبا للتأمل وللاستثمار، وخاصة بالنسبة للمهتمين برصد إبدالات عطاء ما أضحى يعرف يوم ب « تاريخ الحاضر « أو « التاريخ الآني «. وإذا كنا ? في هذا المقام ? لا ننوي العودة لإثارة النقاش العلمي حول سقف توظيف الرواية الشفوية في الكتابة التاريخية المتخصصة، وحول الضرورات المنهجية المرتبطة بشروط تدقيق النظر في مضامينها وفي سياقاتها وفي خلفياتها وفي مستويات مصداقيتها، فالمؤكد أن مؤرخ اليوم يمتلك عناصر عدته التشريحية الكفيلة بالاستجابة لضرورات هذا الأفق، بهدف تطويع مضامينه وتحويلها إلى أرضية ارتكازية لاستنطاق الكثير من المعطيات المنفلتة من بين ثنايا المتون التقليدية والتي لم يكن من السهل التوثيق لها ولا تحصينها من عوادي الإنسان والزمن. وتشكل حروب الريف التحريرية مجالا خصبا لمثل هذا النوع من النبش والاشتغال، لاعتبارات متعددة، أهمها تلك المرتبطة بالصورة الملحمية الجهادية النبيلة التي ارتبطت بها داخل الوعي الجماعي لمغاربة الأمس واليوم، وثانيها تلك التمثلات الجماعية التي ارتبطت بوقائعها التحررية وظلت تمارس سلطتها الرمزية والمرجعية لدى كل الفاعلين السياسيين داخل المغرب، بل ولدى قطاعات عريضة من الرأي العام الدولي ? وتحديدا بإسبانيا وبفرنسا ? وكذلك لدى مجمل تيارات الحركات التحررية العالمية بكل من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية على امتداد عقود القرن الماضي. لكل ذلك، فقد ظلت الروايات تتناسل، والدراسات المتخصصة تتكاثر، والرؤى التشخيصية تتجدد، والأعمال التركيبية تتكامل. وفي خضم كل ذلك، كان لابد من العودة لصيانة « الذاكرة الجماعية « قصد تحويلها إلى « ذاكرة تاريخية «، هي خلاصة العمل النسقي الذي يضطلع به المؤرخ في سياق اشتغاله على تلاوين هذا الموضوع، بعيدا عن الرؤى النوسطالجية الحالمة، وعن النزوعات العرقية الضيقة، وعن الأحكام الوظيفية الوطنية والاستعمارية الموجهة. ولعل هذا ما جعل مجال حروب الريف التحريرية يتحول إلى موضوع متجدد بامتياز، ظل يمارس سلطته وغوايته على أجيال ممتدة من الباحثين المعاصرين من داخل المغرب ومن خارجه. في سياق هذا التوجه العام، يندرج صدور كتاب « شهادات عن المقاومة في عهد الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي «، لمؤلفه المرحوم محمد الرايس، وبإعداد لعبد الحميد الرايس، وذلك في سنة 2011، ضمن منشورات تفرازن اءريف، في ما مجموعه 566 صفحة من الحجم الكبير. والكتاب يشكل ? في حدود علمنا المتواضع ? أبرز عمل تصنيفي مدقق لرصيد الرواية الشفوية المشتغلة على ذخائر ذاكرة رجال عايشوا ملاحم الثورة الريفية وارتبطوا بسيرة ملهمها محمد بن عبد الكريم الخطابي، وظلوا يحملون الكثير من التفاصيل ومن المعالم التي لا نجد لها ? في الكثير من الأحيان ? أي أثر داخل المدونات الكلاسيكية المتداولة، لاعتبارات متعددة ترتبط بخصوصيات صنعة كتابة التاريخ وبتطور منطلقات العمل داخل بنية هذه الكتابة. وتعود قوة العمل، إلى ارتكازه إلى شهادات لمجايلي الزعيم الخطابي، ارتبطوا به في مستويات مختلفة، إلى جانب أن المشرف على جمع الشهادات كان رجلا مدركا لأهمية فعل التوثيق لهذه الشهادات ولتدوينها ولتدقيقها حفظا لها من الضياع ومن التلاشي. وقد أبرز عبد الحميد الرايس، نجل المؤلف الذي أشرف على إعداد مضامين الكتاب وعلى نشرها، منطلقات هذا الأفق في التدوين وفي التوثيق في كلمة تقديمية مؤطرة جاء فيها : « طالما ردد والدي على مسامعنا أنه لو توفر لديه فائض مادي يغنيه عن العمل كمدرس في التعليم العمومي، لتفرغ للكتابة والتدوين في المجال التاريخي، ولسخر نفسه وكل وقته لتدوين الأحداث التاريخية التي شهدها الريف مروية على لسان أبنائه، لتصبح مادة خامة، وذاكرة حية مصانة من الضياع، ينهل منها الباحثون والمؤرخون المختصون. والسر في هذا الشغف في الكتابة لدى والدي حسب ما حكى شخصيا، يعود إلى عهد الصبا، حينما كان يتابع دراسته بالمدرسة العصرية التي استحدثها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي أثناء بداية حركة المقاومة، ففي إحدى زياراته التفقدية لمدرسة أجدير سمع منه كلمة بقي صداها يتردد على مسامعه طيلة حياته، حين قال لهم : « أوصيكم يا أبنائي بالقراءة والكتابة وعليكم أن تعودوا أنفسكم على ممارسة الكتابة وتدوين خواطركم ومشاهداتكم اليومية دونما إبطاء أو إجهاد في البحث عن الجمل المنمقة بل عبروا عن أحاسيسكم باللغة الريفية الأمازيغية أو العربية أو بخليط بينهما، فالمهم هو التعبير الصادق الأمين عن المشاعر، والأهم هو اكتساب ناصية الكتابة والتعود على ممارستها « ... « ( ص ص. 5 6 ). تتوزع مضامين الكتاب بين أربعة أبواب متراتبة، إلى جانب تقديم تمهيدي وملاحق بيبليوغرافية وأخرى خاصة بالصور وبالرسوم وبالوثائق. ففي الباب الأول، اهتم المؤلف ? أو المشرف على إعداد الكتاب ? بتقديم تفاصيل وافية عن شخصية محمد الرايس وعن نسبه وأصله وانتمائه الاجتماعي والقبلي ومراحل تنشئته التعليمية وأهم مشاهداته المرتبطة بفترة المقاومة واستسلام قيادة الثورة الريفية. وفي الباب الثاني، نجد سلسلة من الشهادات المحققة لعدد كبير من مجايلي زعيم الثورة الريفية، وهي الشهادات التي شكلت النواة الصلبة لمضامين الكتاب. وفي الباب الثالث، أدرج المؤلف شهادات موثقة خاصة بمحمادي الحاتمي الذي كان ينتمي للمحيط الضيق لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، وهي في شكل استجواب أجرته معه السلطات الفرنسية عقب نهاية المقاومة، ثم تقييد شخصي يتضمن إشارات تاريخية مرتبطة بتاريخ الكفاح الوطني بالريف. وفي الباب الرابع والأخير، أدرج المؤلف دراستين منفصلتين، أولهما ترتبط بممهدات المقاومة المسلحة على ضوء الشهادات والمعطيات التاريخية المتوفرة، وثانيهما تهتم بالبحث في حيثيات نهاية المقاومة المسلحة بالريف وظروف تبلور موقف استسلام القيادة الريفية. وبذلك، أضاف عبد الحميد الرايس قيمة مضافة لمجال حقل دراسات الثورة الريفية، استنادا إلى منطلقات علمية محترمة، تحسن الإنصات لمخزون « الذاكرة الجماعية «، وتمارس أقصى شروط الصرامة في انتقاء المضامين وفي تصنيفها وفي توفير شروط استغلالها علميا. إنها ? باختصار ? قراءة جماعية لجزء من ذاكرة الجهاد الوطني بالريف تعيد الاعتبار لقيمة عطاء الذوات الفاعلة وتعيد تقييم دوائر الفعل والمبادرة التي صنعت ألق الثورة الريفية، وذلك من وجهة نظر من كان يتحمل معاناة مدافعة جحافل الغزو الاستعماري الإسباني والفرنسي التي ضربت المنطقة خلال عشرينيات القرن 20. ولا شك أن الانكباب على تشريح هذه الشهادات المباشرة للفاعلين في الأحداث، ستساهم في توفير المادة الخامة الضرورية للمؤرخين وللمتخصصين من أجل توسيع الرؤى، ومن أجل تطوير القراءات العلمية الكفيلة بإعادة تحيين دروس الثورة الريفية من جهة، ومن أجل تطوير أشكال التعاطي مع سلطها المرجعية التي ظلت تؤطر حدود البحث في خباياها التحريرية من جهة ثانية.