على الرّبوة المطلة على أطلال مدينة الزهراء أنشدت أمّ يوسف بعفوية بعضا من أبيات القصيدة التي صاغها ابن زيدون، المتيم بحب ولادة بنت المستكفي، الأميرة الشاعرة وكانت قد هجرته لمدة طويلة: إني ذكرتُكِ بالزهراءِ مُشتاقا – والأفقُ طلقٌ ومرأى الأرضِ قد راقا وللنسيمِ اعتلالٌ في أصائلهِ – كأنه رَقَّ لي، فاعتلَّ إشْفاقا نلهو بما يستميلُ العينَ من زَهَر – جال النَّدى فيه، حتى مالَ أعناقا والروض عن مائه القصي مبتسم – كما شققت عن اللبان أطواقا. * * * * * ما إن توقفت عن الإلقاء حتى تدخل الآسفي ممازحا: «بوركت بنيتي … لكن من أين لك بكل هاته المعرفة بتاريخ الأندلس و شعرائه وحتى الأمكنة التي تبودلت فيها هاته الروائع …» أنت المسؤول الأول،يا والدي، تدخّلت آسيّة قائلة، فأنت من أهديتني و أنا بعدُ في المستوى الابتدائي عددا من كتب الشعر و التاريخ، و أصررت على إشهاد الجميع على ذلك بصياغة أبيات شعرية، تذكرني من خلالها بدور الكتاب في تربية النشء بل وحتى الدور الذي علي لعبه في المستقبل… حيث أنشدت: بنيتي بنيتي – رمز الأماني الغالية أهديك سفْرًا حاملا – لكلّ معنى زاهيّة لتمتطي بعد الصّبا – تلك المرامي العالية و تصبحين رمز اﻠﻜﻤ——ﺎل و الآمال الغالية * * * * * لاحظت ثريا، معقبة على إطناب الآسفي وهو يبدي إعجابه الخاص ببكره من البنات والبنين قائلةً: «تذكّر يا محمد بأن كل فتاة بأبيها معجبة و حسب… أما نحن الأمهات فلنا الله» انحنى الآسفي، مقبلاً جبين ثريا تعبيرا منهُ عن حبّ خاص، وطلب منها تذكيرا دقيقا لتاريخ المدينة، هي العاشقة للتعريف بكل المآثر إبّان الرّحلات الاستجماميّة . «مدينة الزهراء بناها الخليفة الأموي عبد الرحمن الثالث، حوالي 940م محاولا مماثلة قصور دمشق … بُدئ في بنائها سنة 325ه عند أقدام جبل العروس، واستمرّ زهاء 40 عامًا … تقع على بعد خمسة أميال إلى الشمال الغربي من قرطبة وسُميت بتحفة الدنيا لجمالها… قصر الخليفة، كان في وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، و كان إذا وقعت عليه الشمس سطعت جوانبه بأضواء ساحرة، و يصفه المؤرخ التلمساني في كتاب نفح الطيب بقوله : " لما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة، أجمع الناس على أنه لم يُبْنَ مثله في الإسلام البتة، فكان فيه السطح الممرد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب ما بين مرمر مسنون وذهب موضون وعُمَد كأنما أفرغت في قوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، و حياض وتماثيل عجيبة لأشخاص لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها. كانت مياهها جارية بنظام دقيق، شوارعها مضيئة، ولياليها خالدة، تتشارك مع الشقيقة الكبرى قرطبة في 70 مكتبة، وأكثر من 400 ألف كتاب من نوادر الكتب ذهب منها ما ذهب ليكون أساسًا لحضارة الغرب . لم يدم ازدهارها إلا حوالي ثمانين سنة فحسب، ثم هجرها أهلها خلال ثورة الأمازيغ … وانطمرت و لم يُعَد اكتشافها إلا سنة 1911م"… كانت ثريا حريصة على ترسيخ التقليد، فقد دأبت خلال أسفارها داخل و خارج الوطن على تعريف مرافقيها بتاريخ و جغرافية المناطق المزارة وهو تقليد ورثه عنها واسطة عقدها أبو بثينة. "ما نحن إلا عرب… نبني ونهدّم من أجل نزواتنا… دون أيّ حساب… أو استراتيجية … هو موروث عربي تاريخي إذن … حتما سنكتشف المزيد في رحلتنا هاته…" لاحظ الآسفي بغير كثير من النّرفزة… كان الجو حارَّا و قد انتصف النهار، نزعت سامية بعفوية قميصها غير منتبهة لعلامات البلوغ التي ظهرت على جسدها، و على صدرها أساسا فمعالم ثديين جميلين كانت قد ظهرت. حين نبهتها أمها بطرفي عينيها، بادرت أم يوسف بضمّها كعادتها مع جميع الشابات المراهقات وبتأثر بالغ أسرت لها : كنت أتمنى أن أقتسم و إياك هاته اللحظات الجميلة حيث يُصرّ جسد الفتاة على التوقيع على اجتياز مرحلة الطفولة فالمراهقة ثم البلوغ، وأنت تعلمين جيدا سر علاقتنا الخاصة ومدى تعلقي بك، أنت التي عرفت كيف تُدْخلين الفرحة على قلبي، وأنت تزينين فراشي بتلك الورود الجميلة إحياءً لآخر عيد ميلاد لي بينكم …» تأخرت حافلات النقل، وضجر الآسفي…، لقد كان المنظّمون قد اهتدوا إلى استعمال حافلات لنقل الزوار من و إلى مستودع السيارات حتّى باب مدينة الزهراء، ذهابا وإيّابا، تفاديا للازدحامات، ولجعل السيّاح يتعرفون على بعضهم البعض وهم في طريقهم إلى تلك المآثر … «عليك بالصبر… آ الآسفي وْ باراكا من النڭير» قالتها ثريا و هي تضع قطعة قماش مبلل على رأس الشيخ، الذي انتفض وأزالها بسرعة فهو على كل حال حريص على أناقته … خصوصا و هو في قلب الأندلس الجميلة … كان الآسفي متشوقا للوصول إلى أزقة قرطبة الضيقة والظليلة… وتقاسم لحظات ممتعة على جنبات الوادي الكبير … حيث سار ابن ميمون وابن رشد منظرين لفلسفة تآخي الديانات هناك حيث نشآ وعرفت كتاباتهم الانتشار أولا، ثم على الصعيد العالمي بعد ذلك، وهو ما جعل الأفكار الظلامية المنتشرة منذ خلق الديانات وعبر جميع العصور، تحاربهم مقيمة محاكمات فكريّة داعية إلى إحراق كل تلك المؤلفات ظنا منها أنّ الأفكار النّيّرة تنتهي بتحويل ما خُطّ منها إلى رماد …