“التفكير في الزمن يفترض تصنيفه، تنظيمه، وتسميته وتأريخه” جاك أطالي، “ضروب تاريخ الزمن”، ص 32. 4 -الذاكرة والهوية والزمن يمكن أن تُعَدّ الذاكرة “منطقا”، بهذه العبارة وصف هولبفاكس الذاكرة الجماعية، مبررا هذا الوصف، بأن عملية التذكر تنطلق من مقدمات، وتصل إلى نتائج. وهذا “المنطق” الذي تحدث عنه الباحث السوسيولوجي الفرنسي، يظهر جليا في تدبير الذات/ الذاكرة للزمن. يحفل كتاب “سطات” لشعيب حليفي بإشارات متعددة إلى الزمن، وكلها تشي بخطورة هذا العامل في تشكيل الهوية الفردية والجماعية. فللزمن عند الكاتب “ألسنة”، وهو يشعر بقوته الضاغطة والمكرهة أحيانا. يقول: “هل كنا سنكون، كما الآن، لو عاد بنا الزمن إلى الوراء… أو تقدم إلى الأمام بضربة جزافية؟ هذا الزمن الذي نحياه هو بقايا شيء يشبه الدهر، نسبح فيه بالقوة، ونسميه دون إحساس بالذنب، الزمن، لأنه يختار من أتباعه من يهدم قلاعنا فيحولنا إلى أسرى ورهائن وعبيد وسبايا” (115ص). هذا الزمن “هو المنتصر الوحيد في كل المعارك” (ص117). مقابل هذا السلطان الذي يمارسه الزمن، يعود الكاتب إلى ذاته، ليعيد تشكيل زمنها في اليومي الذي اكتسبته من “ذاكرتها المحلية”: “ولدت وترعرعت في مدينة صغيرة على أطراف حقول ودواوير تولد مرة واحدة كل صباح وتموت مرات في المساء”، الزمن يتكرر والذات تنتصب في وجهه معلنة أنها مستمرة فيه، رغما عنه، لأنها تولد كل يوم. يزاوج الكاتب بين ضميري المتكلم الجمع والمفرد للسباحة في اتجاه الأصل، بحثا عن “الأنا” المستمرة عبر التاريخ، وعبر الزمن نفسه، يقول الكاتب: “نحن صورة تتكرر، فأنا من فاوض الرومان وهاجر إلى الشرق لاستعادة إرث الأنبياء، وكلامهم غير المدون وعبرت إلى فينيقيا ومنها سافرت في سفن عليسا إلى قرطاج أكتب سيرتها الهاربة. أنا من جادلت يوبا الثاني واختلفت معه، ولبست سلهام بطليموس لأموت بديلا عنه، ثم انخرطت محاربا في الصفوف الأولى مع ميسرة، ثم انشققت ملتمسا طريقي فكتبت كتاب صالح البورغواطي الذي عدوه مصحفا…” (ص). الذاكرة هي صانعة الزمن، وعندما تبحث عن الحكاية، فإنها تشكله في قرون، أو في سنوات، أو في شهور، أو حتى في لحظات… وحدها الذاكرة تصنعُ كثافة الزمن. يقدم الكاتب حكاية “الأصول”: مملكة تامزغا، البورغواطيون… مختصرةً قرونا، تحكم الحكاية الزمن، فتقطعه بالأزمنة الطويلة؛ لأن هذا الزمن نفسه غامض “ومع بروز الإمارة البورغواطية (القرن الثاني ه) وخلال أربعة قرون غامضة حتى الآن سياسيا ودينيا وأثريا”، “كيف أن الشاوية استمرت مدة قرنين كاملين في حروب متواصلة” (ص 20). يخضع الزمن الذي وسمه الكاتب بأنه ” عدونا المشترك على مدار التاريخ” (ص 64)، لإعادة تنظيم بواسطة “التذكر”. وبما أن الكاتب اختار في الجزء الأول “سطات” ذاكرة، فإن “الذاكرة الجماعية” تمتد في قرون، إنها ذاكرة طويلة والزمن فيها غير ذي أهمية، إلا بما يوفره من مادة للفكر. تغدو الذاكرة أكبر من التاريخ ، أو أنها تلدُه، بعبارة بول فاين “التاريخ ابن الذاكرة”. وقد وقف السوسيولوجي موريس هولبفاكس على هذه السمة، حين قال: “إن الزمن غير ذي أهمية إلا بمقدور ما يكون ذا محتوى، أعني بمقدار ما يوفره من مادة للفكر” . يمثل الفصل الثاني في كتاب “سطات”، الذي يحمل عنوان “من الثورة الانتفاضة”، نموذجا لإعادة ترتيب الزمن؛ فإذا كان الكاتب، في الفصل الأول، يعتمد تفصيل “القرون”، فإنه سيلجأ إلى مقياس زمني آخر يعتمد مقياس السنوات. يتحدد هذا الزمن ببداية القرن العشرين، أي مرحلة استعمار المغرب، وتظهر فيه السنوات صُوى للذاكرة: -1903: ممارسة الضغط على الفلاحين وانتفاضتهم. (ص23) -1904: إعطاء المخزن المغربي الحق للفرنسيين في الإشراف على الجمارك. (ص23) -1906: مؤتمر الجزيرة الخضراء/ احتلال وجدة. (ص23) تمثل هذه السلاسل الزمنية، بمقياس السنوات، مقدمة للحدث أو الأحداث المتذكرة، تستدل الذاكرة بها، لإبراز دور قبائل الشاوية في المقاومة (مقاومة الاستعمار الحديث)، وهنا سيلجأ الكاتب إلى ترتيب كرونولوجي للزمن، مبئرا الدور الريادي لمقاومة أهل الشاوية، يتضمن المقياس الزمني “الجديد” في التذكر اليوم والشهر والسنة، ونمثل له بما يلي: -الأحد 28 يوليوز 1907/ الاثنين 29 يوليوز 1907/الثلاثاء 30 يوليوز1907/ الأربعاء 31 يوليوز 1907… (ص 24 وما بعدها). يصبح الزمن محكوما باليوم، وهي تقنية توظف غالبا في كتابة “اليوميات”، وتوحي بالدّقة من جهة، ومن جهة أخرى، بإعطاء مصداقية للحدث المتذكر، لأنها تقوم بتثبيته. وسنركز، في نقاشنا لتوظيف هذه التقنية في التذكر، على جوانبها الاستدلالية. يوظف زمن اليوم لإيراد “كرونولوجيا الأحداث”؛ الحدث متسلسل، والزمن يرتبه مجهريا بمقياس “اليوم”، بل إن الكاتب يلجأ إلى تبئير أحداث اليوم، بمقياس أكثر دقة، وهو ما يسوغ تفسيرنا لعمل الذاكرة التي توفر “مادة للفكر”، ومن أمثلة هذا، تقسيمه لأحداث يوم الثلاثاء 30 يوليوز 1907، ففي عرضه لأحداث هذا اليوم يوظف ما يلي: “الساعة 11:00 صباحا، عشية نفس اليوم، وفي نفس اليوم” (ص 24/25). يتعزز هذا التقسيم الزمني، بالإضافة إلى ترتيبه وتقسيمه، بالأرقام (قتل تسع عمال أجانب، 66 بحارا فرنسيا من القتلة، الجنرال درود رفقة 300 جندي…)، والإحصائيات (في تلك اللحظة لا يتجاوز-يقصد سكان الدارالبيضاء- 30 ألف نسمة، ما بين 6000 و1500 قتيل استشهدوا…)، والتسميات (بو بكر بوزيد، محمد بن العربي، أسماء القبائل،الجنرال داماد، الفقيهان السطاتيان البجاج وابن عزوز…)، والوثائق (رسالة أعيان الشاوية إلى أولاد بوزرك بتاريخ 23 يوليوز 1907). نخلص، في تحليلنا الجزئي لعلاقة الزمن بالذاكرة والهوية، إلى أن الكاتب يعيد ترتيب الزمن وتقسيمه وتسميته وتأريخه، وهو غير منفصل عن مقصديات التذكر: “لم تكن ثورات رجالات الشاوية حدثا عابرا، ولا شيئا مفصولا عن كل حركات التحرر الإنساني، لأنها رسمت لنا ثلاثة ملامح في حياتنا، وهي التأكيد على هوية المقاومة والجهاد، والرغبة الفطرية في التحرر، ثم التوسع المستمر لمسارب الأمل رغم كل المآزق الصعبة”.(ص 19). يبني الكاتب صُوى زمنية للتذكر، ثم يعلن تمرده عليها، يشهر “الخيال” في وجه الزمن، وحده الخيالُ يرجع الحياة إلى التاريخ، لأنه يبحث في التفاصيل: “في التفاصيل، الزمن هو المساحة الأرحب لكل الأفراح والأحزان، لكل الأكاذيب التي تتلاشى، وما تبقى منها، يتحول إلى حقائق لا بدائل لها. أما الخيال، ورغم ما يعتريه من نقصان، فهو الوحيد الذي يعبث بجبروت الزمن” (ص 67) يفتح الكاتب بابا آخر للذاكرة، هو باب الخيال، فيظهر أمامنا إشكالٌ سببه الزمن نفسه، ولن تسعفنا مساحة هذه الدراسة إلا لإثارة أسئلة، سنحاول الإجابة عنها فيما تبقى منها. يفصل بول ريكور بين ما ينتمي إلى الخيال وما ينتمي إلى الذاكرة، بناء على قاعدة ظاهرية، إذ يرى “أن الفكرة الرئيسية هنا هي وجود اختلاف نستطيع أن نقول إنه جوهري بين استهدافين قصديين: أحدهما يتمثل بقصدية الخيال التي تتجه نحو الوهمي، القصصي، وغير الواقعي، والممكن، واليوتوبي، والأخرى: قصدية تتجه نحو الحقيقة السابقة، أو الواقع السابق، وتؤلف القبلية السمة الزمنية بامتياز “للشيء المتذكر” أو “للمتذكِر” بوصفه كذلك”. يبني ريكور فصله بين الذاكرة والخيال على القصدية، غير أن التعمق في تأمل الصور التي تنقلها الذاكرة يجعل هذا الفصل مستحيلا من الناحية العملية ، فالذاكرة لا تكف عن التخيل لأنها تستحضر صورا ماضية، لهذا نفضل ما ذهب إليه باشلار بأن دراسة الصورة تقتضي “عدم تحطيم التضامن القائم بين الذاكرة والخيال” . إن الفصل بين أجزاء الزمن في الذاكرة، وإن خضع لأقصى أشكال الترتيب، يظلّ عدوا قاهرا، فالذكريات الناقصة تحكي، من دون توقف، لتخترع الحياة. وتأسيسا على ما سبق، سندرس عنصرا أساسيا في كتاب “سطات”، وهو توظيف الكاتب لتقنية “البورتريه” في بناء شخصيات الذاكرة وأماكنها، ودور هذه التقنية في صناعة “بلاغة الذاكرة”. 5 – البورتريه في بلاغة الذاكرة على الرغم من أن الذاكرة تُعد جزءا مهما من الخطابة القديمة، فإن مصنف الخطابة لأرسطو لم يولِها أهمية كبرى، بالنظر إلى باقي أجزاء الخطاب الأخرى، لاسيما الإيجاد والترتيب والسرد، لكنّ الإغريق في العصور القديمة جعلوا “الذاكرة إلهة… أوصت البشر بتذكر الأبطال ومآثرهم، واحتفت بالشعر الغنائي. الشاعر مسكون بالذاكرة… إنه الشاهد الملهم على الزمن “السالف”، وعلى العصر البطولي، وهو فضلا عن ذاك، شاهد على حقبة الأصول” . وتشكل عملية إعادة بناء الصور قاسما مشتركا بين الذاكرة والخيال، نورد هذا مع التأكيد على إشكالات هذه العلاقة التي أشرنا إليها سابقا، فهذه العلاقة مركزية في بناء تمثيلات الذاكرة الجمعية، لاسيما عندما تصبح الذاكرة رهانا لنقل صورة مورس عليها التشويه أو النسيان. ويبرز هذا النص العلاقة بين الذاكرة والتخييل، انطلاقا من الأصل الإيتيمولوجي للكلميتن: “أطلق اللاتين اسم memoria على الذاكرة عندما تحافظ على إدراكات الحواس، واسم استذكار reminescentia عندما تعيدها. لكنهم كانوا يدللون على الملكة التي نشكل بها صورا، يسميها الإغريق phantasia، ونسميها imaginativa، فما نطلق عليه بفجاجة كلمة imaginer [تَصَوَّر] يقولها اللاتين memorare [استذكر]. ويقول الإغريق في أساطيرهم إن ربات الإلهام [muses]، وهن من خصال التخيل، هن بنات الذاكرة” . وسنركز دراستنا البلاغية لخطاب الذاكرة في كتاب “سطات” في تقنية “البورتريه”، أولا- لترددها كثيرا في بناء الخطاب، وثانيا -لأن هذه التقنية تمثل نموذجا للعلاقة التي تجمع البلاغة بالتخصصات الخارجة عنها ، وثالثا- لارتباط هذه التقنية بالبعد الاستدلالي للتذكر؛ إذ إنها تقترن بالإيجاد (التركيز على الشخص، بوصفه حجة)، وبالسرد حيث يحتاج الكاتب إلى رسم ما يريد الرفع من قيمته، أو العكس. 5-1: بورتريهات القضاة يورد شعيب حليفي “بورتريهات” لعدد من القضاة الذين مرّوا من منطقة الشاوية، وذلك في سياق حواره مع صديقه “صالح الوراقي” الذي فقد الثقة في قيمة العدل، بعدما تعرضت ملفاته، أمام المحكمة بسطات، للتماطل، مما جعله يحس بالظلم. يقول الكاتب: “إن كنت أسوق هذه الأسماء، فللإشارة فقط دون التفصيل والتحقيق، وتوضيحا لصديقي صالح الوراقي الذي ارتاب وشك” (ص40). أ-ابن بطوطة أول القضاة: يستند الكاتب إلى رسالةٍ للسان الدين بن الخطيب، للاستدلال على تولي ابن بطوطة القضاء بتامسنا، مشيرا إلى أنها “المرجع الوحيد” الذي يثبت أنه تولى هذه المهمة. ويعيد بناء صورة “ابن بطوطة” الرّحالة، ليكشف عن تجربته الكبيرة التي اكتسبها طيلة ربع قرن من الزمن، من خلال رحلاته، والمناصب التي تولاها في عدد من مناطق العالم، قبل أن يكون “أول القضاة المعروفين بالشاوية”. ومن خلال هذه المعلومات، يستنتج أن هذا التعيين له دلالة تاريخية وثقافية كبرى، لأن قيمة هذه الشخصية التاريخية في تقلّد هذا المنصب، تدل على الرغبة في إرساء قواعد العدل في منطقة “تجمع الأمازيغ والعرب الوافدين قديما أو بعد فترات لاحقة” (ص37). عمد الكاتب إلى الوصف الإيتوبي، وهو الذي يركز على المقومات الخلقية للشخص التي تعكسها: التجربة، والخبرة، وسعة الثقافة، وإدراك التنوع، بما يحمله من دلالات التعايش. وهو، بهذه الأوصاف، يستدل على أن غياب العدل بالمنطقة حاضرا، راجع إلى أن القضاء أصبح مختصرا في مهامَّ إدارية، ولا تأخذ بعين الاعتبار الصفات التي يتمتع بها القاضي ، والتي يعكسها “نموذج” ابن بطوطة. ب-باقي القضاة: يذكر الكاتب أسماء بعض القضاة في المنطقة، قبل ابن بطوطة. وهذا الاستدراك يفيد أن الترتيب الذي وضعه الكاتب يخضع لتقنية التبئير، لأنه يعرف مكانة ابن بطوطة في الذاكرة الجمعية. ويستند، في إيراد أسماء القضاة الآخرين، إلى مراجع تاريخية متنوعة، ونورد من بين الأسماء الكثيرة التي أشار إليها الكاتب: محمد بن عمر بلقاسم الشاوي، أبو البقاء يعيش بن الرغاي، محمد بن عبد الرحمان، أبو الشتاء…(ص37 وما بعدها). أورد الكاتب أسماء هذه الشخصيات التي تولت مهمة القضاء في الشاوية، مقترنة بأوصاف متعددة منها: العالِم، الفقيه، العالم القدوة، الكبير العلم الشهير، الكاتب الأديب، من خيرة علماء، الشيخ، العالم المتصوف…. ومن خلال هذه الأوصاف، والمعلومات المقتضبة التي تبرز سعة علم هؤلاء القضاة، أو نزاهة أفعالهم، أو غزارة كتاباتهم، يبني الكاتب “صورة جمعية” للقضاء وأهميته، وقيمه. ويخاطب، من خلال هذه “النماذج”، صديقه “صالح الوراقي” الشاهد على انحدار هذه القيم، والقارئ أيضا. يقول الكاتب في نهاية هذا الفصل: “إن جرد تاريخ القضاة بالشاوية وعلمائها وفقهائها عمل يستحق العناء، وفي حاجة إلى تنقيب أكاديمي متكامل، لأن القارئ سيشعر بالأمان والامتنان والطمأنينة، لا الخوف والغم” (ص40). يظهر “عمل الذاكرة” منظما في البورتريهات السابقة الذكر، وهو، وإن خضع لتشكيل خطابي متنوع، يتوحد في إيلاء القيم أهمية اجتماعية كبرى. والقيمة المتجسدة هنا، هي قيمة العدل التي تتجاوز حدود الشخص. فهي قيمة مجرّدة تجسد استمرار الهوية، لأنها تفيد استمرارية الإنسان. وبهذا، تنضاف هذه القيمة إلى قيم، سعى الكاتب إلى إعلائها كقيمة “الميل المتقد إلى الحرية” التي شكلت وجدان سكان الشاوية. وهو بهذا، يراكم دفاعه عن القيم التي ترسخت عبر قرون في هذه المنطقة، والتي يأسف على اندحارها. 5-2: بورتريهات من الذاكرة الشعبية يكرر الكاتب في مؤلفه كله التأكيد على ارتباطه الوجداني بالمنطقة التي ينتمي إليها، ويبرز أن ذاكرته الفردية موسومة بمتخيلها الجمعي، وبناسها البسطاء، فيقرن الأنا بالمدينة والأهل والتاريخ والبسطاء، إذ يقول: “وأنا أحبّ هذه المدينة [سطات] مثلما أحب أهلها وتاريخها الذي يأسرني… أبطالها من البسطاء الذين يتحولون إلى ملاحم وأساطير وأغاني (منها أسماء أختار منها ما أتذكره من السنوات السابقة)، وقد غابت وبقيت نسيا موشوما على الريح…” ص51 وإذا كانت ذاكرة حكاية البدء قد شدّت الكاتب إلى الأصول، فإن ذاكرة المعيش ستدفعه إلى رصد حياة البسطاء، ومنهم متسكعون وفلاحون وحكواتيون وجوالون وحرفيون… هؤلاء الذين تأويهم الذاكرة، وتحفظ لهم مكانة خاصة. أ-شعيبا الرّاي من الأسماء التي اختارها الكاتب من ذاكرته “شْعيْبا الرّاي”، يمثل تعيين الاسم دلالة في “البورتريه”، لأنه يحقق الحضور لدى المتلقي، غير أن هذا الحضور الذي يبعث “الموتى”، يقتضي استحضار أحداث وأوصاف تعضدّ الغاية من البورتريه. وهنا تعمد الذاكرة إلى الانتقاء، وتعزيز سرد الأحداث بالسياقات، والشهادات؛ ففي بورتريه “شعيبا الراي” تظهر البروسبوغرافيا (الوصف الفيزيائي للشخص): شيخوخة تحمل ماضي البسالة، جسده النحيل، قامته المتوسطة التي تحمل قسمات وجه بطولي…؛ يقدم البورتريه صورة لفعل الزمن في الإنسان الذي يتحول من القوة إلى الضعف، ومن البطولة إلى العجز، ومن المركز إلى الهامش… ثم يربط هذا الفعل بالذاكرة وفعل النسيان الذي يطوي الشخوص والأماكن (كل حديث حميمي بهذه المدينة ينطلق من الماضي والنسيان…) ص 51. يعمد الكاتب إلى الانتقال من تذكر الشخص إلى تذكر المكان موظفا تبوغرافيا تشهد على المسخ (الكورس، السوق القديم، المحطة القديمة، المارشي، السويقة، الحديقة، البوسطة…)، تشهد هذه الأماكن على ذاكرة تعرضت للمصادرة، بفعل انتزاع الملكيات، أو بفعل الهدم… يمزج الكاتب بين انتهاك المكان، وانتهاء زمن البطولات، فحكاية “شعيبا الراي” بطولة هدرها الزمن، وكذلك فعل مع كثيرين من البسطاء من الناس. ب-جمايكا: يعمد الكاتب إلى الوصف الفيزيولوجي: سمي جمايكا لسواد لونه، وشعره الراستا بشكل طبيعي. ثم يصوغ حكايته منذ كان طفلا صغيرا خجولا (مستندا إلى ما قاله عنه أحد رواد المقهي)، إلى أن تحول من “متعلم” لصنعة الخياطة إلى “معلم” يرتمي في أحضان النساء والمخدرات، وينتهي به المطاف إلى استعطاف الناس في الشوارع. إن الشخصيات التي يوردها الكاتب تذكّرنا بشخصية المتسكع التي شغلت فكر فالتر بيامين، فهي شخصية تنطوي على الماضي والحاضر بشكل عميق، يسوق الشارع المتسكع إلى زمن متلاش…وعلى الأسفلت الذي يدوس عليه، توقظ خطواته رنينا مفاجئا. يعبر الكاتب من حكاية “جمايكا” إلى اللامتناهي، إلى تفاصيل وجوه الناس البسطاء الذين “يمشون في الأسواق”، تحديدا “السوق القديم”، فيستنفر حواسه مجتمعة لتذكر الروائح والسحنات، والأصوات… تشتغل الذاكرة بالحواس متضافرة، لتبعث الصورة حية: عمر العيار، أكلة الأفاعي، الصاروخ، بائع السكلة، ولد البلدي، الربيب…تفجر الحواس الصورة، لتصنع “حكاية الناس البسطاء” الذي يصبحون أهلا للتذكر. هذه البورتريهات تصريف “للزمن الرائع” مقابل الزمن الحالي، “فالقاصّ، إذ يظهر على الغالب حنينه إلى ماض مرسوم بألوان “الزمن القديم الرائع”، على ضرب من نقد لمجتمعه الحالي، يمكنه أن يشي بالمقتضى الكامن تحت التغيرات بالنسبة للمستقبل… وهذه الذاكرة التي تحمل بنية ممكنة للمستقبل تكون دائما لهذا السبب نفسه، ذاكرة حية”. والذاكرة الحية لا يمكن أن تكون كذلك إلا بفضل حارسها الوحيد “الخيال”. 5-3: بورتريه “بويا” يمثل فصل “بويا…آخر الفرسان” الفصل الأول في الجزء المعنون بكلمات، ويبتدئه الكاتب بكلمة “الإحساس”؛ وهي الكلمة التي تختزل منطق كتابة الفصل الذي تتكسر فيه علاقة ذات/موضوع الشهيرة. يرسم شعيب حليفي بورتريها مختلفا ينطلق من الداخل، تمتزج فيه مشاعر الفقد والحنين والفخر. يحضر “بويا” حقيقة أبدية يمتنع الكاتب عن توظيف كلمة “مات” في تقديم بويا، يخصص فقرتين لتقديم حياته: تبدأ الأولى كالتالي: “عاش بويا، محمد بن عبد السلام، المزداد حوالي 1994….”، ويردفها بالثانية: “عاش، منذ ولادته في أكثر من مسار إلى غاية الساعة الثالثة، سادس عشر فبراير، ألفان وإحدى عشر. وهذه حقيقة أبدية”. تبدو الطريقة التي كتب بها شعيب حليفي هذا المقطع وما بعده طاعنة في الروح الهوميرية، فالعلاقة التي تجمعه بموضوعه تدفعه إلى ركوب أداة أدبية لإقامة علاقة مستحيلة في الواقع، وهذه العلاقة توضح “قوة الذين فارقوا الحياة، لكنهم ما فتئوا ماكثين داخل الخيال والذاكرة”. يوضح إروين رود هذه الأرواح الهوميرية التي تكون انعكاسا لما كانت عليه في الماضي، بقوله: “تصبح [الروح] المتحررة الآن من أسرها “صورة”، وهو الاسم الذي يعبر عنها خير تعبير. على حدود الجحيم، يرى أوديسيوس “صور الذين كدوا واجتهدو على الأرض” وهي تطفو. إن هذه الصور اللامادية تحرر نفسها من قبضة الأحياء. كالدخان أو الظل… تقدم الخطوط العريضة للشخص الذي كان حيا من قبل”. تنتصب ذاكرة الحداد واضحة، لتربط الموت بالحياة، تستدل الذاكرة بالأرواح الهوميرية، وتخاطب “صورة بويا”، يقول الكاتب: “هل نسي أنه –ولسبع وتسعين عاما-ظل شامخا فوق التراب. والآن حان موعده ليعود شامخا تحت التراب ويستريح. تراب الشاوية الذي ساحت دماء السلالة فوقه دفاعا، نأكل منه ونحيا، ونمشي عليه حفاة للإحساس بأننا ننمو مثل القمح والشعير، ولما نموت، نؤول إليه عراة لنستعيد نفس الشعور”(ص81). يقترن “الشموخ” الذي تجسده شخصية “بويا” بشعور الذات المتذكرة بالفخر، فصورة “بويا” تشكلت من خلال سياقها الاجتماعي، فهي ليست ملكا للابن فقط، ولكن “محمد بن عبد السلام، أب لجيل كامل من البسطاء والفلاحين والرجال، وصديق معلم حكيم…”، وهذه الصورة التي وسم بها “بويا” المخيلة الجمعية، تبني صورة الذات المتذكرة “هل تسمعني… أنا فخور بك بويا”. هذه الذات المتذكرة التي تحس بالفخر، سرعان ما تعود إلى ذاكرة الحداد، فالفقد كبير والإحساس به يشعر بالضعف أمام الموت. “بويا الحنين، وحده الموت لم أستطع التفاوض معه. أسبوع إلى جوارك عجزت عن إقناعه بالعدول عن مراوغتك وتركك بجوارنا عقودا أخرى” (ص 83). يُشهر الكاتب نموذج “بويا” الذي بنته الذاكرة الجماعية لمواجهة الموت، يتحول “بويا” من قيمة محسوسة إلى قيم مجردة: الحكمة والتضحية والحرية و البساطة والصداقة. استطاع الموت أن يسلب الذات المتذكرة “بويا” المحسوس، ولكنه لا يستطيع أن يسلبه “بويا” المجرد، والمتجسد في الذاكرة الفردية والجماعية. ولأن الذاكرة تعمل جاهدة على الحفاظ على صورة “بويا” حية، فإن ثبات الصورة يعجز عن تمثيل “بويا” كما تتصوره الذات. يلجأ الكاتب إلى الربط بين الصور. فإذا كان فصل “بويا…آخر الفرسان” قد رسم النموذج الذي يمثله “بويا”، فإن عنوان “بويا” يرد في الفصل الثاني من دون أن يسند إليه أي صفة، فالموصوف يغني عن الصفة، وهو وسيلة من إضفاء الصفة على الوجود؛ أي “بويا” الذي يعرفه الجميع بهذه الصفة، كما هو مكرس في ذاكرة الجماعة. يبدأ الكاتب بعنوان فرعي دال “شريط وثائقي”، والشريط سلسلة من الصور، دينامية تبعث الصورة حية، وفي هذه الصور ينفخ الكاتب الروح في حياة “بويا”، ويتوسل بالسرد ليعيد سيرة “محمد بن عبد السلام”: “بويا الأمين الذي يعشق الأرض والحياة”، “عرف الرعي، مثل كل الأنبياء ثم التجارة”، “يعيش محنا كبرى مع الحياة، بشرف المحاربين”، “يعود دون أن تكتمل الحرب…برؤية أخرى لخوض الحياة مقاوما وفلاحا دون أن ينتظر بطاقة أو اعترافا من أحد”… تتسلسل الصور في بورتريه متحرك يرصد حياة، تكاد تتجاوز المساحة الزمنية التي عاشتها، فتعلو بقيمها عن الزمن. فالزمن ظالم، و”بويا” حرّر نفسه من كل ظلم أو قيود، وتجسد ذلك القيم التي عاش بها ومن أجلها وجوده، وينساب السرد إلى تفاصيل حياة “بويا” الأمين، علاقاته مع فلاحي الشاوية، عاداته، وصداقاته، حكمته ونبوءاته التي تعلمها بالصراع مع طواحين الزمن، ونقلها إلى جماعته التي جعلته في مكانة رفيعة من ذاكرتها. أشرنا سابقا إلى أن “البورتريه” من التقنيات البلاغية التي تحقق الحضور، وهو في النماذج التي انتقيناها من كتاب “سطات” لشعيب حليفي، يتضافر مع الذاكرة والسرد، ليبني عوالم الوجود الإنساني، ممتدة بين الماضي والحاضر والمستقبل، ولا سبيل لإعطائها معنى الاستمرارية إلا بتداخل كل الأزمنة، فالسرد يمنح الذاكرة سطحا، وبالمقابل تمنح الذاكرة السرد عمقا وهوية. 6 – خلاصات يمكن أن نصنف كتاب “سطات” لشعب حليفي ضمن “الكتابات عن الذات”؛ مستعيرين تصور المفكر جورج غيسدورف الذي يرجع إليه الفضل في تكريس هذه التسمية. ويرى غيسدوف، مستلهما الاتجاه الفلسفي لجورج ميش، أن الكتابة عن الذات انخراط في الوجود الإنساني، لا ينفصل فيه الوعي الفردي عن الوعي الجماعي. وإذا ما افترضنا أن الكتابة عن الذات، هي بناء للهوية عبر الزمن؛ فالذاكرة هي المنفذ الوحيد الذي يجعل الإنسان قادرا على الأمل في امتلاك ماضيه ومستقبله. غير أن تنسيب الذاكرة إلى الفرد لم يعد ممكنا، منذ أعلن هولبفاكس أن الإنسان لا يمكن أن يتذكر إلا من خلال الأطر الاجتماعية للذاكرة. ويكشف ما درسناه في كتاب “سطات” عن هذا الارتباط الوثيق بين انتماء الكاتب إلى بقعة في هذا العالم، وحنينه إلى العودة إلى هذا الوطن من خلال ذاكرته الطويلة التي تمتد قرونا، والتي تعرضت إلى “التجاهل” أو “التشويه” من لدن المؤرخين. ويصبح واجب الذات في البحث عن هويتها مقرونا بعمل الذاكرة. عاد حليفي إلى حكاية البدء، وقد فضلنا وصفها بالحكاية، تفاديا للتمثل السلبي للتسمية التي يوظفها دارسو الذاكرة “أسطورة البدء”؛ لأن هذه الأخيرة تؤسس لوجود “أصل ثابت”، ومن ثمة لحقٍّ ثابت. فكيف يمكن أن نقيّم تصور الكاتب للعودة إلى هذه الهوية الأصل؟ شبّه ديدرو ثبات الهوية المحكومة بالتغير التدريجي والدائم بسرب من النحل، فسرب النحل يظل الكيان نفسه لأن أجزاءه لا تتبدل كلها مرة واحدة. وفي كتاب “سطات” نقف على عمل الذاكرة من أجل بناء هذه الأجزاء من تاريخ مهدور جمعته الذاكرة من قرون، ومن تاريخ لا يزال حاضرا قاسته بالسنوات والأيام، ومن تاريخ اجتماعي يتفاعل فيه الإنسان مع قيم تجذرت في وجوده عبر الزمن، ومن تاريخ شخصي شاهد على الانخراط والاستمرارية. يؤرخ الكاتب “لمصير الأزل بالشاوية”، ويبحث في “الألواح الضائعة لتامسنا”، ومن كل هذا، يبرز القيم التي رسخها الزمن في وجود الإنسان؛ وهي بحثه الدائم عن الحرية، ورفضه للظلم. يغوص حليفي في “التفاصيل، لتعود الحياة إلى خيال التاريخ”، ويبئر قيم “التعايش” و”المقاومة” و”الحلم”… وينتزعها من دورة الزمن الساخنة، لتصبح وجها للمستقبل. تعمل الذاكرة على تحدي طغيان الزمن عبر تمثيل القيم التي تكتنزها الصور المنقولة من الماضي، وفي الجزء الثاني من كتاب “سطات” تبني الذاكرة صورة “بويا” النموذج الشاوي الذي يحمل القيم الإنسانية والوطنية في طبيعته، محافظا على استمرارية الوجود في ذاكرة الجماعة المحلية. يمثل “بويا” جسر الوصل بين الذات المتذكرة وبين جماعتها وتاريخها وأرضها ووطنها ووجودها الإنساني. ليست الذاكرة وسيلة لبناء الهوية فقط، بل هي قدَر وخزان ومفتاح. يقول الكاتب: “قدر الإنسان أن يعيش بالذاكرة، خزّان كل شيء. وكلما امتلأنا نجد فرصا كثيرة لنحيا بما تختزنه، وبمفاتيحها، نفسر ما لا نجد له تفسيرا”. (ص 77) لقد اعتاد الناس، على حد تعبير روبرت هاريسون، على قول “إننا نولد من أبوين بيولوجيين بوصفنا بشرا”، ولكنهم يغفلون أننا “بوصفنا بشرا نولد من الموتى”: “من الإقليم الذي يعيشون فيه، واللغات التي تسكنهم، والعوالم التي خلقوها، والمواريث المؤسسية والقانونية والثقافية والسيكولوجية المتعددة التي تربطهم، من خلالنا، بمن لم يولدوا بعد”.