لا يختلف اثنان حول وجود كيانات غير مرئية في الكون والطبيعة والإنسان، مما يجعل من المنطقي أن توجد فضاءات غير مرئية هي الأخرى لاحتضان تلك الكيانات، كونية كانت أو طبيعية أو إنسانية أو غيرها. ومن الأدلة العلمية الملموسة على وجود تلك العوالم، عالم الأثير، الذي نقيسه، ونضبط موجاته، ونتعرف بواسطة أجهزة الدفع والاستقبال على مكوناته. ومن بين تلك المكونات، المشاهد والصور الثابتة والمتحركة التي تبثها أجهزة التلفاز والحواسيب وغيرها من الآليات الإلكترونية والرقمية، بما فيها أجهزة «الهولوغرام» للبث الرقمي، التي ترسل صورًا بثلاثة أبعاد تتميز بكونها مثيلة إلى حد التطابق مع أصولها الحية.
تختلف نظرة العلماء إلى العوالم غير المرئية وغير الملموسة، فتتعدّد تبعاً لذلك منطلقاتُهم العلمية وأساليبهم في البحث والفهم والممارسة، برغم كون الأمر متعلّقاً بنفس الظاهرة: «وجود عالم أو عوالم موازية لعالمنا الفيزيقي الخاضع لسلطة حواسّنا ووعينا وشعورنا». ويمكن أخذ فكرة عن المنطلقات العلمية المختلفة ونظرياتها بهذا الخصوص من خلال الإطلالة التالية: 1/ علم النفس التحليلي: يعبّر العالم الفرنسي في الفيزياء والتحليل النفسي «باتريك دروو» (PATRICK DROUOT) عن فهمه للعلاقة القائمة بين «العوالم الأخرى» والسّبل المتبعة للوصول إليها بقوله: «إنّ ما يهمّنا ليس المكان الذي نتجه صوبه، وإنما الطريق التي نعتمدها للوصول إليه». ويضيف حول وسائل تحصيل القدرة على القيام بذلك النوع من الأسفار قائلاً: «وإذا كان هناك مَنْ في وسعه أن يعلّمك كيف تقوم بذلك السفر فإنما هو أنت نفسك» . إن العالِم هنا يقطع بأمرين جازميْن ينمّان عن قناعته الشخصية بشأن هذا الموضوع هما: إن الطرق المتبعة في السفر إلى خارج العالم المادّي المنظور، هي التي يتحدد على ضوئها نوع السفر وغايته ونهايته. فوسيلة السفر هنا ليست هيّنةً ولا قابلةً للتغيير اعتباطًا، لأن ذلك من شأنه أن يغيّر الوجهة والنتيجة. معنى هذا، أنّ مقولة «كل الطرق تؤدّي إلى روما» أو إلى غيرها، لا يكون في هذا الموضوع بالذات ذا أيّ معنى. ولكي نأخذ مثالاً بسيطاً يقرّبنا من فهم هذا المعطى الأوّل، نتطرّق إلى العلاقة بين الصلاة وحركاتها والغاية منها، مادام الأمر هنا أيضاً ذا علاقة بشأن غير منظور أو غيبيّ هو الاتصال بالخالق عزّ وجل والاستمداد من نوره. إنّ حركات الصلاة معلومة ومحسوبة: الوقوف، والركوع، والوقوف ثانية، والسجود، والجلوس، والسجود ثانية، ثم جلوس الاستراحة، وهذه سبع حركات. إن هذا العدد ليس وليد الصدفة؛ فالآيات التي لا تقوم الصلاة إلاّ بها (سورة الفاتحة) عددها هي الأخرى سبع، كما أن النقط التي يتصل المصلّي من خلالها بالأرض أثناء السجود سبع، هي: القدمان، الركبتان، الراحتان والجبهة، مع العلم بأنّ السجود هو الوسيلة المباشرة للاتصال المباشر بالحق عز وجل أثناء الصلاة، حيث يسأله المصلّي من غير واسطة. إنّ كون هذه الحركات محسوبة، وكذلك الكَلِم الأساسيّ المنطوق أثناءها (آيات الفاتحة)، ونقط الالتقاء بالأرض في لحظة الاتصال العموديّ للمصلي بمعبوده سبحانه، يجعل أيّ تغيير أو تحريف في هذه، كُلاًّ أو بعضاً، بمثابة تغيير لوسيلة الصّلاة، وبالتالي، فإن الاتصال المنشود ينقطع ولا يعود متاحاً. إن هذا معناه، أيضاً، أنّ العالِم الذي نحن بصدده قد فطن إلى سرّ حركات الجسد والعقل وقواهما، وإلى قدرتهما من خلال هذه الحركات والقوى على تيسير إصابة أيّ هدف خارج نطاق الوعي والشعور. إنّ أفضل وأمثل معلّم يمكن أن يلقّن المرء مبادئ الاتصال خارج العالم المنظور والملموس هو المرء نفسه، من خلال عقله وفكره وجسده وحركاته واعتقاده الذي يبني عليه حركاته وسكناته العقلية والجسدية، لأن إدراك هذه الأمور جميعها لا يتيسّر إلاّ له هو نفسه بالعلم أولا ثم بالتجربة الذاتية. إنّ هذا عظيم القيمة هو الآخر، لأنّه يخلّصنا من ذلك الاعتقاد السائد بأن الشيخ أو المعلم ضرورة لا غنى عنها في هذا المضمار. والحال أنّ «باتريك دروو» قد لا يكون واعياً بما قد يُشكِّله وجود الشيخ أو المعلِّم أو المرشد في هذا الميدان من خطورة على مسار السالك، وإنما يلغي وجوده لاعتقاده بأن الممارس أو المسافر يتعامل، فقط، مع عوالم موجودة في كيان العقل نفسه، بمعنى أنه يرى بأنّ وجود شيخ، أو مرشد، من شأنه أن يكون شيئاً غريباً ودخيلاً بين المرء وعقله. غير أنّ هذا الرأي، سواء كان واعياً بالخطورة التي قد يمثلها المعلمّ أوْ غيرَ واعٍ بها، فإنّه يتّفق ورأي علم الباطن كما سنرى لاحقاً، حيث يرى هذا الأخير بأنّ الشيخ يكون مهيمناً على عقل المريد وقوى عقله وموجّهاً لهذه القوى حيث يعتقد هو ذاته (أي الشيخ) بأنّه الاتجاه الصائب، فإذا كان اعتقاده هذا خاطئاً، فإنّ العاقبة تكون وخيمة عليه بكل تأكيد، ولكنها تكون كذلك على المريد من غير ذنب أو إرادة. سوف يقول بعض القرّاء إنّ هذا المنظور مخالف تمام المخالفة لما يسود في عالم التصوّف، حيث لا يجوز ولا يمكن أن يسلك المريد سبل الطريقة إلاّ بمساعدة الشيخ وعونه وتأييده وعنايته ورعايته…إلخ، ولكن الحقيقة تخالف هذا التوجّه، والحقيقة صريحة وفصيحة في النّص الديني وفي السيرة النبوية الشريفة، وهي تؤكّد، بمختلف أساليب التعبير، على أن الإنسان رهين بما تكسبه يداه هو ذاته، وبأنّه، داخل الوعي وخارجه، قد هداه الله تعالى السبيليْن (النور والظلمات، والخير والشر، والصلاح والفساد …إلخ) وبالتالي فكل منّا مؤهَّل ومزوَّد بما يجب ويلزم ويكفي للقيام بسفره في الحياة، ظاهرها وباطنها، متى كان مطّلعاً على ما يلزمه من المعلومات والمعطيات حول السفر ووجهته ووسائل القيام به. بيد أنّه إذا كان وجود المعلّم ضرورياً في البدء لتحصيل هذه المعارف، فإنّه ليس ضروريًا أثناء ممارسة السفر والسير فيه إلى نهاياته. إنّ هذا لن يعجِب الشيوخ والمرشدين لأنّه يحدّ من سلطاتهم فيقصرها على جانب التعليم والتلقين فحسب، ولكنه أقرب إلى ما ينبغي فهمه والاعتقاد به بناءً على النص الديني من جهة، وعلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبار خلفائه وصحابته وآثار السلف الصالح من التابعين من بعد هؤلاء، قبل ظهور الطرائق والفرق المتعدّدة والمختلفة، والتي صار كل منها يدّعي امتلاك الحقيقة، ويدّعي النجاة والخلاص دون غيره، فتفرق المسلمون شِيَعًا من جراء ذلك.