في إطار الدرس الافتتاحي لمختبر علوم اللغة والخطاب والدراسات الثقافية، التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة، ألقى الخبير اللساني الدولي عبد القادر الفاسي الفهري محاضرة تحت عنوان «اللغة العربية العصرية في الدولة العصرية»، يوم الجمعة 21/12/2018 بمدرج مركز الدكتوراه ندرج هنا أهم ما جاء فيها. في افتتاحها لهذا اللقاء الهام، قدمت الدكتورة نعيمة الواجيدي ضيف المختبر باعتباره خبيرا دوليا يحظى بشهرة عالمية، وباحترام علماء اللغة الذين عبر كثير منهم عن إعجابه بأعماله المتميزة، وعلى رأسهم عالم اللغة الأمريكي نعوم تشومسكي، مضيفة أنه تقلد مجموعة من المناصب من بينها منصب رئيس مؤسس لجمعية اللسانيات بالمغرب، ومدير معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بين سنوات 1994 – 2005، ومدير مؤسس لمجلة أبحاث لسانية ونشرة التعريب بين 1994-2005، بالإضافة إلى مشاركته في عدد كبير من مشاريع البحث العلمي، قبل أن تختم تدخلها باعتبار استضافته تشريفا للمختبر ولكلية الآداب ولمدينة الجديدة. بدوره عبر عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة الدكتور حسن قرنفل عن سعادته باستضافة هذه الهامة الفكرية التي قال إنه وجد نفسه في وضعية صعبة وهو يهم بتقديمها، لأنه لا يمكن أن يوفيها حقها لما تتمتع به من خصال علمية يصعب حصرها، ولما يميزها من مواقف راسخة ابتعدت بها عن نطاق أكاديميي البروج العاجية، وجعلتها حاضرة بقوة في صلب النقاش الدائر حول القضايا المتعلقة باللغة العربية ومكانتها وسبل تطويرها، متخذة لها منهجا علميا ينأى عن النظرة التقديسية للغة. وعلى شاكلة التدخلين السابقين عبرت رئيسة مختبر اللغة والخطاب والدراسات الثقافية الدكتورة لطيفة الأزرق عن سعادتها باستضافة هذا الخبير، وبما كان لها ولزملائها من دور في إقامة هذا النشاط الافتتاحي الذي اعتبرت عنوانه موضوع انشغال النخبة المثقفة، وقضية وطنية سياسية تطرح إشكال الهوية الثقافية وإشكال مستقبل التعليم وإشكالات أخرى متعددة. وفي مستهل كلمته أكد الخبير اللساني الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري أن اللغة العربية هي لغة حضارة كبرى، ولغة تمدن، ولغة تحظى برمزية كبيرة عند العرب والمسلمين لما لها من تراث متأصل عريق، وهي حسب موقع المنظمة الفرنكفونية من ضمن اللغات الخمس العالمية، مضيفا أنها لغة جميع المغاربة الذين قال إنه ما رأى أحدا منهم إلا هو ناطق بها في ما سماه نوعاتها الثلاث: الدارجة والوسيطة والفصيحة، محذرا في ذات السياق من تلويث البيئة اللغوية والثقافية للمغاربة والعرب عموما بغوغائية الخطاب الإيديولوجي والخطاب الخرافي الأسطوري الذي يرتد إلى عصر الجاهلية. في إطار الحديث عن إيديولوجية اللغة، أشار الفاسي الفهري إلى وجود مجموعة من الأوهام والخرافات والأساطير التي تنسج حول اللغة، دون أن يكون لها سند علمي، من ذلك اعتبار اللغة الفرنسية لغة العقل، والإسبانية لغة الإدارة، والإيطالية لغة الموسيقى والحب، والفارسية لغة الشيطان، مدخلا بهذا الصدد الآراء التي تعتبر اللغة العربية لغة الجنة، قبل أن يؤكد أن العلمية تقتضي ألا نأخذ بهذه الأفكار، لأن اللغات بالنسبة للساني هي موضوع بحث ووصف، وهي في مرتبة واحدة، دون أن يعني ذلك أنها متساوية فيما يتعلق بالمستوى الاجتماعي أو الاقتصادي، لأن لكل لغة رمزيتها وعدد متكلميها، معتبرا كل حديث من هذا القبيل يعد كذلك ضربا من الميتولوجيا، لأنه لا يمكن أن نساوي لغة يتكلمها 500 مليون بلغة يتكلمها 5 آلاف شخص. وفي سياق الحديث عن الأغاليط الإيديولوجية أشار الباحث الفاسي الفهري إلى تدليس الفرنكفونيين وخلطهم المقصود بين اللغة العربية الكلاسيكية واللغة العربية الحديثة التي نحتها العرب مع بداية نهضتهم، مشيرا أنها اللغة التي كتب بها رواد الفكر النهضوي أمثال رفاعة الطهطاوي ولطفي السيد وطه حسين، ولتأكيد طرحه جاء بمجموعة من المفاهيم التي لم تكن متداولة من قبل، وظهرت فقط مع اللغة العصرية من قبيل: الخوصصة، الخصخصة، العقوبات الذكية، دول الطوق، الحرب الباردة، جماعات الضغط، وفَنَّدَ الباحث ما سماها خرافة ادعاء موت اللغة العربية عن طريق السؤال الإنكاري قائلا: «هل هناك لغة ميتة تنبعث من هذا الكم الهائل من القنوات؟». إلى جانب ذلك أشار المحاضر إلى نوع آخر من الخرافات التي يدعي أصحابها أن اللغة العربية دخيلة على المغاربة، وأن اللغة الأصل هي اللغة الدارجة، وضرب مثالا على ذلك بمقال صحفي ادعى صاحبه بدون حشمة أو خجل، حسب توصيف المحاضر، أن عبد الله كنون وهو يتحدث عن «النبوغ المغربي» تحدث عن الدارجة باعتبارها خصوصية مغربية، مع أن هذا الكاتب بريء من هذا، وهو الذي قضى عمره يُساجِل «جورج كولان» حول عدم صلاحية الدارجة لأن تكون في التعليم أو غيره، ولتصحيح لهذه المغالطة الخرافية أشار الباحث أن اللغة العربية ليست لغة وطنية، وإنما هي لغة تدخل ضمن اللغات المتعددة المراكز ( المغرب الجزائر تونس…)، داعيا الحضور إلى التجند لمحاربة هذه الخرافات خدمة للوطن ولأبناء هذا الوطن الذين يقتضي الواجب إبعادهم عن الجهالة. وفي إطار معالجة قضية ثنائية العامية والفصحى، شدد الباحث على غياب العلمية والدقة في تحديد المفهوم، مشيرا إلى أن وصف «فصيح» لا يسري على بعض المواضيع مثل الفيزياء، مقترحا استعمال مفهوم اللغة المعيارية لأنها مُقَعَّدَة وخاضعة للمعايير (حينما نقول الفاعل يُرفع، فهذا معيار أو قاعدة)، قبل أن يشير إلى أن هذه الازدواجية غير صالحة، ولا يمكن أن نتحدث عنها إلا في أوساط المستعربين، واقترح كبديل لها الأخذ بمفهوم «النَّوْعَة» التي قال إن هناك سبعا منها، ومن بينها كما أشار إلى ذلك من قبل، العامية والوسيطة والفصيحة، وأكد أن المغاربة لا يتحدثون بالعامية، بل بعدة نوعات من اللغة، لأن العامية لا يمكن أن تعبر عن المفاهيم الحديثة، فمفاهيم مثل التمدن، اقتصاد الريع، التنابز السياسي، العمران، الهندسة لا يمكن التعبير عنها بالعامية. وفي سياق الحديث عن السياسة اللغوية بالمغرب أشار الباحث إلى ما تتعرض له اللغة العربية من إهمال ضرب أمثلة له بتفكيك أكاديمية اللغة العربية وعدم وجود ممثل واحد للغة العربية في المجلس الأعلى للتعليم، وفي مجلس حقوق الإنسان، مشيرا في الوقت نفسه إلى النقاش الدائر حول «إدخال العامية إلى التعليم»، معتبرا أن هناك سوء فهم لمفهوم «اللغة الأم» التي قال إن المقصود بها هو اللغة الوطنية الرسمية (اللغة العربية)، وليس العامية التي لا تصلح في نظره لأن تكون لغة تدريس، لأنها ليست موحدة، بل هي عاميات كثيرة، وأشار إلى بعض الكلمات التي أثار إدخالها إلى المقررات الدراسية جدلا كبيرا مثل البغرير، وغريبة، وكعب غزال، معتبرا ذلك خطأ كبيرا، لأن اللغة الشفاهية حينما تُكتب تصبح معيارية، وتحتاج حينها إلى تفصيح، وهو الأمر المُفْتَقَد في المغرب بسبب غياب سلطة لغوية مرجعية تستطيع القيام بهذا العمل. وللخروج من مأزق الإشكاليات المرتبطة باللغة، قال المحاضر إنه اقترح على الدولة تبني نموذج ثلاثي للغات: اللغة الوطنية الرسمية، غلاف النوعات المحلية، اللغة الأجنبية التي شدد على وجوب أن تكون اللغة الإنجليزية لأنها اللغة العصرية للمدار الثقافي والعلمي، أما الفرنسية فقد فقدت مرجعيتها في عقر دارها، ولم يعد أحد يتكلم بها في الأوساط العلمية الفرنسية، ولكنها تُصَدَّرُ عن طريق الفرنكفونية إلى الدول المتخلفة. وفي ختام تدخله دعا الباحث إلى ضرورة استرجاع الأكاديميين زمام المبادرة في الدفاع عن لغتهم، ليس فقط لأنها جزء من الكرامة، ولكن خدمة للعلم والمعرفة، ولإخراج الإنسان من دائرة الجهالة.