لم يكن يتم نسخ، أو تجليد، أو توزيع سيناريو أي فيلم من أفلام ساتياجيت راي أبدا. بل كان راي يحتفظ بالسيناريو بالقرب من صدره عندما يقرؤه بصوت عال على الممثلين ليلقنهم مفهومه. ويتضمن السيناريو أكثر بكثير من الحوار وتدوين ملاحظات العمل والموقع، وتوجد فيه رسومات، وملاحظات، وأفكار موسيقية، ووصف مسهب من شأنه أن يستحضر أفكاره الأصلية، والعلاقات، والوجوه، والأماكن طوال فترة التصوير والمونتاج. فعلى سبيل المثال، توجد ملاحظة في سيناريو فيلم «غير المهزوم» يتساءل فيها راي: «أين تحفظ ساراباجايا مالها؟». بصورة متزايدة على مر السنين، طور راي عمله ليطال الكثير من أقسام صناعة الأفلام. إنه، بالطبع، يكتب السيناريوهات الخاصة به دائما، وفي بعض الأحيان، القصص الخاصة به كذلك. إنه لم يستطع حتى أن يحلم مجرد حلم بأن يقدم فيلما كتب السيناريو له شخص آخر. حتى في أيام فيلم «أغنية الطريق»، كنت أراه يقف وراء المونتير الذي يعمل على آلة المونتاج السينمائي (الموفيولا)، يمضع منديله حتى يحوله الى قطع صغيرة وهو يشاهد الصورة، ويصرخ «اِقطع !» بشكل حاد وكأنه يخيف الناس في الحجرة المجاورة. وفي بعض الاحيان، يطرح عليه المونتير اقتراحات خلاقة، فيقبل بعضها بإثارة طفولية، ويرفض البعض الآخر بوجه كالح. لكن مسألة ترك القطع والحذف للمونتير، كما هي الحال غالبا في الغرب، والموافقة عليه في وقت لاحق وإجراء تغييرات عامة بناء على ردود فعل الناس الآخرين لم تكن واردة بالنسبة لراي، فكل خطوة صغيرة في عملية صناعة الفيلم كانت بالنسبة لراي، عملا حميميا له أهمية كبيرة وهو الوحيد الذي يستطيع التعامل معه على عكس ما يحدث في هوليود تماما، التي يفترض العديد من الناس أنها كانت مرشدة وملهمة له في العمل السينمائي، وكان هو نفسه يعبترها كذلك جزئيا. وعلي النقيض مع هذا، هناك أسلوب سيدني لوميت على الرغم من نجاحه البارز، فيما يتعلق بشباك التذاكر، فإن لوميت في بعض الأحيان فشل في الحصول على إشادة النقاد، فقد ادعى البعض أن موهبته كانت «تفسيرية» وليست شخصية. اتهمه هؤلاء النقاد قائلين «إنه لم يكن صانع أفلام» ويسخر منهم لوميت، وعيناه تلمعان من وراء نظاراته ذات الإطار داكن اللون، قائلا: «السينما بالنسبة لي شكل من أشكال الفن الذي يتطلب أداء جماعيا مشتركا، وليست عملا يقوم به فرد واحد»، فهو يعترف باعتماده على طاقم الممثلين وفريق العمل بشكل لا يقل عن العوامل التي لا يمكن التنبؤ بها، حتى الطقس. يقول: «أعتقد أن سحر العمل السينمائي يكمن في جماعيته». وفي الواقع، في صورة أخذت في مؤتمر يتعلق بسيناريو فيلم لوميت «أمير المدينة»، أحصيت 22 شخصا يجلسون حول طاولة مربعة لمناقشة هذا الموضوع. هذا الأمر أيضا له علاقة بالتكلفة المادية، التي لا يستطيع أي صانع أفلام صادق في العالم الثالث أن يتباهى بها، كان غالبا ما يقال إن تحفة من تحف راي يمكن إنجازها بجزء بسيط من الميزانية المخصصة للنقل في فيلم باللغة الهندية أو التاميلية السائدة، وقيل إن فيلم غاندي للمخرج أتينبورو كلف 20 مليون دولار، فقال راي معلقا على ذلك إنه كان يستطيع أن يقدم الفيلم نفسه بأقل من خمسة ملايين روبية هندية ما يعادل في ذلك الوقت أقل من أربعمئة ألف دولار أمريكي. يخوض معظم صانعي الأفلام في تفاصيل إخراج الافلام ربما بقدر أكبر من التفصيل مما يفعل راي. فلم يصنع راي بروفة على الحوار قبل التصوير كما يفعل البعض، لأن الحوار في أفلامه يؤدي دورا يختلف كثيرا عن المسرح، ويشكل بذلك جزءا عضويا في الوسط الاجتماعي مما يجعل التدريب عليه داخل غرفة لا معنى له. ومن ناحية الممثلين، لا سيما الممثلين غير المحترفين، فهو يملي كل زاوية لوضع الرأس وكل حركة صغيرة، ويتأكد من أن الإيماءات ذات مغزى إنساني. ومع الأطفال، يجلس راي على ركبتيه ويهمس في آذانهم وكأنه يتآمر على شيء ما. في محاولة منه للحصول على توافق دقيق قدر الإمكان، مع ترك المتبقي (وهو كثير) لعفوية الطفل. أما مع الممثلين المحترفين، فيترك الكثير للفهم الصامت، ولكن يملي راي عليهم الأوضاع والتحركات في كثير من الأحيان بوضوح تام. في وقت مبكر جدا من مسيرته المهنية، وبعد «غير المهزوم» مباشرة، كان راي يعطي توجيهات لتشابي بيسواس في فيلم «غرفة الموسيقى». كان الممثل الشهير يثير الرعب والخوف في نفوس معظم المخرجين الآخرين الذين ، في الواقع، غالبا ما يوجههم هو. وعندما عمل مع راي. أذهل الجميع حين كان يأتي مرتديا كامل ملابس الدور ويسأل: «سيد راي، أين يجب أن أقف»، ويخبره راي، ويبين له متى يربت على معدته المنتفخة ومتى ينظر في المرآة. كانت الشخصية الطبيعية للممثل مهمة بالنسبة لراي، ليس فقط في حالة الممثل غير المحترف، ولكن ذلك ينسحب على الممثل المحترف كذلك. لابد للممثل، في واقع الحياة، أن يعكس بعض الصفات الأساسية المطلوب إبرازها في الشخصية التي يجسدها. من خلال نظرة راي للأمور، كان التمثيل بصفة مخالفة لطبيعة الممثل في الواقع أمرا غير مقبول. في فيلم «الحملة»، مثلا، وضع لحية على سوميترا تشارترجي وجعله يؤدي دور رجل من طبقة اجتماعية مختلفة تماما عن الممثل نفسه، إلا أن الاساس التأملي لطبيعته لم يتغير. كان الانحراف الذي تقبله غير مألوف في أعمال راي، فقد وضع الكثير من سمات الطبقة المتوسطة لشخصية تنتمي إلى طبقة عمالية ليكون النجاح كاملا. تعد صناعة الأفلام في البنغال صغيرة، وعدد الممثلين والممثلات الأكفاء المتوافرين ضئيلا، مما يجعل الإصرار على طاقم تمثيل طبيعي يواجه بقيود شديدة لذلك، لم يأت كلام راي من فراغ عندما قال في أكثر من مناسبة إنه يحسد بيرجمان، الذي يمكن أن يدعو أي ممثلة من عيار ليف أولمان لأداء دور في فيلم «مشاهد من حياة زوجية» من خارج شركته المساهمة. يترك ممثلو وممثلات راي تقريبا الانطباع نفسه عن أنفسهم في واقع الحياة كما يفعلون على الشاشة. فعلى سبيل المثال، يحمل كل من سوميترا تشاترجي، ودريتيمان تشاترجي (في «الخصم») أو براديب موخرجي (في «الوسيط») بصمات جلية عن التوجه الفكري للعقل، والطبيعة التأملية التي يتمتعون بها. والشخصيات التي يؤدونها على الشاشة تشبههم كثيرا. هذا الأمر يقلل من الفجوة بين الممثل المحترف وغير المحترف، باستثناء بعض الطلاقة والنظرة الثاقبة في العمل التي يكسبتها الممثل المحترف من خلال التجربة. أشار راي نفسه إلى أنه من السهل عليه في اللغة البنغالية أن يمثل شخصيا المشاهد لتوجيه الممثلين، وهذا ما لم يستطع أن يفعله في فيلم «لاعبا الشطرنج» لأنه كان باللغة الأردية، ومن ثم كان عليه أن يعتمد على ممثلين محترفين من ذوي المواهب المعروفة. إن قدرا كبيرا من التمثيل اليوم مهتم بالترويج لفكرة ما وإثارة العواطف، وهو نوع من التعمق أكثر فأكثر في اللحظة الراهنة. فالكثير مما يسمى الاحترافية في التمثيل يتكون من هذا الانتزاع لآخر قطرة من العاطفة من أي موقف، كما لو أن التمثيل سيكون أروع كلما أجهش الممثل أو الممثلة بالبكاء الحار أكثر وأكثر أمام الجمهور. فكلما حدث المزيد من هذا، ابتعد الممثل أكثر فأكثر عن المكان والزمان المحيطين بحدث ما وأوجه التشابه مع غيره من الأحداث التي تجعله فريدا. هذه النظرة للتمثيل تستدعي تركيزا هائلا على اللحظة الراهنة، كما لو أنها ستستمر إلى الأبد. يحاول هذا التوجه أن يخلق شعورا بديمومة الحياة وليس آنيتها عند الجمهور. وهذا بالضبط نوع التمثيل الذي يحرص راي على تجنبه. فقد كان معنيا أكثر بكيفية جعل شخصياته تتأمل في أفعالها حتى بعد ان ينتهوا منها، ومن ثم تبنى الشعور التأملي في أسلوب التمثيل. كانت القرارات دائما لراي بالكامل فيما يتعلق بمواضع الكاميرا، واختيار الزوايا والعدسات. وغالبا ما كان راي يلوم المصور ويطلب منه أن يقلل من الضوء عند نقطة معينة لأنها كانت ساطعة أكثر مما ينبغي، وأحيانا يكون ذلك ضد رغبة المصور. وفي كثير من الأحيان أصبح المستحيل ممكنا نتيجة إصراره على أن يتعلم المصور أن يفعل ما قيل له. طور راي، مع سوبراتا ميترا، اضاءة ارتدادية لمحاكاة الإضاءة في وضح النهار في المشاهد الداخلية، الأمر الذي يجعل المشاهد تبدو طبيعية ويؤدي إلى سرعة في أخذ اللقطات لأنه يساعد على تجنب تغييرات أساسية في الاضاءة مع كل تغيير لوضع الكاميرا. كما أن ذلك يعمل على إعطاء استمرارية بسيطة، ولكنها فعالة لنوعية الضوء، وإظهار وجوه الممثلين بشكل ناعم ودون ظل. ومن بعد «تشارولاتا»، بدأ راي يشغل الكاميرا بنفسه أكثر فأكثر، فكان عليه أن يكون متأكدا، مما كان يحدث أمام العدسة من خلال النظر فيها أثناء التصوير. هذا من شأنه في بعض الأحيان أن يؤدي إلى خطأ طفيف في العملية يجب تفاديه في المونتاج، أو حتى السماح به، إذا كان المؤثر الرئيس مضبوطا، ومع ذلك، يتعين على المرء أن يعترف بأنه من ناحية التصوير، فإن أفلامه لم تكتسب أبدا الجودة التي قدمها له سوبراتا ميترا في معظم افلامه حتى «البطل» (1966). وتجدر الإشارة إلى أن راي يفضل عدسة 40 ملم لأنها تماثل رؤية الانسان العادي إلى حد كبير، وكان يميل الى تجنب اللقطات بالغة القرب والزوايا الواسعة جدا، حيث تمثل له كلتاهما نوع من المبالغة، فالأولى تغزو الخصوصية والأخرى تزيف المنظور الطبيعي. أما فيما يتعلق بتصميم مواقع العمل، بقدر التعامل نفسه مع الكاميرا، كان التعاون بينه وبين المصمم (بانزي تشاندرا جوبتا في معظم الأفلام) مفصلا للغاية، وكان لابد من التفاهم الكامل في كل ناحية من نواحي العمل. قام راي بجميع تصاميم عناوين أفلامه، والأغلبية ظهرت بخط يده. وكان لابد للمساهمات الفنية مع الآخرين أن تكون مكملة لمفهومه، ليس العام، وإنما المفهوم المفصل والمحدد. ونتيجة لحبه للموسيقى طوال حياته (معظمها من الموسيقى الغربية في أيامه الأولى)، أصبح من الصعب بشكل متزايد بالنسبة له القبول بما يقدمه له مشاهير الموسيقي، مثل رافي شانكار، وعلي أكبر خان، وفيلايات خان، حتى بعد المناقشة المفصلة والمحاولات المضنية لفرض رغبته في رغباتهم، إذا شاهد المرء «أغنية الطريق» مرة أخرى اليوم، فسوف يندهش لدقة اللحن الشعبي والتنويع فيه من خلال الآلات، ولكنه سيجد بعض القطع الموسيقية الكلاسيكية – تبدو للسامع مثل مقتطفات من اناشيد مسرية – نشازا ومزعجة بالقدر نفسه. والأمر المزعج الآخر هو الإفراط في استخدام الموسيقى، حيث لا توجد حاجة لها، حتى في عمل متقن مثل فيلم «عالم أبوا» فبعض موسيقى الكريستيدون التي قدمها فيلايات خان في فيلم «غرفة الموسيقى» حادة وخالية من الخيال، مما يعد تراجعا في كليشيهات موسيقى الأفلام التي بالتأكيد ضايقت أذن راي الحساسة. ويضطر المرء إلى التعاطف مع راي حين نفذ صبره مع الموسيقيين الذين يؤلفون موسيقى أفلامه، وقرر أن يقوم بتأليف موسيقى أفلامه بنفسه، على غرار ما فعله فانزاج بهاذيا الذي بقي لفترة طويلة الملحن الوحيد المتدرب على الموسيقى الكلاسيكية الغربية، ويعمل في السينما الهندية. برهن فيلم «تشارولاتا» على أن راي كان صائبا حين قرر أن يقوم بتأليف الألحان الموسيقية بنفسه، ليس فقط فيما يتعلق بالميول الفردية وخلود الألحان، ولكن أيضا بالتشقف في استخدامها. وفي كثير من الأحيان، يفرض الملحنون الموسيقيون تفسيرهم للمفاهيم، وكذلك طريقة ومدى تطبيق الموسيقى على مخرج الفيلم، وفي الغالب، يقبل مخرجو الأفلام بها، لا سيما اذا لم يكن لديهم وعي كبير بالموسيقى مثل الوعي الموجود لدى راي. بالإضافة إلى ذلك، تم تصوير فيلم مثل «تشارولاتا»، أو «أيام وليال في الغابة»، أو «الوسيط» أو «لاعبا الشطرنج» في ضوء دقة تدفق الموسيقى الكلاسيكية الغربية. ومن ثم، فإن نقل مثل هذه المفاهيم لشخص آخر من دون فقد شيء من أهميتها لابد أنه سيكون مهمة شاقة. وفيما يخص فيلم. هيراك راجار ديشي التتمية الخيالية لفيلم «مغامرات جوبي وباجها» فقد عمل راي مجلدات من تصاميمه للملابس، مع قصاصات القماش، الذي اختاره بنفسه، ملصقة على صفحات بجانب كل رسم توضيحي، فبالنسبة لراي، الإبداع أمر لا يتجزأ، فقد كان حقا الصانع الكامل لعمله وإلى أقصى حد ممكن. يتبع