نقدم في هذا العدد نموذجين من النماذج التي تطرق لها فروم في كتابه: «الإمتلاك أو الوجود» للتمييز بين توجه شخصية الفرد الإمتلاكي أو الوجودي، و يتعلق الأمر بالسلطة و الإيمان. و هما مكونان أساسيان في حياة الأفراد و الجماعات، بل متكاملان، يؤثران في الحياة مباشرة و يتحكمان في عملية تطورها، سواء أكان هذا التطور سلبيا أو إيجابيا. و من المعروف أن أحد أهم انتقادات فروم للشيوعية في عز قوتها كان هو إيهام الناس بأن «الدين أفيون الشعوب» و من اللازم مقاومته، و قد أكد أكثر من مرة بأن هذا خطأ في فهم الفكر الماركسي في هذا الإطار. كمحلل نفسي ضليع، اعترف فروم بالتدين كحاجة ملحة للنفس البشرية، دون أن يربطه بدين معين، بل عمل على نقد عميق للمسيحية و لليهودية، لأنهما ابتعدتا في نظره أكثر من اللازم عن جوهرهما. فقد خرج فروم عن وعي من الدين اليهودي الذي كان يعتنقه، لأنه كان في نظره في التاريخ الطويل لتطوره، دين عنف و تحريض على العنف. ما يجب تسجيله و حفظه في الوعي هو أن ممارسة السلطة في المنظور الفرومي لا يجب أن يخرج عن نطاق المساهمة في تطوير شخصية الإنسان ليصبح أحسنا و أعقلا و أكثر مسؤولية في محيطه الإجتماعي. و ما نلاحظه في المغرب حاليا في ميدان ممارسة السلطة، سواء أكانت من طرف الحكومة أو الأحزاب السياسية أو النقابات و التنظيمات الحقوقية، هو التركيز على السلطة في توجهها الإمتلاكي، و يعني هذا بصريح العبارة القضاء على كل محاولة لتطور الشعب ماديا و معنويا. إضافة إلى هذا، يتسائل المرء كيف يمكن لحزب اشتراكي تقدمي و يساري أن يضع يده في يد أحزاب يمينية في المعارضة، و كل شيئ يفرق بينه و بينها أيديولوجيا؛ و كيف حصل أن نسي المرء ما عانته الإشتراكية على يد هذه الأحزاب في سنوات الرصاص. إذا كانت ذاكرة السياسة قصيرة و تنسى أو تتناسى، فإن ذاكرة التاريخ تسجل كل شيئ بدقة و لا ترحم من قد تعميه إغراءات السلطة و تنسيه مبادئه الأساسية. كان من البديهيات التي كان على الإشتراكية المغربية القيام بها كأقصى أجل لإعادة حساباتها مع «مشروع المعارضة» مع اليمينية هو حسم الأمور بعدما أصبح البرلمان حلبة ملاكمة بين فريقين، فلا يُشفع تحت أية ذريعة كانت، لبرلمانيين التشابك بالأيدي؛ إلا إذا كان المرء يريد من ذلك شرعنة العنف في المجتمع. أما في الميدان الديني، و في لحظة الإعلان عن «تنظيم الحقل الديني في المغرب» بمقتضى ظهير شريف في بداية هذه السنة، فإن المفكر الإشتراكي المغربي لم يهتم بالموضوع و يعطيه حقه من الدراسة و التحليل، بل صمت، و بهذا يزكي واقعة كون الدين الرسمي هو السبب الرئيس في هذا التسونامي الديني الهدام الذي استحوذ على المغرب في ربع القرن الأخير. الإعلان عن إعادة تنظيم الحقل الديني، هو إعلان عن فشل الدولة في هذا الميدان و محاولة لإعادة السيطرة على هذا الحقل بعد فوات الأوان. لعل أهم إنجاز حققه الإشتراكيون المغاربة عندما تحملوا المسؤولية في الحكومة كان هو نجاحهم في تعميم تدريس مادة الفلسفة في سنوات الباكالوريا و فتح مسالك للفلسفة في الكثير من الجامعات المغربية. فتدريس مادة الفلسفة هو بمثابة تعقيم للتلميذ و الطالب ضد كل تفكير انتهازي قد يتلاعب بالعقول و بالنفوس، لأنه يسلحه بحد أدنى من التسائل عما يتلقاه من الخارج، و هذا ما يضمن صعوبة أدلجة الشعب و حماية جسده من ممارسة السلطة و الدين الإمتلاكيين. قد يتسائل متسائل لماذا نقوم كل مرة بهذا النقد العميق للفكر الإشتراكي المغربي من خلال تقديم أحد أهم كتب فروم: «الإمتلاك أو الوجود»، و هو الإشتراكي الملتزم، و جوابنا العفوي و الصريح و الصادق هو اقتناعنا بأن للفكر الإشتراكي المغربي خزان خلق و إبداع من اللازم تفعيله للتحرر من الوهم الذي أسقطتنا فيه الليبرالية، و المتمثل في «موت» هذا الفكر على الصعيد العالمي. إن اقتناعنا بالإشتراكية كموقف في الحياة و كنظام للحكم هو اقتناع راسخ لا يتزعزع. علاوة على هذا، فإن واقعة نشر جريدة الإتحاد الإشتراكي لمقالات و دراسات تنتقد الفكر الإشتراكي المغربي هي عربونا على نضج و قبول النقد الذاتي البناء، الذي ليس له هما آخر من غير تصحيح المسار و إرجاع الإشتراكية المغربية إلى خطها الأصلي: محاربة الفكر الليبرالي من جهة و التصدي للظلامية الدينية التي رمت بغطائها على عموم العالم المسلم من جهة أخرى. «ممارسة السلطة هناك مثال آخر للتمييز بين نمطي الحياة الإمتلاكي و الوجودي ألا وهو ممارسة السلطة. و النقطة الحاسمة في هذا الإطار هي ما إذا كان المرء سلطويا أو له السلطة. كل واحد منا تقريبا يمارس في مرحلة من مراحل حياته السلطة. فمن يربي الأطفال، يمارس، أراد هذا أم لا السلطة، لكي يحمي الطفل من المخاطر و يعطيه على الأقل حدا أدنى من النصائح السلوكية التي تساعده في أوضاع معينة. و تعتبر النساء في مجتمع أبيسي موضوع ممارسة السلطة. أما في المجتمعات المنظمة بيروقراطيا و طبقيا، كما هو الحال عليه بالنسبة لمجتمعنا، فإن أغلبية أعضاء هذا المجتمع تمارس السلطة، باستثناء الطبقات السفلى، التي لا تكون إلا موضوعا للسلطة. لكي نفهم ما معنى السلطة في كلا نمطي الحياة المشار إليهما أعلاه، من اللازم ألا تفارق أعيننا واقعة كون مفهوم السلطة هذا جد شاسع و له معاني متعددة، منها ما هو «عقلاني» و منها ما هو «لاعقلاني». فالسلطة العقلانية تشجع نمو الإنسان الذي تُأْتَمَنُ عليه و تتأسس على الكفاءة. أما السلطة اللاعقلية فإنها تتأسس على القوة و تُستعمل لاستغلال من وُكِّلَ لها أمر السهر عليهم. و قد شرحت هذا الفرق في كتابي «الخوف من الحرية»، 1941أ. كان ذاك الذي كانت كفاءته معترفا بها على العموم هو الذي يُمارس السلطة في المجتمعات البدائية للصيادة و الملتقطة. و كانت خصوصيات هذه الكفاءة تتوقف على الظروف: ما كان يأخذ في عين الإعتبار هي التجربة في الميدان و الحكمة و السخاء و المهارة و الشخصية القوية و الشجاعة. و لا توجد في الكثير من القبائل البدائية أية سلطة دائمة، لكن هناك سلطة لكل موقف أو ظرف، يعني أن هناك سلطات متعددة بتعدد المناسبات كالحرب و الشعائر الدينية و التوسط في النزاعات. و عندما تغيب أو تقل الخاصيات التي تتأسس عليها السلطة، فإن هذه الأخيرة تنتهي. و نجد تقريبا نفس نموذج السلطة في الكثير من مجتمعات القردة، و هي سلطة لا تقوم بالضرورة على القوة البدنية، لكن على خاصيات كالتجربة و «الحكمة». و قد برهن ج. م. ديلغادو J. M. Delgado (1967)، طبقا لتجربة قام بها على القردة، بأن سلطة القرد المُسيطر تنتهي، حتى و إن حدث ذلك مؤقتا فقط، عندما يفقد الخصوصيات التي تشكل سلطته. إن السلطة المؤسسة على توجه وجودي لا تتأسس فقط على قدرات معينة لِتَحَمُّلِ وظائف اجتماعية محددة، لكنها تتأسس كذلك على شخصية الإنسان الذي يصل إلى مستوى عال من تحقيق الذات و الإكتمال. فمثل هذا الإنسان يُشِيع السلطة دون تهديد و لا رشهوة و لا إعطاء أوامر، يتعلق الأمر ببساطة بفرد متطور جدا، يُظْهِر عن طريق ما هو/ماهيته ? و ليس فقط من خلال ما يقوله و يفعله- ما قد يكون عليه الإنسان. و قد كان كبار معلمي الإنسانية يتمتعون بمثل هذه السلطة و نجد نماذج مثلهم، لكن بأقل كمال، عند أناس من مستويات تعليم مختلفة في ثقافات متعددة. و يدور مشكل التربية حول هذه الإشكالية: لو كان الوالدان متطوران أكثر و يرتاحون في وسط ذواتهم، فلن يكون هناك أي صراع تقريبا على ما إذا كانا سلطويين أو «اتركه يعمل laisser faire» { أي لامبالات بتربية الأطفال تقريبا = إضافة المترجم}. ذلك أن الطفل يستجيب بطواعية للتربية ذات توجه وجودي، لأنه يحتاجها؛ و يثور ضد من يحاول فرض شيئ عليه أو يُهمله، ممن يُظهر بأنه لا يقوم بما يطالب الطفل القيام به. بظهور المجتمعات المؤسسة على نظام سُلَّم اجتماعي طبقي و معقدة أكثر من مجتمع الإلتقاط و الصيد، عُوِّضَت السلطة القائمة على الكفاءة بالسلطة القائمة على الوضع الإجتماعي. و لا يعني هذا بأن السلطة القائمة حاليا هي سلطة غير كُفأة بالضرورة، لكن هذا يعني فقط بأن الكفاءة ليست عنصرا جوهريا بالنسبة لها. فسواء تعلق الأمر بالسلطة المَلَكِيَة، التي يكون فيها يانصيب الجينات البيولوجية حاسما في مقابل الكفاءة، أو بمجرم م ليس الضمير ممن يُصبح سلطة عن طريق الغدر و القتل، أو تعلق الأمر، كما يحدث غالبا في الديمقراطية الحالية، بسلطات تُنتخب لمظهرها الرقيق أو للمال الذي تنفقه على الحملة الإنتخابية؛ فإن لا علاقة تقريبا للكفاءة بالسلطة. و في الحالات التي تقوم فيها سلطة على أساس كفاءات معينة، تظهر مشاكل جدية كثيرة. قد يكون قائد كفئا في ميدان ما و غير كفئ في ميدان آخر، كأن يكون مثلا رئيس دولة كفأ في الحرب، لكنه يخفق في السلم. و قد يكون سياسيا ما في بداية مشواره صادقا و شجاعا، لكنه يفقد في ممارسته للسلطة هاتين الخاصيتين. فقد يكون سبب هذا هو تقدمه في السن أو عائق جسدي ما. في نهاية المطاف فقد كان من السهل بكثير على أعضاء قبيلة بدائية صغيرة الحكم على سلوك شخصية سلطة بالمقارنة مع ملايين الناس في نظامنا الحالي، ذلك أنهم لا يُكَوِّنُونَ صورة عن مُنتخبيهم إلا من خلال التلاعب بالمعلومات عنهم و تدليس الحقائق على شخصيتهم، و هي صورة يُصممها عنه المتخصصون في العلاقات العامة. كيفما كانت أسباب خُسران الخاصيات التي تمنح الكفاءة، فإن عملية استيلاب/تغريب السلطة تتم في الغالب في المجتمعات الكبيرة المنظمة طبقيا. ذلك أن الكفاءة الفعلية أو الخيالية تُلْصَقُ بالبذلة أو باللقب المهني لشخص ما. فإذا كان شخص ما يرتدي بذلة معينة أو يحمل لقبا ما، فإن هذه الرموز الخارجية تُعوض الكفاءة الفعلية و الجودة التي تتأسس عليها. فالملك، لنطبق هذا اللقب كرمز لهذا النوع من السلطة كمثال، قد يكون غبيا و سفاحا و شريرا، يعني غير مناسب تماما ليكون سلطة، لكنه يكون ممتلكا لها. فطالما كان له هذا اللقب، طالما افترض المرء بأنه يمتلك الخاصيات التي تمنح له الكفاءات الضرورية لهذه السلطة. و حتى و إن كان القيصر عاريا، فإن المرء يعتقد بأنه لابس لملابسه. لا يحدث اعتبار البشر البذلة و الألقاب كتعويض للكفاءات حدوثا ذاتيا تلقائيا. ذلك أن أصحاب السلطة و كل الذين يستغلونها يُقنعون الناس بهذا الوهم و يقتلون ملكة التفكير الواقعي فيهم. فكل إنسان يفكر يعرف حق المعرفة طُرق عمل الدعاية، و هي طُرُق تُقتل بها قدرة الحكم النقدي في البشر و تهدِّأ عقولهم لبعض الوقت إلى أن يخضعون للكليشيهيات، التي تُسَفِّهَهُم، لأنها تجعل منهم تابعين و تسرق منهم القدرة على الثقة بعيونهم و بملكة حكمهم. و هذا الوهم الذي يؤمنون به هو الذي يعمي عيونهم لرؤية الواقع كما هو. الإيمان قد يكون لمفهوم الإيمان في الميدان الديني و السياسي و الشخصي معنيين مختلفين تماما، حسب استعماله في المعنى الإمتلاكي أو الوجودي. يعني الإيمان في نمط الحياة الإمتلاكي، امتلاك أجوبة لا يكون للمرء أي برهان عقلي عليها. و يتكون هذا البرهان من تعابير أُعطيت له من طرف آخرين، تُقبل لأن المرء يكون خاضعا لهؤلاء الآخرين ? يتعلق الأمر عادة ببيروقراطية معينة-. يمنح مثل هذا الإيمان الشعور باليقين بسبب السلطة الفعلية للبيروقراطية (أو حتى السلطة المُتخيلة). و هو إلى هذا ورقة الدخول، يشتريها المرء لينتمي لمجموعة بشرية معينة، و تعفيه من مهمة صعبة أخرى تتمثل في التفكير بنفسه و أخذ قرارات. و بهذا يصبح المرء من beati possidentes، أي مالكي الإيمان الصحيح السعداء. و يدعي هذا النوع من الإيمان في آخر المطاف بأنه يُعلن عن معرفة غير قابلة للإهتزاز، يقينة، لأنه يظهر بأن سلطة أولائك الذين يُعْلِنون عن هذا الإيمان و يحمونه قوية و لا تقبل الإهتزاز. و من منا لا يريد اليقين، إذا لم يكن يتطلب أكثر من التخلي عن الإستقلال الذاتي؟ إن الله، الذي يعتبر في الأصل رمزا لأسمى قيمة، و الذي يمكن أن نقوم بتجربة ذاتية معه في داخلنا، يُصبح في نمط حياة امتلاكي أيقونة/صنما. و يعني هذا في معنى الأنبياء شيئا صُنع من طرف البشر، يعكس الإنسان عليه قوته الذاتية و بهذا يصبح ضعيفا في ذاته. إنه يخضع إذن إلى ما خلقه هو بنفسه و يقوم بتجربة ذاته من خلال هذا الخضوع في شكل مُستلب. يمكنني أن أمتلك الأيقونة، لأنها شيئا ما، لكن في آخر المطاف هي التي تمتلكني بسبب خضوعي لها. طالما أن الله قد أصبح أيقونة، فإن لا علاقة هناك لخصوصياته المُفترضة بالتجربة الشخصية للمرء، كما هو الأمر بالنسبة للأنسقة السياسية المُستلِبة. قد تُعبد الأيقونة كإلاه رحيم، لكن المرء يُمارس كل قسوة باسمها، كما هو الأمر في الإعتقاد الغريب في التضامن بين البشر، و هو اعتقاد لا يضع الأفعال اللإنسانية للبشر موضع تسائل. يُعتبر الإيمان في نمط الحياة الإمتلاكي العُكَّاز الذي يتكأ عليه كل الذين يبحثون عن اليقين و يرغبون في العثور على معنى ما للحياة، دون أن تكون لهم شجاعة البحث عن هذا الإيمان باستقلال عن هذا العُكّاز. يعتبر الإيمان ظاهرة مغايرة تماما في نمط الحياة الوجودي. أيستطيع الإنسان أن يعيش دون إيمان؟ ألا يؤمن الرضيع بثذي أمه؟ ألا نعتقد كلنا بالناس الآخرين و في من نحب و في أنفسنا ذاتها؟ أيمكن أن نعيش دون الإعتقاد في صلاحية القيم لحياتنا؟ يصبح الإنسان دون إيمان غير مثمر بالفعل، دون أمل و قلِق في وجوده الداخلي العميق. لا يعتبر الإيمان في نمط الحياة الوجودي، اعتقاد في المقام الأول في أفكار معينة، على الرغم من الأمر قد يكون هكذا. لكنه تَوَجُّه داخلي، إنه موقف و تصور. من الأحسن القول: إن المرء في الإيمان عوض القول إن للمرء إيمان. تميز علوم الدين بين الإيمان الإعتقادي fides quae creditur و الإيمان الذي يعتقد fides qua creditur، و هو أمر يعكس التمييز بين الإيمان كمضمون و الإيمان كفعل. يمكن للمرء أن يعتقد في نفسه و في الآخرين. يمكن للإنسان المتدين أن يعتقد في الله. ذلك أن إله التوراة هو قبل كل شيئ نفي للأصنام و للألهة التي يمكن للمرء أن يمتلكها. فمفهوم الله، الذي فُكِّر بتشبيه بملك شرقي، تعالى بنفسه منذ البداية. لا يحق تسميته و لا رسمه. و في التطور اللاحق لليهودية و للمسيحية حاول المرء تحقيق تخليص الله من اعتباره تمثالا، يعني القضاء على خطر جعله أيقونة، ببناء مُسَلَّمة مفادها عدم السماح بقول أي شيئ عن صفاته. و هناك محاولة راديكالية في التصوف المسيحي، مثلها Areopagia Pseudo-Dionysios و أخرون مثل مؤلف كتاب «غيمة عدم المعرفة» الغير المعروف و المايستر إيكهارت، الذين قادتهم الرغبة في تطهير مفهوم الله من كل تشبيه لاعتباره (لاشيئا)، وكانت النتيجة هي تصورات عُبِّر عنها في Veden و في الأفلاطونية المحدثة. و يكون هذا النوع من الإيمان مضمونا عن طريق التجربة الداخلية للذات الشخصية بذاتها للصفات الإلهية، و هو بهذا عملية مستدامة و نشيطة للإبداع الذاتي، أو كما قال المايستر إيكهارت: يولد المسيح أزليا فينا. حتى اعتقادي في ذاتي و في الناس الآخرين و في الإنسانية و في قُدرات الإنسان ليصبح إنسانا حقيقيا تتضمن اليقين. لكنه يقين يتأسس على تجربتي الشخصية و ليس على أساس خضوعي لسلطة ما، تفرض علي اعتقادا معينا. إنها يقين حقيقة، لا يمكن البرهنة عليها عن طريق دليل عقلي ضروري واضح، لكنني أكون مقنتعا بها بسبب دليل تجربتي الذاتية. يسمى الإيمان في العبرية إيمونا Emuna، و يعني «يقين»، و تعني كلمة آمين «يقينيا». عندما أكون متيقنا من أصالة إنسان ما، فلا يمكنني أن «أبرهن» على هذه الأخيرة إلى آخر يوم في حياته، و إذا أخذنا الأمر بصرامة من وجهة نظر وضعية، فإن هذا لا يعني بأنه قد يحتفظ بهذه الأصالة إلى أن يموت، فقد يفقدها لو أنه عاش أطول. ذلك أن يقيني ينبني على معرفتي الأساسية بالآخر و على كوني أحب ذاتي و أعيش أصالتي. و تعتمد مثل هذه المعرفة على ما إذا كان الإنسان قادرا على التخلص من أناه و ما إذا كان بإمكانه أن يرى الآخر في وجوده هكذا So-sein و التعرف على بنية قواه الداخلية، و ما إذا كان بإمكان المرء أن يرى هذا الآخر في فردانيته و في نفس الوقت كجزء من الإنسانية كلها. و بهذا يعرف المرء ما يعمله و ما لا يمكن أن يعمله و لن يعمله. و لا أعني بهذا من طبيعة الحال أنه بإمكان المرء التنبأ بمجموع سلوكه المستقبلي، لكن هناك خطوط أساسية في سلوكه تتجدر في خصائص طبعه، كالأصالة مثلا و الوعي بالمسؤولية. و تتأسس هذه الثقة على وقائع، و بهذا تكون عقلية، لكن لا يمكن الكشف عن هذه الوقائع بمناهج السيكولوجية الوضعية المعهودة و «البرهنة» عليها. فأنا الوحيد الذي يمكنني «تسجيلها» بقوة حيويتي الذاتية».