إن الحديث عن سؤال الهوية بصفة عامة وسؤال الهوية الثقافية بصفة خاصة أصبح سؤالا بأجوبة مختلفة ، والتي يمتد اختلافها في مرجعية المجيب نفسه عن السؤال من موقع هذا المجيب باحثا أو مفكرا أو كاتبا أدبيا ومسرحيا ، وإن كانت أجوبة الباحث تعتمد منهجيته وعمق توجهاته الفكرية والمعرفية، فإن أجوبة المدافع عن التوجه كفعل يقود عملية البحث في الذاكرة والتاريخ، تتخذ أبعادا إيديولوجية ضمن القناعات التي تحركه في الفعل موضوع البحث. إن السؤال الذي يحركنا من مختلف المناهج والمعارف هو سؤال نعتبره تقليديا لكنه سؤال حاضر بقناعات التوجه في الذات والموضوع، اهو سؤال كامن في الإنسان مهما بلغت درجة الحياد، سؤال ألخصه في:»»من أنا أو من نحن، ومن الآخر؟ إن السؤال الكامن في مفهوم عمق الهوية، كإحساس فردي أو جماعي. دوافعه تكمن في الرغبة في المعرفة، معرفة الجذور والامتداد، وهو الإحساس الكامن فينا جميعا بدرجات الوعي في المحيط الممتد في الماضي ووظيفة هذا الماضي في بناء المستقبل، وكيف نتعامل في مستوى فعل القراءة التي هي جوهر اختلافنا وذلك هو المنطلق الحقيقي في فهم الذاكرة والتاريخ بمختلف انماطها الثقافية والفكرية والدينية والمعرفية. من هذا المنطلق يمكن رصد توجهان في سؤال الهوية، توجه ينتصر للأصولية الدينية والعرقية والعقائدية، وهو توجه يكاد يكون جد متطرف وغير قابل للنسبية في تفسير كل ما يمت لسؤال الهوية في الفكر والثقافة وفي اللغة نفسها. وتوجه منطلق منتصر للثقافة الحديثة كون «الهوية لا تعدو أن تكون مجموعة من الإسقاطات الوهمية التي يضفيها الفرد على نفسه. وهو ما يعطي الأولوية في انتماء الفرد للعالم الإنساني مما ويؤدي إلى تنسيب مسألة الانتماء العرقي أو الديني».والتي ير فيها باحثون أنه « رغم التعارض الكبير الذي يبدو لأول وهلة، بين هذين الموقفين، فإن العلاقة بينهما لا تخلو من تقاطعات، لأن جانبا واسعا من الخطاب الهوياتي، حتى في تعبيراته الأكثر محافظة، يتم تصريفه باسم مقولة الحقوق الثقافية»، التي تنهل من مرجعيات الحداثة، ومن الثقافة الديمقراطية، والمواثيق الدولية المعاصرة. كما أن نفي وجود «هوية» بمعناها الثابت والمتعالي لم يمنع الثقافة الديمقراطية من أن تفرد الكثير من أدبياتها للحقوق الثقافية». نحن إذن أمام مشترك قوي بين الموقفين، مما يفسر أن القراءة المختلفة بين التوجهين يشدها سؤال»من نحن؟ «وأن الهوية مرتبطة بذات متسائلة عن موضوع في الماضي لكنها ذات متعددة، منها التي تطرح السؤال للتوجه به الى الانتاجية في الحاضر والمستقبل وذات تتوجه الى موضوع تريد نسخه وتكريسه في الحاضر كماض ممتد في كل الأزمنة وهذا هو جوهر الاختلاف. من هذا المنطلق نتساءل ما هي العناصر التي تحافظ عليها الذوات الباحثة في الموضوع، ومتى تنسلخ الذات الباحثة عن كل معطياتها المادية بمسافة البحث لتصبح كل العناصر المادية وظائفية وعوامل لبناء نص مغاير مندمج ومستقل ومستمر ومنتج لمراحل مرت لكنه متوجه للمستقبل. إن هذا الطرح لا يتعلق بسؤال القراءة في التجارب من منطلق البحث لإنتاج نص نقدي يحفر في المعطيات و يمنهجها لإنتاج نص نقدي في قراءة التجارب التي مضت أو لببحث عن حبل ممتد في الفكر والذاكرة بل إن الأمر يتعلق كذلك بالنص الابداعي الذي يختار توجه البحث في الذاكرة لكتابة نص أدبي أو مسرحي من هذا المنطلق نتساءل عن كيفية الخروج من الخطاب الهوياتي المنغلق المنعزل عن العالم وكأن إنسانا ما في محيط يحكمه الغيب أو تحكمه الحضارة الآتية بالفطرة ،هو الذي يملك الحقيقة المطلقة ويملك الإبداع والخلق والتفسير وان إنسانا آخر كان متلقيا فقط ، كعلاقة الإله بالأرض وما عليها وعلاقة الحاكم المستبد برعيته وعلاقة الشيخ بمريديه. وهو منطق لا نقرأه في فضائنا فقط بل هو منطق ساد العالم بمراحل ودرجات ومحطات استطاع فيها البعض في عالمنا تجاوزها بالفكر التنويري والثقافة المنفتحة وظل الأخر منا مكرسا لها وممتدا فيها وممتدة فيه الى درجة التصادم. من هذا الجانب يجب أن نرصد ونحدد التطلعات الثقافية التي تؤسس لمفهوم حداثي للهوية، لا يبترنا من سياقنا الحضاري والتاريخي. كيف يمكننا كمغاربة باحثين وكتابا ومثقفين أن نكون منسجمين مع ذواتنا في الصيرورة والتاريخ وان نختار أساليب توجهاتنا الى المستقبل وفق تكامل إيجابي مع عالم آمنا به بالذهاب والإياب مؤسسين لخصوصياتنا المنسجمة مع المشترك الإنساني الكوني في الثقافة الديمقراطية؟ كيف ندبر هذه العلاقة بيننا وبين الآخر وأن نجعلها علاقة «الأنا في الأخ والأخر في الأنا» بالفهم العميق لما هو محلي وعلاقته بما هو كوني في اندماج فاعل ومنتج وإبداعي لا إسقاط فيه ولا سؤال ضيف في فهم مشتركه. وعودة الى موضوع الندوة والمتعلق بسؤال الهوية في المسرح المغربي والذي يتوجه نحو قضية الهوية المغربية ذاتها كما يقدمها المسرح المغربي على صعيدي الممارسة والخطاب النقدي، فإن ما كتبه الدكتور حسن المنيعي باحثا بالحفر في الذاكرة الفاعلة والمنتجة والراصدة للأشكال ما قبل المسرح المغربي، وهي أشكال ممتدة إلى أجناس أخرى تعبيرية ، و يشكل هذا التوجه البحثي فعلا منتجا للذاكرة والذي نجد فيه جوابا لسؤال نعي فيه التخلص من الذات المغلقة لكنها ذات مؤمنة بهويتها المتعددة والمنفتحة والواعية بعلاقة الفضاء بالمحيط التي تخلصنا من السؤال التقليدي هل المسرح المغربي ملك لنا ام لغيرنا، ذلك السؤال الذي يتأرجح بين غياب الثقة في الذات المنتجة والذات التي تسعى إلى توقيع اعتراف من الأخر على إنتاجها وذلك موضوع يطول شرحه في العلاقة بين الأنا والأخر. ولكي أمر من السؤال العام حول الهوية أستحضر في هذا المنحى دراسة قيمة في الموضوع قام بها الباحث محمد أسليم لمشتغل عما كتبه وبحث فيه الدكتور حسن المنيعي والأستاذ حسن بحراوي ويقول أسليم أن «مسألة الهوية والاختلاف هذه مطروحة في المسرح المغربي على مستويين: مستوى البحث الأكاديمي ومستوى الممارسة المسرحية ذاتها: على الصعيد الأول: يفترض في سائر الدراسات من هذا النوع أن تفرز جوابين متعارضين: أحدهما يجيب بالنفي، فيقول إن المسرح فن دخيل، مستورد من الغرب، وآخر يقول: إنه، على العكس، فن أصيل سبق أن عرفه المجتمع المغربي أو العربي قبل أن تضعه مثاقفة قسرية على اتصال بثقافة الغرب وفنونه. وضمن هذا المستوى الأكاديمي يندرج كتابا حسن المنيعي وحسن بحراوي. علما بأن معظم ما يتضمنه الكتاب الأول سبق أن تناوله صاحبه في سياق أول مؤلفاته الذي يحمل عنوان أبحاث في المسرح المغربي ثم عاد إليه على عجالة في الكتاب الحالي كما في الدراسة التي خص بها أنطولوجيا المسرح العربي التي أعدتها سلمى الخضراء الجيوسي، الأمر الذي يعني أن مسألة الأصول هذه تشكل أحد ثوابت الدرس المسرحي في المغرب. أما المستوى الثاني، مستوى الممارسة المسرحية، فيفترض فيه أيضا أن يقدم جوابين متعارضين: الأول عبارة عن عروض مسرحية تغريبية مأخوذة قوالبها، وربما مضامينها أيضا، من المسرح الغربي. والثاني عبارة عن عروض تتأصل في الواقع المغربي وتوظف مجموعة من الظواهر والممارسات الثقافية المحلية. وهذا ما يخبرنا به حسن المنيعي جيدا في كتابه الذي نحن بصدده. فمن المسرحيات التي يصنفها ضمن الخانة الأولى يمكن الإشارة إلى تجربة »المسرح العمالي« و»مسرح اللامعقول« عند الطيب الصديقي، و»المسرح العجائبي« عند نبيل الحلو. ومن العروض التي يمكن تصنيفها ضمن الخانة الثانية يمكن الإشارة إلى مسرحيات: »السعد« و»حليب الضياف« للطيب العلج، و»ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب« و»مقامات بديع الزمان الهمذاني« للطيب الصديقي فيما وراء التأكيد المشار إليه أعلاه، الذي يقول بأن المسرح في المغرب فن مستورد من الغرب، يمكن التساؤل: ما الجواب الذي يقدمه الكتابان عن هذا السؤال؟ حالما نروم الوقوف على هذا الجانب يطالعنا المؤلفان معا بمقولة »الأشكال ما قبل - المسرحية. ويتساءل أسليم: عن مفهوم »ماقبل المسرح« المغربي وما أصل هذا المفهوم؟ ما دلالته في الكتابين؟ ويمدنا حسن المنيعي بثلاثة مصادر، هي على التوالي: -م عجم المسرح« لباتريس بافيس: يقصد بما قبل المسرح مجموعة من الطقوس الاحتفالية كالرقص، والغناء، والمرح، والتعبد، والعربدة، والصرع. وهي تنطوي على »عناصر ما قبل مسرحية من خلال ما توظفه من ملابس وشخصيات إنسانية وحيوانات وأدوات، وكذا من خلال ما تقوم عليه من ترميز لفضاء مقدس أو زمن كوني أسطوري. -كتاب »المسرح والفودو« (Théâtre et Vaudou) للناقد المسرحي الفرنسي فرانك فوشيه: الطقوس الاحتفالية التي اتخذت شكل فرجة في الحضارات القديمة كالحضارة المصرية، مثلا، وبالتالي تندرج ضمن ما يمكن تسميته بما قبل المسرح، وهو »المسرح الذي يتجلى كفرجة شاملة يشارك فيها الفرد عن طواعية بجسمه وروحه دون أن ينسى أنه يشاهد واقعا ممثلا ينعكس عبر الصور والرموز« . -كتاب »المسرح وضعفه« (Le théâtre et son double) للكاتب والمسرحي الفرنسي الشهير أنطونان أرطو: بإمكان شكل ما قبل المسرح أن يكون: »تظاهرة شعبية تؤسس فضاء فيزيقيا يفرض علينا أن نملأه ونؤثثه بكلمات وحركات بحيث نجعله يعيش من ذاته وبطريقة سحرية . ويتضح من هذه التعريفات أن »ما قبل المسرح« مصطلح يطلق على مجموعة من الممارسات الثقافية والطقوس التي تتوفر فيها عناصر الفرجة، واللعب والمرح، الخ. هذه الأشكال قد تكون قدسية أو دنيوية، كما أنها تتضمن مجموعة من مكونات الفن المسرحي الذي يشكل المسرح الغربي المرجع في تعريفه. ومن حيث الزمن يمكن لهذه الطقوس نفسها أن تكون: - إما سابقة لظهور المسرح كما هو الشأن بالنسبة لطقوس باخوس في الإغريق، ونبات السوما في الهند وطقس الجنس المقدس الذي كان يتم بين الإله دوموزي [تموز] وإنانا [عشتار] ممثلين في ملك سومر وكاهنة عليا تمثل إنانا واحتفالات البكارة عند الفينيقيين والإسرائيليين والإغريق، وطقوس العهارة المقدسة التي كان يواكبها ضرب للأجساد بالسكاكين في سوريا القديمة الخ.، والاحتفال السنوي الذي كان يخلد في فصل الربيع طيلة 15 يوما في الساحة الخضراء بمدينة تونس إلى حدود القرن 17م وبعض الطقوس الموسمية الشائعة في اليابان التي تعيد حركة »إزاناجي وإزانامي«، وهما زوجُُ إلهي خالق في الكوزموغونيا ، اليابانية، حيث » يمر «العجوز والعجوزة»، شخصان مقنَّعان تعتبر إيماءاتهما الفاحشة أحد العناصر الواجبة في أغلب الاحتفالات الموسمية القروية، يمران في العديد من الأمكنة لإعادة إنتاج حركة أول زوج في الكون وتدعيمها، وهي حركة ضمنت محاكاتُها دائما الخصوبة والرخاء للبشر والحيوانات والنباتات . - أو تكون مزامنة لوجود المسرح بمعناه الدقيق، لكنها تمارس بعفوية وخارج أي تقيد بقواعد هذا الفن (انظر تعريف أرطو . للحديث عن المسرح المغربي لم يجد الباحثان- حسن المنيعي وحسن البحراوي بدا من استدعاء ما يقابل هذه الطقوس في الثقافة المغربية (الحلقة، البساط، سيدي الكتفي، بوجلود، عبيدات الرما، سلطان الطلبة، فرجة بغيلة، الخ.). وفيما وراء التأكيد الصريح الذي يعبران عنه بوضوح، والذي مفاده أن الفن المسرحي فن دخل من الغرب، يسخر المؤلفان هذه الطقوس للحديث عن المسرح المغربي في اتجاهين أقل ما يمكن القول عنهما أنهما متعارضين وجدانيا: بمعنى أن المسرح المغربي عندهما هو في آن واحد فن وافد من الغرب، لكنه أيضا فن عريق سبق للمغاربة أن عرفوه قبل تثاقفهم مع الغير. بينما يسود التأكيد الأول أثناء الحديث عن نشأة الفن المسرحي بالمغرب، يستنتج التأكيد الثاني، خاصة عند حسن المنيعي، من خلال حديثه عما يُسمَّى بالأشكال »ما قبل المسرحية».