يتعذر الحديث ويتيسر الحديث، حين يتعلق الأمر بفكر متعدد في عطاءاته الأكاديمية والإبداعية والموقفية والسلوكية. يتعذر الأمر لوفرة النتاج وتنوعه الأجناسي ولقيمته، كما لشخصية صاحبه وهو ما يزال في ذروة شبابه الفكري، إن صح أن للفكر كبقية الكائنات والظواهر والأعضاء والوظائف عمراً، به فترات قوة وازدهار، ومنه أيضاً ما دون ذلك؛ ويتيسر الأمر للأسباب نفسها، إذ الوفرة والتنوع والقوة الفكرية الشبابية، تصبح عذراً لكل اقتصار أو اختصار، حيث لا يمكن الاستيفاء والوفاء. الأديب، شعيب حليفي، رغم شبابه الفكري نكررها مرة أخرى احتل ويحتل عن جدارة واستحقاق مكانته الأكاديمية بجهد قوي خاص منه، وبجد واضح مشهود له به، وهو في هذا كغيره، من فئة الشباب المجد الموفق فيما يجدُّ فيه؛ لكن ما يربو به شعيب حليفي في هذا الباب، هو مدى التميز؛ تميز على مستوى موضوعات الاشتغال، تميز في النهج والأسلوب، وفي كل ما يشكل الرؤية الأدبية على العموم. ويمكن رصد معالم التميز في الشخصية الثقافية لشعيب حليفي في بعض جوانبها من قبيل ما يلي: استمرارية في تيار التجديد: يمثل حليفي استمرارية تصب في تيارات ما يمكن تسميته "ثقافة التجديد والتغيير"، والتي حبلت بها سبعينيات القرن العشرين، تيارات ذات أردية إديولوجية مختلفة، تشمل كافة ميادين الفكر والإبداع المغربي، محملة بثورية فنية مجتمعية؛ إلا أن التميز لدى حليفي يأتي متمثلا من جهة أولى، في عدم التقيد أو التجمد في قالب إديولوجي محدد، ومن جهة ثانية في التركيز على النص الأدبي والإبداعي منه على وجه الخصوص، وتحميله وحده الرسالة التجديدية الثورية، وهَمَّ الانشغال المجتمعي في الآن نفسه. خصوصية الموضوع: ويمكن القول إن الموضع لدى حليفي ينطبع بسمة غالبة، يمكن أن نطلق عليها "طرافة الروعة"؛ وإذا كانت "الروعة" شعوراً واستشعاراً ومشهداً من مكونات الأدبية في النص الإبداعي، فإن الطرافة تشكل مِلح الطعام في النص الحليفي: طرافة الحكي، أو نمذجة الشخوص في منتهى بساطتها ولحظات تواضعها، أو الدلالة الاجتماعية في تناقض مكوناتها، وما إلى ذلك مما تقدمه أجواء من قبيل "البيزنطي" في "مجازفاته" أو معادلة القفز فوق الظل، إذ "لا أحد يستطيع القفز فوق ظله"، مع ما تمثله الإيحاءات بل الأحداث ذاتها والشخصيات، من بلاغة ما يمكن تسميته "الاستعارة الاجتماعية"؛ وهي مجرد علامات في إبداعية شعيب حليفي. وحدة الشخصية المفكرة في تعددها: وهو ما يجعل أرضية الوصل والاتصال منسوجة مبسوطة، ما بين الفكر النقدي ومجال الدراسة والبحث الأكاديمي من جهة، وكذا النص الإبداعي من جهة ثانية؛ وهذا ما يجعل خاصية التميز واحدة في المجالين معاً، أو في مختلف المجالات جميعاً؛ لذلك يكون هم "شعرية الفانتاستيك" وإبداعية "الرحلة في الأدب العربي" وكذا بعث شخصية "استيبانيكو" أو مصطفى الأزموري من مرقدها التاريخي وانتشالها من مراكم التناسي والإهمال، وهو المعاصر ل "ليون الإفريقي" (الحسن الوزان)، بما في ذلك من سحرية المكان والزمان والحياة الاجتماعية، علاوة على الإيحاءات والإحالات القريبة والبعيدة، على نماذج من طرافة شخصيات وأحداث من قبيل "الفتية المغررين أو المغرورين" لمحمد الفاسي، بل وعلى حفريات تاريخية أركيولوجية، تؤشر على روح المغامرة وطرافة الطموح الاستكشافي القاري، لدى القدماء من فينيقيين وعرب أندلسيين ومغاربة، كل ذلك يأتي في سياق قوي الصلة والدلالة، مع النفس الإبداعي الحليفي في رحلاته الشخصية ومشاهداته وعلاقات أسفاره، ضمن المكان والزمان ما بين مؤتمرات ولقاءات فكرية، إلى فرص استجمامية، تنساب عبرها تأملات ومقارنات وحِكم وأحكام، خلال مشاهد ومواقف من مختلف العواصم والمناطق والأماكن العربية وغير العربية، دون إغفال لذكر الأعلام وأسماء الرفاق والمشاركين، مما يضفي مسحة الوثيقة/الشهادة على سردية الرحلة الحليفية، ويدعم بالتالي مفهوم وحدة الشخصية المفكرة، بسمات تعددية تنوعية في الآن نفسه. هاجس النص المفتوح: وهو ما يبدو من اتسام النصوص السردية من رحلية وروائية لدى شعيب حليفي، بما فيها من ملامح الواقع من جهة، ومعالم التخييل من جهة أخرى، ما يجعلها على حدود تماس يين أكثر من عالم إبداعي وجنس أدبي، بل إنها تأتي على العتبة المبدئية لفن "التجنيس" أو "التهجين" الأدبي، لتؤشر على رفض مبدئي للتخندق في جنس أدبي محدد، وذلك عن روية وسبق إصرار فني. زمن الشاوية: وهو الحضور الأدبي المادي والمعنوي لهذه المنطقة في عموم دلالتها المكانية الزمانية، أو في مناطق منها كالدار البيضاء بفضاءاتها وشخصياتها وعلامتها ذات النكهة السحرية الخاصة؛ وهنا تأبى شخصية حليفي العلمية المتميزة، إلا أن تعمل على ترسيخ انتمائه الجغرافي للشاوية لا بادعائية أو دعوائية، أو بوجهة ميول فطرية دفاعية، وإنما بتأصيل معرفي وطني، يجعله يغوص في الزمان والمكان لمنطقة الشاوية، كاشفاً عن عظمتها البشرية والطبيعية، في معارك الشرف ضد الأجنبي والمتسلط في مختلف الحقب والأزمان، مشفوعاً ذلك كله بحفريات معرفية دالة، سواء في عبارتها أو سلوكها أو أثرها في الخلف البشري كما في الزمان والمكان؛ ومن منظور كهذا، وضمن رؤية لامة ضافرة، يتشكل ملتقى وقائعي تاريخي اجتماعي أنتربولوجي، ويلتام مجمع سردي ملحمي غنائي تراثي معاصر؛ مما تغيب معه حواجز التخصصات والتصنيفات بقدر ما تدق وتتحدد في الآن نفسه، لكنها تتقاطع متضافرة في بعث الحقيقة وجلاء صورتها للمتلقي، أياً كان موقعه ومدى إلمامه واهتمامه. الفعالية والممارسة الثقافية: وهو ما يطول بابه وشرحه، لأنه يمثل سيرورة الحياة اليومية لشعيب حليفي، وتكفي الإشارة هنا إلى مؤسسة "مختبر السرديات" الذي يشرف عليه، وما له من آثار في التحريك الثقافي، كما في البحث العلمي والتواصل الإنتاجي المشترك، على المستويات المحلية والجهوية المغاربية، وكذا العربية والعالمية؛ ومما يذكر في هذا الباب، العمل الدؤوب من قبل شعيب حليفي، لإحياء وتنشيط معارض الكتب والتظاهرات الثقافية المرتبطة بها، في الفضاءات العامة والأحياء الشعبية، مما يؤشر على ما يحمله في أعماقه من ضمير ومفهوم "ثقافة بلا حدود". المواقف: لا نريد أن نتعسف، كما لا نريد أيضاً أن نجامل في وصف شعيب حليفي بالمثقف "الملتزم" أو "العضوي"، وإنما نقف بعيداً عن المفهوم السارتري وعن نظيره في التصور الغرامشي، المشَكِّل لصورة المثقف ودوره في زمنه ومجتمعه بالمعنيين الخاص والعام، والقصد هنا بكل بساطة، يتمثل في عدم إغفال مظهر من الحياة الفكرية لشعيب حليفي، درءاً لما يحتمل من إهمال أو عدم التفات على الأقل، من قبل متناولي سيرة هذا الرجل، إلى هذا الجانب بسبب ما للثقافة من منظورها السائد، وكذا قوة العطاء الإبداعي والأكاديمي، من جاذبية طاغية، ومن قابلية للتغطية على مثل هذا المظهر المتميز في الحياة الفكرية لدى حليفي، ونعني به طابع النضال الفكري النقابي بمعناه العام بالذات. و يتميز شعيب حليفي في هذا الباب بالتزامه بمبدإ العدالة الاجتماعية وقيمها العليا، لذلك فجهوده الفكرية في العديد من كتاباته ذات الروح النقابية، وهي واضحة غير مواربة ولا مضمرة، لم تأت لتصب في مصلحة شريحة اجتماعية أو فئة نخبوية هو منها، ينالها ما ينالها، ونصيبه من نصيبها؛ فمثل هذا الموقف معروف ومقبول، وهو الموقف النقابي بالمعنى المهني الضيق والدقيق في الآن نفسه؛ لكن تميز حليفي من هذه الناحية، يتمثل في طرحه للنضالية النقابية ضمن رؤية أرحب وأوسع، يتمثلها أفق المثقف التواق إلى العدالة الاجتماعية، في مبادئها وقيمها الإنسانية، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى مهما تكن واردة، أو ترتبط بها معطيات وظروف؛ فالموقف هنا مخالف أو متعال عن موقف السياسي أو القيادي أو حتى العامل البروليتاري، بقدر ما هو أفق فكري ملتزم بقضايا إنسانية، يعمل جاهداً بكل وسيلة وفي كل مناسبة سانحة، للخروج من وصمة الانزوائية والانعزال الفكري، مما يوسم يه المثقف عن باطل أو حق. الإنسان: يمكن القول بكل بساطة، وبمنتهى عظمة أيضاً، إن ما يبقى في النهاية من كل شئ هو ماهيته، وهي هنا إنسانية الكائن، طينيته الجوهرية. وفي هذا المجال، يمكنني القول إنني عرفت عن بعض قرب إنسان ذ. شعيب حليفي، عرفته عن عشرة ورفقة، على الأقل من زاوية ما تختزله المأثورة الشعبية القائلة بأن معرفة الشخص، تتم عن معاشرة أو رفقة سفر؛ ذلك أنني عرفت حليفي بمعاشرة مهنية علمية وبرفقة سفر أدبية، وهي في رأيي تبقى الأهم والأعمق في مثل هذا الباب؛ وإلا هل تكون الشراكة الربحية، والسفرة التجارية، كلا منهما على حدة، أو هما معاً مجتمعتان دون غيرهما، ما يتيح الفرصة لمعرفة معدن الإنسان في أصالته، دون ما هو علمي أدبي؟ عاشرت الصديق حليفي في مؤسسة جامعية هي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك؛ وكنت بصفتي عميداً مسؤولا، أحرص على معرفة هيئة التدريس والتعرف عليهم، لا من خلال بيانات ومعلومات مستقاة من هنا وهناك، وإنما من خلال الأداء الجامعي اليومي، بما يتطلبه من قدرات ومقتضيات فكرية أكاديمية وتربوية، علاوة على مختلف الأنشطة الإضافية التي هي بمثابة الفريضة على الجامعي القح، وإن كان البعض ينظر إليها نظرته للنافل أو فرض الكفاية، ليبقى بريئاً منه وبمنأى عنه؛ ومن خلال ذلك كله عرفت في حليفي غيرة على مهمته الأكاديمية، وحماسة في الإقبال عليها، بل وفي جعل الطلبة بدورهم في أوج الفاعلية للتلقي من جهة، والإسهام بدورهم الخاص في الأداء العام للمهمة الجامعية من جهة أخرى، عن طريق إنجازات فردية ومجموعية، مع حليفي وتحت إشرافه وتوجيهه؛ والأكثر من ذلك أن أداءه في هذه المستويات بالذات، يتم بغاية الهدوء، بعيداً عن المطالبات التي يفرضها تواضع الإمكانات من جهة، وسعة أفق المطامح من جهة ثانية؛ . وهو ما كان يظهر إنسانية شعيب حليفي في هذا الباب، من حيث تجسيده لقيم التفاني في الواجب، بل الاجتهاد في سبل أدائه، وتحقيق الأهداف المرصودة له، مهما كانت الظروف والأحوال، وهي قلما تسعف بالكثير في هذا الباب. وعرفت شعيب في رحلات أدبية ولقاءات ثقافية خارج المغرب وداخله؛ وإذ لا يفاجئني فيه جانب الأداء المعرفي، وطول باعه في التحليل وإبداء الرأي في القضايا المطروحة، فإن إنسانيته تتبدى في قدرته على اكتساب الأصدقاء، وفي قابليته لاقتسام المشاعر والمشاريع مع كل متفتح لذلك؛ ويتم الأمر دائماً لدى حليفي بالروية والهدوء، وبطبع الحوار المتأصل في شخصيته، دون أن يكون ذلك بأي وجه من الوجوه، لينتقص من حماسته تجاه موضوعه ورؤيته، أو ليأتي على حساب الأطروحة والاقتناع الشخصي، الذي يسعى جاهداً لجعله اقتناعاً يعم الجميع، بما يتطلبه الأمر ويتحمله من تعديل أو تنقيح وتلقيح؛ وهو ما كان ينجح فيه حليفي دوماً، ويتوفق في تحقيقه باستمرار. ولا أنسى علاوة على العشرة والرفقة علاقة انتماء تجمعني بشعيب حليفي وهي المتعلقة بالانتماء إلى "الشاوية"، أو زمن الشاوية كما يحلو التعبير به في أدبيات حليفي؛ بيد أن هذا الانتماء المشترك بيننا، علاوة على "لوثة الأدب"، كما كان يحلو لبعض الأقدمين تسمية هذا المظهر المتسامي من مظاهر الفاعلية البشرية، والمتمثل في الإبداع الأدبي بغض النظر عن صنفه وجنسه؛ إنما تأتي كلها مشكلة وشائج قربى معنوية، وروابط إنسانية رمزية، من شأنها أن تغني وتفيض نوراً وإشعاعاً في المجالات الإبداعية، وفي الثقافة على العموم. إنها مجرد تحية للأستاذ الباحث والأديب المبدع شعيب حليفي، باقة مشاعر من مودة وإعجاب وتقدير لعطائه الفكري المتميز، مع متمنياتي له بمزيد التألق.