حين اعتل الجسد وأحس القائد بتعب ألم به توجه رفيق المهدي وعمر وقادة التحرير والمقاومين عبد الرحيم بوعبيد إلى أعضاء حزب القوات الشعبية قيادة وقواعد، بالشكر على الاهتمام والوفاء، وقال في وصيته التاريخية الممضاة في 9نونبر من سنة 1991 إنه معتز بالتلاحم والدعم المعنوي «إن حزبا ليس كالأحزاب ولكنه حزب كعائلة واحدة، عائلة واحدة تمتد إلى عائلات أخرى تتجدد وتتوسع دائرتها، وأنا على يقين بأن المهام التي رسمناها لأنفسنا إما في الدفاع عن حوزة بلادنا أو في عمل الإصلاح الجذري ما يحتاج إلى الإصلاح الجذري وما يمكن إصلاحه جذريا في بلادنا…»، ولخص القائد الراحل مهام الحزب في « أن هذه المهام هي قدرنا لتكون الديمقراطية ومبادؤها دائما نصب أعين المناضلين صباح مساء، حتى تفرض مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، أنتم تعلمون وكلنا يجب أن نعلم، إن الاضطلاع بهذه المهام يتطلب منا الصبر، لأن الأمر ليس سهلا، كما يتصور البعض، بل يحتاج كفاحنا إلى مزيد من التبصر وبعد النظر، وإلى شعور دائم بأن لنا في هذه البلاد رسالة نريد أن نؤديها على أحسن وجه وأن نمهد الطريق للأجيال الصاعدة». وأضاف» تعرفون جميعا أن الظروف الدولية والعربية والإسلامية انقلبت رأسا على عقب، ولا تفيدنا الأخبار وحدها، فمن السهل أن يقول البعض إن التاريخ قال كلمته وانتهى الأمر، ولكنني أعتقد أن التاريخ قال كلمته في مرحلة من المراحل وسيظل يقول كلمته في مراحل متوالية من الوجود البشري، ومهمتنا تقتضي منا الشعور بخطورة واجبنا نحو هذا الشعب وبقداسة رسالتنا التاريخية التي لا تنحصر في المغرب وشعب المغرب، الشعب الذي ما انفك يطور نظرته إلى الأشياء منذ حصولنا على الاستقلال، وهذا التطور سيزيد في المستقبل، بل إن رسالتنا يمتد مداها إلى كل المغرب العربي وكل الوطن العربي والعالم الإسلامي» خط رسالة مستمرة للأجيال القادمة والتي تليها إلى أن تتحقق الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية…» إنها بتعبير عبد الرحيم «خدمة للبلاد، خدمة للحقيقة، خدمة للإنسانية والديمقراطية، خدمة للعدالة الاجتماعية» لقد مات سي عبد الرحيم متصالحا مع ذاته وحزبه وأفكاره «فإننا نشعر جميعا باطمئنان على أن ما أسديناه من أجل الوطن ليس هو الكمال، ولكن أن الذي أسديناه خرج من صميم الفؤاد، طاهرا، نقيا، يريد خدمة الشعب والأمة والمصلحة العامة» الرسالة تليت في اجتماع اللجنة المركزية للحزب آنذاك ومازال صداها في دهن كل المناضلين لأن سي عبد الرحيم كما لا يحب أن يلقب كان صوتا للمستقبل والتاريخ . في مطلع الثمانينيات كانت الحرب مفتوحة على حزب عبد الرحيم بوعبيد فقد شهد المغرب في مطلع الثمانينيات مجموعة من الأحداث السياسية الاجتماعية أفضت إلى فتح السلطة آنذاك لمواجهات مفتوحة مع حزب الاتحاد الاشتراكي، حيث كتب محمد الشاوي مؤرخا للمرحلة «فمن أحداث 20 يونيو، وما تلاها من منع مجموع صحف الحزب عن الصدور، واعتقال المئات من أطره ومناضليه بالأقاليم وقيادة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وإغلاق العديد من مقراته و مقرات النقابة، إلى اعتقال أعضاء قيادته السياسية ومحاكمتهم، وفي مقدمتهم الفقيد عبدالرحيم بوعبيد، على إثر إصدار الحزب، لبيان ينتقد ويعارض قرارات نيروبي الثانية التي قبل بها آنذاك المرحوم الحسن الثاني، وهي القرارات التي ستفتح مسلسل إيجاد حل بإجراء استفتاء بالصحراء المغربية، واعتبرها الاتحاد الاشتراكي قرارات خطيرة تمس الوحدة الوطنية، مما يتطلب عرضها على استفتاء الشعب المغربي برمته. ماذا قال بيان الاتحاد الاشتراكي سنة 1981، البيان الذي سيقود قيادته للمحاكمة وإصدار حكم بالسجن سنة نافذة في حق ثلاثة أعضاء من مكتبه السياسي على رأسهم كاتبه الأول آنذاك عبدالرحيم بوعبيد: «عقد المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، سلسلة اجتماعات خاصة منذ يوم فاتح شتنبر 1981، لدراسة وتحليل مقررات لجنة التطبيق التابعة لمنظمة الوحدة الإفريقية. هذه المقررات، التي تم اتخاذها من خلال الاجتماع الأول للجنة المذكورة المنعقد بنيروبي أيام 24 و 25 غشت 1981. وقبل كل شيء، فإن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لا يمكن إلا أن يتأسف ومن تم يشجب بعض التعاليق الصحفية التي لا تتردد في موضوع مقررات لجنة التطبيق في إبداء تفاؤل موجه مقصود، ومجادلة المخاطر الكبيرة والحقيقية التي تهدد مستقبل الوحدة الترابية لبلادنا» وشدد على أن «هذه التصرفات، لا يمكن إلا أن تبعث على افتراض الاستعداد للاستسلام، بل وحتى احتمال التخلي عن السيادة المغربية على أقاليم الصحراء المغربية» وأضاف البيان: «إن حزبنا، وهو يعي الخطورة القصوى للوضعية الجديدة، التي خلقتها قرارات نيروبي الأخيرة، يعتبر واجبنا الوطني يفرض إثارة انتباه الشعب المغربي إلى كل الاحتمالات المنتظرة، حتى يتخذ موقفه وهو على بينة ومعرفة بكل مسؤولية». ووصلت المواجهة أوجها باعتقال عبد الرحيم بوعبيد، وباقي أعضاء المكتب السياسي محمد اليازغي، محمد الحبابي، واستنطاق محمد منصور و الفرقاني. وفي المحاكمة، قال عبد الرحيم بوعبيد "هذه المحاكمة سيكون لها تاريخ، فأنتم لكم الأمر، ونحن نقول "ربي السجن أحب إلي من أن ألتزم الصمت وألا أقول رأيي في قضية مصيرية وطنية".وصدر الحكم على عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازغي ومحمد لحبابي بالسجن لمدة سنة نافذة، ليتم نقلهم إلى معتقل بإقليم ميسور، بعد احتجازهم لمدة شهر في سجن لعلو بالرباط ، أمام رفض محلي وعالمي لهذه المحاكمة لرموز من حركة التحرر الوطنية والدولية.. ساهم الراحل بحسب شهادة أقرب أصدقائه «كأحد الشباب الرواد في رسم ملامح مغرب الاستقلال في فترة اختلطت فيها المواقع وتغيرت فيها المواقف واستبدلت حسب المنافع الآنية. لقد ظل عبد الرحيم بوعبيد وفيا لمنطلق انخراطه في معركة حصول المغرب على استقلاله: الارتقاء بالرجل المغربي وبالمرأة المغربية إلى مستوى الحقوق الأساسية للمواطنة الكاملة والنهوض بالمغرب كوطن مستقل إلى التجسيد العملي لمقومات السيادة والانعتاق من حجر الحماية والتبعية لمصالحها الاقتصادية والجيوستراتيجية. ومن خلال هذا الوعي المتقد بأهمية الانخراط والتضحية والبذل في معركة تحرير البلاد، استطاع عبد الرحيم بوعبيد أن يهيئ نفسه ويعبد الطريق للتحكم في الخطوات التي سيخطوها وهو يتألق، كشاب مثقف ومطوق بحاجيات مستقبل المغرب ومشدود إلى طموحات رجالات الحركة الوطنية، في التحضير لمسلسل المفاوضات مع مختلف دواليب أجهزة وسلطات الحماية بالخارج، حيث ستدور الاتصالات التمهيدية للمفاوضات الرسمية. لقد أبان عن قدرات مؤكدة في التكيف مع ما تطلبته دهاليز التحضير والتفاوض المباشر بشأن تجاوز وضع الحماية الفرنسية المفروضة على المغرب. وبنفس الفراسة تحلى عبد الرحيم بوعبيد، وهو يضطلع بمهام محورية غداة الاستقلال، حينما كرس كل جهده وهو وزير في أول حكومة الجناح التحرري التقدمي، لبلورة التجسيد المؤسسي والعملي للتوجه السيادي لدولة المغرب المستقل من خلال اقتراح وبناء مؤسسات السيادة الاقتصادية والمالية ووضع التوجهات الجديدة لوزارة الاقتصاد والمالية في تأطير ومصاحبة حاجيات بناء اقتصاد مغربي مستقل. وقد شكل هذا الوعي المبكر ذراعا تسلح به عبد الرحيم بوعبيد طيلة حياته، واستفاد منه في حماية الاتحاد الوطني ثم الاتحاد الاشتراكي من مخططات القضاء عليه، والتي شكلت حلقات متداخلة لاستراتيجية تحجيم التوجه التقدمي بالمغرب وقمع أنويته في الساحة الاجتماعية والسياسية. فمن منطلق البناء الاستراتيجي لخط العمل السياسي التقدمي، اتجه عبد الرحيم إلى وضع خطط النضال الديمقراطي وهو واع بالحدود التي يمكن أن تشكلها المعارك الانتخابية، والعمل داخل مؤسسات يتحكم فيها تسلط الجهاز الإداري، ويؤثثها منطق استحواذ الأعيان على مختلف مستويات التمثيلية ضمن غلبة محققة للأحزاب الإدارية… كان عبد الرحيم بوعبيد قلقا. ويبرز بوضوح قلقه وهو يمارس عمله السياسي بانتظام وبرصانة . وكان مصدر قلقه مرتبطا بكونه كان يشعر وكأنه أمام حائط تجسد بامتياز في كون بنيات البلاد اتسمت بنوع من الجمود، وكذلك بكون السياق الدولي كان يفتقد لعناصر الدينامية المساعدة.. لقد دخلت بلادنا بعد تقديم ملتمس الرقابة 1990 بداية الانفتاح بعد أن عانت من سنوات الرصاص وعقود التنمية المضيعة، وتزامن التوجه الانفتاحي الجديد مع انهيار الاتحاد السوفياتي وما سيترتب عنه من تغيرات في الوضع الجيو – ستراتيجي، للعالم، وكذلك في الوضع الداخلي للعديد من البلدان التي ستعرف تباعا وحسب المناطق نوعا من الانفراج والتحضير لترتيبات سياسية تنبني على نوع من الديمقراطية. في هذا السياق، سياق بداية الانفتاح، انتقل عبد الرحيم إلى جوار ربه بعد معاناة مع المرض ومكابدة مضنية لوضع البلاد وانحساراتها. لكن الرجل بقي حاضرا ولا يزال في كل ما حدث في المغرب، فقد بقي حاضرا والبلاد ترسم الخطوات الأولى لتجربة التناوب وتستعد للقطع مع مرحلة الانغلاق وفرض الأمر الواقع، وضمن عوامل الدفع نحو البحث عن صيغ جديدة للانفتاح وانفراج السياق الدولي الجديد وانعكاساته على وضع المغرب داخل المنظومة الدولية. هي مرحلة تجسد للقطع مع مرحلة ماقبل ومابعد مغرب السكتة القلبية حيث ثم إقبار تجربة حكومة الاستاذ عبد الله ابراهيم بعد 520 يوما من من العمل التاريخي المؤسس للدولة المغربية، وحدث أن الحسن الثاني قال عندما كان وليا للعهد لعبد الرحيم بوعبيد :» أنت لا تفهمني، يا عبد الرحيم، لكن باعتبارك صديقا سأقول لك (ما في الأمر)، أنت لا ترى فيَّ سوى ولي العهد فقط، والحال إنني مناضل مثلك، وإنسان مثلك يحذوني الطموح إلى لعب دور في حياة بلادي، أنت تعرف أن أبي لازال شابا، وأنا سوف لن أنتظر حتى أضع طاقم أسنان لكي أخلفه.. هو ذا عمق تفكيري…». وبإعدام حكومة عبد الله إبراهيم، اغتيلت تجربة الأمل المبكرة في دسترة ودمقرطة وتحديث الدولة المغربية،وبذلك رزئ الشعب المغربي في أحلامه الوردية المنتظرة بعد محن المقاومة والكفاح والتضحيات الجسام، وكان الاستقلال «على صيغة إيكس ليبان».. بداية لمسيرة إحباط تلو إحباط. حكومة عبد الله إبراهيم حلم لم يكتمل بفعل ظروف تأسيس هذه الأخيرة والمصاعب التي صادفتها، ونشاط الطابور الخامس، ومع ذلك رسمت تلك الحكومة خطة وبدأت تحقق بعضا من أهدافها، وهي الإنجازات بل»نصف» الإنجازات التي لم تقو مختلف الحكومات المتعاقبة على المغرب منذ 20 مايو 1960 على تحقيق جزء يسير منها، هذا رغم أن عمر الحكومة المغتالة لم يكن يتجاوز بالكاد ربيعا ونصف.. فجاء اغتيال أمل المغاربة مبكرا في دمقرطة دولة «المغرب السعيد». تكمن أهمية موضوع هذا «الاغتيال» في كون الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تخللت فترة 1959-1961، قد شكلت منعطفا حاسما في مسار المغرب وشعبه، وهيأت منذئذ لانطلاق آليات ودواليب صناعة الإحباطات والانكسارات، ولم تعش تلك الحكومة أكثر من 20 شهرا، (520 يوما)، إلا أنها فتحت أوراشا مصيرية في تاريخ الشعب المغربي لم تتمكن أي حكومة، قبلها ولا بعدها، من تحقيق مثل هذا الفتح بل ظلت لا تتنافس إلا حول المزيد من اندحار المشروع الوطني، وبذلك ساهمت في تكريس مظاهر القتامة ودوافع المزيد من الإحباط. في مثل هذا اليوم 8 يناير 1992 غادر هذه الدنيا القائد والوطني الكبير سي عبد الرحيم بوعبيد بعدما ساهم في بناء حركة المطالبة بالاستقلال ومن الموقعين على عريضة المطالبة باستقلال المغرب إلى جانب نخبة من الزعماء الوطنيين والوطنيات وعلى رأسهم الشهيد المهدي بنبركة ...وساهم في كل أشكال النضال من أجل تطوير الحركة الجماهيرية والنقابية والسياسية ..ومن مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ثم من بناة الوضوح السياسي والفكري ابتداء من مقررات يوليوز 72 إلى المؤتمر الاستثنائي الذي أصبحت بموجبة الحركة الاتحادية تحمل اسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.. وتبوأ قيادة الحزب والقيام بكل عمليات إعادة البناء التي طالت كل القطاعات الحزبية بربطه بالجماهير الشعبية والطبقة العاملة والنخب المثقفة والأطر الصغرى والمتوسطة ... في ذكرى رحيلك نم مطمئنا سي عبد الرحيم فالقسم على قبرك نافذ وأبناؤك صامدون وحزبك باق للأبد رقما صعبا حتى التحرير والديمقراطية والاشتراكية. ...