عرف العالم في الآونة الأخيرة ،وفي ظل العولمة، مجموعة من التحولات التي مست عمق البنى المجتمعية؛ ذلك أنه بدأت تتشكل ملامح "القرية الصغيرة" ذات الثقافة الواحدة والمنظومة الخلقية "الكونية" على حساب تخلي الشعوب والمجتمعات عن كنه ثقافتها وعن جوهر قِيَمها. ولعل المجتمع المغربي كان من أنجب تلاميذ "خطة العولمة" وأسرعهم تنفيذا لتعاليمها؛ حيث أن العقود الأخيرة من تاريخ المغرب عرفت انحلالات قيمية وأخلاقية خطيرة؛ تفشي الدعارة والمخدرات، السرقة، الاختفاء، الانتحار، الضرب والجرح.. كلها مظاهر لم تكن تُبشر بخير ولم تكن تنم البتة على أن المجتمع المغربي في أفضل أحواله. لكن ما زاد الطين بلة وما أعلن حالة الطوارئ في البلاد هو ما يسمى تجاوزا "أم الجرائم" وما يعرف في الأوساط ب: الجرائم ضد الأصول. "قتل من نوع آخر" جريمة لم تكن ،إلى وقت قريب، تقع على مسامع الناس إلا وملأت قلوبهم فزعا وهلعا وجعلتهم يرددون وقلوبهم وجلة "لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إن هذا منكر"، ومع مرور الأيام استفحلت الظاهرة ولم تعد جرائم القتل ضد الأصول بتلك الجرائم المعدودة على رؤوس الأصابع والتي لا تتصدر صفحات الجرائد إلا نادرا، ولم تعد بتلكم الهالة الكبيرة، وبالتالي فلم يكن هاجسنا من خلال هذا التحقيق رصد الحالاتِ وعدُّها، إيمانا منا بأن الفائدة ليست في جمع الاحصاءات والوقوف عند الحالات بشكل مفصل. ومنه فقد كنا نعزم الوقوفَ عند الأسباب الكامنة وراء هذا النوع من الجرائم، سواء الاجتماعية منها أو النفسية أو الدينية... وذلك لتسليط الضوء على الجانب المظلم من "الجريمة". الفقر، البطالة، الإرهاب، المخدرات، الأسرة، البعد عن الله..احتمالات وغيرها فرضت نفسها بقوة ونحن في صدد محاولة الإجابة عن السؤال: ما الذي يقف وراء هذا النوع من الجرائم؟ وهو ذات السؤال الذي استدعى الوقوف بين أيدي أهل الاختصاص من علماء اجتماع وعلماء نفس وعلماء النفس الاجتماعي وفقهاء.. إن الجرائم ضد الأصول ليست جرائم "مُحدثة" فهي جرائم قديمة قدم البشر، وهنا نستحضر واقعة "قابيل وهابيل". هكذا افتتح الدكتور مصطفى الشكدالي(اخصائي في علم النفس الاجتماعي) كلامه وهو يحاور الإحاطة بالموضوع، قبل أن يضيف: إن أغلبية الجرائم التي تُرتكَب ضد الأصول ترتبط، بشكل كبير، بتعاطي المخدرات، الأمر الذي قد يجعل هؤلاء المدمنين يقدمون على ارتكاب جرائم في حق أقرب الناس إليهم دون شعور بالذنب أو الألم أو الندم، بالنظر إلى أنهم يكونون أثناء ارتكابهم جرائمهم في حالة غياب عن الوعي وفي حالة "»دهانية"« لا يدركون معها خطورة ما يقترفون. وبالتالي جاز القول من وجهة نظر نفسية أن مرتكب جريمة قتل الأصول يكون مصابا بازدواج الشخصية، إذ له شخصية عادية وهي الأصل، وشخصية مرضية يرتكب بها جريمة قتل الأصول، إلى درجة أنه لا يعي جريمته.ولعل هذا ما يفسر صراخ مرتكبي هذه الجرائم في المحاكم "والله ما بغيت نقتلو...راني ما داير والو...واش كاينشي واحد تيقتل والديه" . إن الجرائم التي تُرتكَب ضد الأصول تشي بدرجة كبيرة من الخطورة ومن عدم الوعي ومن الاستهتار التام بحق المواطنين في الحياة، إذ إن هناك جرائم كثيرة ترتكب في الشارع، وهي جرائم خطيرة وغالبا ما تكون ناتجة عن حالة »دهانية«، فبعد أن يدمن الشخص أنواعا من المخدرات يدخل مباشرة في حالة شبه فصامية، وهي حالة يصبح فيها الشخص »مسكونا« ببعض الأفكار والتخيلات، كالشعور بأن أشخاصا يريدون قتله أو تسميمه، وهي، بطبيعة الحال، تصرفات غير عقلانية، وهي التي قد تنتج لنا أشخاصا قادرين على قتل آبائهم أو أمهاتهم وأي شخص في محيطهم. ومن تمظهرات دور المخدرات في هذه الجرائم أن هناك أشخاصا كُثُر يصيرون ،في حالة السكر، عنيفين ولا يستطيعون التحكم في عواطفهم وتصرفاتهم... إن من غير المعقول أن نُصرَّ على أن المخدرات هي السبب الوحيد والأوحد الذي قد يؤدي إلى حدوث مثل هذا النوع من الجرائم، ذلك أن هناك عاملا أساسيا آخر وهو"الصراع العائلي"، سواء تعلّق الأمر بالإرث أو بغيره من المشاجرات العائلية، التي قد تُخرِج الإنسان عن وعيه وتجعله قادرا على الإقدام على أفعال لا تحمد عقباها. وجزءٌ كبير من تلك الجرائم متعلق بالتنشئة والتربية، ذلك أن العلاقات الأسرية المتوترة والمشوبة بالصراعات تكون أكثر عرضة إلى التفكك القيمي والانحلال الخلقي وبالتالي أكثر قابلية لمثل هذه الأنواع من الجرائم؛ فالتوتر الأسري غالبا ما يخلق اضطرابات لدى الابن تكون في بادئ الأمر "رمزية" لتتجسد فيما بعد على مستوى ما هو ملموس ومحسوس ومادي. هكذا يصرح الدكتور الشكدالي قبل أن يضيف: "إن علم النفس الاجتماعي يصر كامل الإصرار ، على أن هناك خللا وعطبا على مستوى التربية وعلى مستوى العلاقات بين الآباء والأبناء".الشيء الذي يبيح لنا أن نقول على أن المجرم قاتل الآباء شخص معوق نفسيا بسبب العاهة النفسية التي اكتسبها من جراء الحرمان العاطفي الذي عاشه في طفولته ونتيجة القسوة والإقصاء والنبذ الذي تعرض لهما، فهو لا يعرف معنى الحنان والإشفاق على الآخرين، وبالتالي فهو لم يشعر بأدنى ذنب أو تأنيب ضمير أو مسؤولية أثناء ارتكاب جريمة القتل، وهذا ما يحدث غالبا في جرائم قتل الأصول. ذلك أنه أصلا شخص مشحون بالحقد والعداء للآخرين نتيجة الرغبات العدوانية المكبوتة لديه، والتي ولدها لديه العنف المادي والمعنوي اللذان مورسا عليه من طرف أسرته، لِيُسقط كل ساديَتِه العدوانية على ضحيته بغرض الانتقام ، ومن أجل إشباع رغبات عدوانية مكبوتة. لقد تصادفنا خلال تتبعنا للظاهرة بوجود حالات قتل ضد الأصول كان محركها "الإرهاب"، حيث أن مجموعة من الشباب كانوا ضحايا أفكار متطرفة ومغالية دفعتهم إلى أزهاق أرواح آبائهم بسبب ما اعتقدوا أنه ممارسة خاطئة وحرام، وعلى اعتبارأن آباءهم عملاء للدولة أو كفار أو مخالفين لتعاليم الدين !! وفي هذا الصدد يرد الدكتور الشكدالي قائلا: إن اللذين يزعمون أن الدِّين كان وراء قتلهم لأحد والديهم بدعوى أنهم مخالفين لأمر الله وأنهم "كفرة" هم على خطأ، ذلك أن الدين لم يبح للمرء بأي وجه من الوجوه قتل والديه حتى لو كانوا على الكفر العلن، وبتالي فإن سلوكه ذاك "مدفوع" بقوى قد تكون مادية أو معنوية، محرضها في غالب الأحيان الفهم الضيق والمتشدد للدين. وبالتالي فإن دعوى الجُناة هذه ما هي إلا محاولة لإعطاء تبرير وشرعية للجُرم، وهو ما يصطلح عليه ب "تبرير المدنس بالمقدس". وهنا عاد الدكتور ليعزز سابق قوله بأن المخدر هو أساس هذه الجرائم بقوله: هذا أيضا تخدير، إلا أنه في هذه الحالة على المستوى "الفكري والايديولوجي". إن كل ما سبق التطرق إليه بخصوص الظاهرة لا ينحصر عند "القتل على المستوى المادي" فقط، ذلك أنه ،وفي حالات عديدة، يتجلى على المستوى الرمزي؛ فإهمال الوالدين، كالزج بهم في دور العجزة، أو عدم الرأفة بهم هو أيضا جريمة في حقهم وبمثابة قتلهم. من اللافت في جل الحالات التي وقفنا عندها أن مرتكب الجريمة ضد الأصول يحاول الانتحار، مؤشرٌ لم نكن لنمر عليه دون أن تطرق أذهاننا علامات الاستفهام، وهو ذات المؤشر الذي دفع بالدكتور الشكدالي أن يُذكِّر أن "الجاني" لحظة ارتكاب جريمتَهُ لا يكون واعيا بما يفعل، ليكون الانهيار العصبي أول ما يتملكه بعد استفاقته من غيه. فتفضيل الجاني للانتحار هو في الحقيقة هروب من ألمه ومعاناته وحسرته على قتل آبائه. وفي هذا السلوك يمكن نقرأ ارهاصات تأنيب الضمير، كما أن هذه الخطوة "الجريئة" قد تكون بدافع نفي التهمة وإعطاء تبريرات وشرعية لجُرمِه، فكأنه يقول عندما يقدم على الانتحار: دلالةً على حسن نيتي وعلى عدم رغبتي في القتل ها أنا مستعد للفداء. إن مقاربة الظاهرة من الناحية الدينية جعلتنا نلجأ إلى أحد أقطاب الفقه الإسلامي في المغرب، الدكتور سلام أبو الريش رئيس شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بالقنيطرة، والذي حاول من خلال إثارة مجموعة من النقاط الإحاطة بالموضوع. إن الجرائم المرتكبة ضد الأصول انتشرت انتشارا خطيرا وذلك نظرا للوضعية المزرية التي تعيشها بعض الأسر المسلمة، وهو انتشارٌ كالذي تحدثه النار في الهشيم، يرجع بالدرجة الأولى إلى غياب الوازع الديني عند هؤلاء، الشي الذي يجعل منهم مُدخلا سهلا للشيطان، ومسوغا لارتكاب أبشع الجرائم وأبغضها عند الله عز وجل، كونَهم يعيشون حالة من عدم الاتزان وفقدان الوعي والصلة بالخالق. هكذا استهل الدكتور كلامه قبل أن يضيف: لقد قرن الله تعالى طاعته بطاعة الوالدين حين قال في مُحكم كتابه: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا"، ولذلك عَدَّ الإسلام العقوقَ من أكبر الكبائر؛ وهو ما يعزز ما ورد عن النبي في الصحيحين حين قال للصحابة: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور"، وفي ذات السياق يورد الدكتور أبو الريش قول النبي: "إن من أكبر الكبائر أن يَسُبَّ الرجل والديه" قال عمرو بن العاص قلنا أَيَسُبُّ الرجل والديه يا رسول الله؟ قال:" نعم، يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه". وبالتالي فإن من حقوق الأصول في الإسلام الطاعةُ والإكرام، وأيُّ إخلال بهذين الركنين ذنب وجريمة استنادا إلى قول النبي "رضى الله في رضى الوالد، وسخط الله في سخط الوالد". فعلاوة على التصدع الاجتماعي الذي تعيش على إيقاعه عديد الأسر المغربية نتيجةَ تناول الشباب للمخدرات، ولنيران الحقد والضغينة التي تملأ قلوبهم بسبب التفاوت المادي أو الثقافي أو الاجتماعي أو العاطفي إلا أن غياب الوازع الديني هو أصل الجرائم وخصوصا المقترفة ضد الأصول ،يضيف الدكتور. على اعتبار أن المؤمن الحق لا يتأثر تحت أي ضغط كيفما كان سواء اجتماعي أو مادي أو غيرهما، وهذا الكلام هو امتداد لقول النبي: "عجبا لأمرِ المؤمن؛ إن أمره كله خير، إن أصابته ضراءُ صبرَ فكان خيرا له، وإن أصابته صراء شَكَرَ فكان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن". إن أيدي الآباء ملطخة هي الأخرى بدماء هذه الجرائم، ذلك أنهم ،كما يقول الدكتور أبو سلام، ينساقون وراء الشهوات والملذات وينسون أن لأبنائهم حقوقاً عليهم؛ وهي حقوق في واقع الأمر لا تقتصر على "تشري ليهم لي بغاو" وإنما على التربية أيضا، فلو قام الآباء بتربية أبنائهم تربية إسلامية صحيحة قائمة على الأخلاق الفاضلة وعلى الخصال الحميدة، التي من شأنها أن تعلِّمَهُم وتُورِثهم قيما انسانية نبيلة من قبيل حبِّ الوالدي وحب الأخوة وحب الوطن وحب الآخر لما تفاقمت الجرائم، إذ أن إهمال الأبناءِ يورِّثُ الحقد ويزرع في نفوس الأبناء الضغينة والكراهية، ويجعل منهم قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة. وبالتالي فإن الآباء ،في نظر الدكتور، "لم يحصدوا إلا ما زرعوا" ذلك أن الجزاء من جنس العمل كما يُقال. إضافة إلى ذلك فإن الأبناء يتشبعون بممارسات آبائهم اتجاه أصولهم، تَأثرٌ ينعكس على تصرفات الابن سواء بالسلب أو بالإيجاب، ولعل هذا ما أراد النبي قوله في الحديث الذي رواه الطبراني بإسناد حسن عن ابن عمر، حيث قال: "بِرُّوا آباءكم تَبُرُّكُمْ أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم" وامتدادا لقول الله تعالى "من يعمل سوءًا يجزَى به". لذا يتعين على المسلم أن يرتبط بالله عن طريق الصلاة والزكاة والصوم وغيرها من الشعائر الدينية التي تُحدِثُ استقرارا على المستوى النفسي، فالرجوع إلى الله وإلى أحضان الإيمان لا محالة هو السبيل إلى الحد من الجرائم بصفة عامة ومن الجرائم ضد الأصول بصفة خاصة. إن الجرائم ضد الأصول من الذنوب التي يجعل الله عقابها في الدنيا قبل الآخرة، استنادا إلى قول النبي في حديث حسن: كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلاَّ عقوق الوالدين والبغي، فإن الله يُعَجِّلُ بصاحبها في الحياة قبل المَمات". ولعل هذا ما يفسر حالات الانتحار التي يُقدِم عليها كل من أقدم في مرحلة سابقة على قتل أحد أبويه، أو ما يُصاب به هؤلاء من حُمْقٍ أو هذيان.. فغضب الوالدين ،يضيف الدكتور، شقاء في الدنيا قبل أن يكون وَبَالا في الآخرة. أنه لمن غير المقبول أن نقول أن وراء استفحال ظاهرة من هذا النوع سبب واحد أو سببان؛ ذلك أن الإقدام على مثل هذه الجرائم يكون نتيجة تظافر مجموعة من العوامل، سواء الاقتصادية منها أو الاجتماعية أو النفسية أو الدينية. إلى أن ما تشي به الظاهرة قيد البحث هو أن المجتمع المغربي عرف انحلالا خلقيا وقيميا خطيرًا، يصل بالفرد أحيانا كثيرة إلى تعنيف أقرب الناس إليه حتى وهو في كامل قواه العقلية، ولعل هذا هو مكمن الخلل. وبالتالي وجب التساؤل وبشكل صارخ: ما هي الجهود المبذولة للحد من استشراء مثل هذه الظاهرة؟ أليس حرياً بالدولة أن تضع ضمن أولوياتها حماية العنصر البشري وحماية الحق في الحياة؟ وأليس يفترض بالمشرع المغربي أن يضع قوانين أكثر صرامة للتعامل مع كل من له يد في مثل هذه الجرائم؟