الدّيمقراطيّة لا يمكن أن تطبّق إلاّ باعتبارها مفهوما لائيكيّا في البدء نستهل حوارنا بأسئلة أساسية: ما هو مفهوم التاريخ؟ ما هي الحقيقة التاريخية؟ ما هي حدود الحقيقة؟ كيف يمكن بلوغها؟ لقد شغل البحث في مفهوم التاريخ الكثير من الباحثين و الدّارسين منذ زمن طويل و مع ذلك فقد اتّسم هذا المفهوم بالتّشعّب والتّعقيد تارة وبالغموض تارة اخرى حتّى عند أهل المهنة. ولعلّ هذا ما جعل جاك لوقوف J.LeGoff يعتبر التّاريخ من أصعب الميادين للتّعريف، و ذلك لإمكانيّة السّقوط في الخلط بين هذا المفهوم ومفاهيم أخرى مثل الماضي والتّراث والذّاكرة. إنّ التّاريخ باعتباره علما لا يتمثّل في استعادة الماضي كما حدث فعلا لأنّ ما بقي من هذا الماضي لا يمكّننا من تمثّله واستعادته كحقيقة نهائيّة. ولعلّ هذا ما جعل البحث في التّاريخ يتطوّر في مناهجه وأدواته بشكل يؤثّر باستمرار على تطوّر النّتائج المتوصّل إليها وربّما قلبها رأسا على عقب. ومثلما يصعب على التّاريخ استرجاع الماضي بكلّ تفاصيله وجزئيّاته مهما تعدّدت أنواع المصادر وتنوّعت المناهج و المقاربات فإنّه يجب استبعاد الخلط بين التّاريخ و التّراث لأنّ التّراث على حدّ تعبير الأستاذ جعيّط هو " كلّ ما ورثته مجموعة أو حتّى الإنسانيّة جمعاء عن الأوائل وفي شتّى الميادين". أمّا التّاريخ فهو استنطاق الماضي القريب أو البعيد لتفهّمه وإفهامه وفكّ رموزه اعتمادا على مصادر لن تعود بصفتها تلك تراثا يرعى أو يحفظ وإنّما وسائل لاستخراج المعلومات بمنهجيّة معيّنة. خلط آخر يمكن أن يقع فيه النّاس بما في ذلك بعض المؤرّخين ويتمثّل في عدم التّفريق بين التّاريخ و الذّاكرة. في هذا الصّدد ذكر لوقوف LeGoff توجد ميولات حديثة يمكن نعتها بالصّبيانيّة تماثل-تقريبا كليّا- بين التّاريخ والذّاكرة، وربّما ترجّح الكفّة لصالح الذّاكرة باعتبارها أكثر"أصليّة" و"صدق" من التّاريخ على أساس سطحيّته وتوظيفه للذّاكرة. صحيح أنّ التّاريخ يمثّل ترتيبا للماضي خاضعا للهياكل الاجتماعية والإيديولوجيّة والسّياسيّة الّتي يعيش ويشتغل فيها المؤرخون.وصحيح أيضا أنّ التّاريخ كان وسيبقى خاضعا للتّوظيف الواعي من قبل الأنظمة السّياسيّة المعادية للحقيقة،غير أنّ الذّاكرة الّتي تمثّل المادّة الخامّ الّتي يعتمد عليها المؤرّخون لكتابة التّاريخ تعتبر في الحقيقة أخطر خضوعا للتّوظيف من قبل الزّمن و المجتمع، وتستوجب تدخّل المؤرّخ لإعادة تركيب المادّة الّتي تحويها وملئ فراغاتها حتّى تؤسّس غرضا علميّا. إنّ التّاريخ يختلف عن التّراث والذّاكرة لأنّه بأدواته ومناهجه كفيلا بتحويل المخزون الثّقافي غير الواعي إلى مادّة مفكّرة تصنع علما. تقوم الحقيقة التّاريخيّة على إعادة تركيب الأحداث بشكل يجعلنا نقترب أكثر ما يمكن لما حدث فعلا، غير أنّ هذا يبقى مرتبطا بطبيعة المصادر المتوفّرة وطبيعة الأحداث أو الظّواهر المدروسة،وحتّى إن توفّر كلّ ما يجب لبلوغ الحقيقة في الماضي القريب أو البعيد فإنّ ما نتوصّل إليه لا يمكن أن يرقى إلى الحقيقة النّهائيّة لأنّ كلّ الحقائق الّتي نتوصّل إليها هي في أغلب الأحيان مؤقّتة في انتظار تطوّرات أخرى تحدث على مستوى تجميع المصادر أو ظهور مناهج و مقاربات جديدة. لماذا دأب التّاريخ العربي والإسلامي على التّحقير من شأن الفلاحة واعتبارها من عمل الأذلاّء، في حين أنّ الفلاحة هي الحلقة الأساسيّة والأوّليّة لكلّ اقتصاد؟. أنا لا أعرف أنّ التّاريخ الإسلامي حقّر من شأن الفلاحة واعتبرها عملا مذلاّ بدليل أنّ المسلمين بدؤوا يتوسّعون على حساب الأراضي الأكثر خصوبة في العالم المعروف آنذاك مثل سواد العراق وحوض النّيل... وقد تمّ الاستحواذ على الواحات الزّراعيّة مثل خيبر وفدك وتيماء الّتي تحوّلت إلى المسلمين منذ عهد النّبيّ. وهذا ما يدلّ على أنّ المسلمين كانوا يعتبرون الأرض والزّراعة مصدرا مهمّا في الحياة. وهذه الأهميّة الّتي كان يعيرها المسلمون للزّراعة لم يكتسبوها مع الإسلام ولكنّها كانت تعود إلى ما قبل الإسلام بدليل وجود حضارات اليمن القديم الّتي تقوم على الزّراعة أساسا، إلى جانب إعطاء هذا القطاع أهميّة حيويّة في الواحات مثل يثرب، وملكيّة أثرياء القرشيّين لأراضي في الطّائف يقضون فيها الصّيف. وعند مجيء الإسلام وانطلاق الفتوحات ركّز كبار الصّحابة على ملكيّة الأرض باعتبارها أساسا رئيسيّا من أسس الثّروة. وبالرّغم من هذا فإنّ العرب المسلمين زمن الفتوحات الكبرى لم يكونوا يمارسون النّشاط الزّراعي بأنفسهم وذلك لانشغالهم بالجهاد وعدم معرفتهم الجيّدة بنشاط الزّراعة مقارنة بالشّعوب الّتي توسّعوا على حسابها، فأقرّوا المزارعين في الأراضي الّتي تحوّلت ملكيّتها إلى المسلمين بوصفهم أشخاصا أو مجموعات لتزرع مقابل دفع الّذين يزرعونها للخراج باعتباره ضريبة على استغلالهم للأرض وهو عبارة عن نصف المحصول، ومن ثمّ لا يمكن البتّة أن نقرّ باحتقار المسلمين للفلاحة حتّى وإن كانوا لا يباشرون خدمة الأرض بأنفسهم. وهذا الأمر لم يقتصر على العرب وحدهم زمن الفتوحات وإنّما اشتركوا فيه مع كلّ المنتمين إلى الحضارات الّتي سبقتهم مثل اليونان والفرس والرّومان... ولا بدّ من أن نشير هنا إلى أنّ العرب العاديّين قد انخرطوا في هذا النّشاط بعد توقّف موجة الفتوحات الكبرى واستقرارهم في أمصار متفرّقة واندماجهم في الشّعوب الّتي توسّعوا على حسابها. في ظلّ ذاك المنهج في التّحليل التّاريخي الّذي يدعو إلى التّحرّر من فكرة جعل الإنسان مركز التّاريخ و صانعه، هل لك أن تفسّري لنا شعار"تاريخ بدون إنسان" لحامله لوروا لادوري Emmanuel Le Roy Ladurie؟ لم أستطع أن أحدّد الإطار الّذي ذكر فيه إيمانويل لوروا لادوري قولته حول أن يكون "التّاريخ بدون إنسان". ولكن بالمعنى الّذي وردت به في هذا السّؤال لا يمكن لي إلاّ أن أعارضها لأنّ التّاريخ ليس له أيّ معنى بدون الإنسان، فالإنسان هو الّذي يصنع التّاريخ لأنّه مصدر الفعل التّاريخي وهو المسؤول عن صيانة موادّه وصياغته من أجل إفهامه للنّاس. ذكر أحد المؤرّخين أنّ العرب كانوا مبادرين ومساهمين وفاعلين في الحضارة الإنسانيّة أيام الأمويّين والعبّاسيّين، في حين أنّ العرب قد خرجوا من التّاريخ منذ الخلافة العبّاسيّة. فما هو ردّك على هذا؟ إنّ مثل هذه الأحكام تبدو شديدة العموميّة وسطحيّة وحتّى اعتباطيّة لأنّ التّاريخ ليس خطّا مستقيما يتوقّف في لحظة معيّنة ليخرج منه أناس ويدخل فيه آخرون. فالعبّاسيّون ظلّوا خلفاء المسلمين من منتصف القرن الثّامن إلى منتصف القرن الثّالث عشر ميلادي، ورغم تمسّكهم بمركزيّة الخلافة فقد تأسّست بالتّوازي مع سلطتهم عدّة كيانات سياسيّة منها ما هو موال لهم مثل الأغالبة في القرن التّاسع ميلادي ومنها ما هو معاد لهم مثل الأمويّون في الأندلس انطلاقا من القرن الثّامن ميلادي والفاطميّون في بلاد المغرب ثمّ مصر ابتداء من القرن العاشر ميلادي. في ظلّ هذه التّعقيدات لا يمكن أن نعرف حسب ما ورد في السّؤال متى كان خروج العرب من التّاريخ في العهد العبّاسي. وحتّى إذا ما سلّمنا أنّ ما ورد في السّؤال يقصد أنّ العرب في العهد العبّاسي لم يعودوا حضارة مهيمنة، فمن الضّروري توضيح أنّ الحضارات الّتي توسّع على حسابها العرب المسلمين تمّ استيعابها بالكامل، وبهذا لم تبق سوى الحضارة البيزنطيّة الّتي لم تستعد هيمنتها على العالم مثلما كان شأنها قبل الإسلام ، فضلا عن بعض الكيانات السّياسيّة الصّغيرة في غرب أوروبا الّتي ورغم التّطوّرات الّتي حصلت فيها لم تصبح قوى سياسيّة واقتصاديّة مهيمنة حتّى بعد سقوط الخلافة العبّاسيّة. هناك بعض المؤرّخين العرب يرون أنّ الأتراك هم المسؤولون عن التّخلّف الحضاري المريع الّذي سقط فيه العرب. وهل أنّ المغرب الأقصى وقلب جزيرة العرب خارج دائرة التّخلّف حسب طرح هؤلاء المؤرّخين باعتبارهما لم يكونا تحت لواء الإمبراطوريّة العثمانيّة؟ إنّ الرّأي القائل بأنّ الأتراك هم المسؤولون عن التّخلّف الحضاري الّذي سقط فيه المسلمون يعتبر حكما مسبقا وفيه كثير من التّجنّي، لأنّ العثمانيّين من وجهة نظر تاريخيّة أسّسوا إمبراطوريّة لا تختلف في أسسها وتوجّهاتها عن الإمبراطوريّات الّتي سبقتها غير أنّها جاءت في إطار تاريخي مغاير مقارنة بأوروبا الّتي شهدت الإنسيّة والنهضة والثورة الصناعيّة، بحيث خرجت أوروبا من النّظام التّقليدي المغلق إلى نظام الحداثة المنفتح والمنتج. في هذا الإطار اكتفى العثمانيّون لظروف تاريخيّة موروثة بإعادة إنتاج نظام سياسي واجتماعي واقتصادي قديم تجاوزته الأحداث بالمنطق الّذي ساد في أوروبا انطلاقا من القرن الخامس عشر ميلادي وبذلك بدأ ميزان القوى ينقلب شيئا فشيئا لصالح أوروبا رمز الحداثة والتّنوير في حين انخرط العثمانيّون في الدّفاع عن مكتسبات الإمبراطوريّة التّقليديّة مع محاولة الانخراط في الحداثة بتقليد أوروبا في كلّ ما من شأنه أن يحافظ على بقاء خلافة المسلمين. من هذا المنطلق لا يمكن تحميل المسؤوليّة للأتراك ونعتهم بكونهم أعداء العرب لأنّ الظّروف السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة كانت قبل مجيء الأتراك لا يمكن أن تنتج إلاّ نظاما مشابها لما أسّسه العثمانيّون حتّى وإن كان هؤلاء المؤسّسين عربا وليسوا أتراكا.
كيف يمكن توخّي الدّقّة والموضوعيّة وكتابة الحقيقة التّاريخيّة عن التّاريخ الرّاهن أو ما اصطلح على تسميّته بتاريخ الزّمن الحاضرle temps présent رغم غياب البعد التّاريخي والمصادر الملتبسة ك "أرشيف الصّدور" وصعوبة تأويل الحدث الآني الّذي لا نعرف بعد نهايته وانعكاساته على مجرى الأحداث؟ انطلاقا من إيماني بأنّ الموضوعيّة ليست حقيقة مطلقة، وأنّ الحقيقة ليست نهائيّة، فإنّ معالجة أحداث الزّمن الحاضر ليس بالأمر المستحيل خاصّة إذا ما توفّرت في المؤرّخ المعني بالأمر كلّ شروط ممارسة الحرفة وخاصّة على صعيد منهجي. إنّ المصادر الّتي يعتمدها مؤرّخ الزّمن الحاضر متنوّعة ومتعدّدة ووفيرة ولذلك وجب عليه توخّي الحذر الشّديد وإلاّ تحوّل عمله إلى عمل صحفي أو خطاب إيديولوجي. وعلى هذا الأساس فإنّ تاريخ الزّمن الحاضر هو ممكن ومفيد شريطة أن يكون المهتمّ بهذا المجال على درجة كبيرة من الحرفيّة والمعرفة. هناك طرح يقول: إنّ علم التّاريخ الماركسي يقتصر على تحليل المظاهر الاقتصاديّة فقط في مجتمع ما، ونعرف أنّ الاقتصاد هو أحد عوامل العمليّة التّاريخيّة وليس القوّة المحرّكة الرّئيسيّة لتطوّر المجتمع. فما هي وجهة نظرك حول هذه المسألة؟ لقد أدّى تنوّع المقاربات التّاريخيّة خلال القرن العشرين إلى تعدّد الأغراض في البحث التّاريخي، فبرز إلى جانب التّاريخ الاقتصادي والاجتماعي التّاريخ الثّقافي وتاريخ الذّهنيّات وتاريخ الأديان والأنتروبولوجيا التّاريخيّة والميكرو تاريخ... لذلك لا يمكن أن يكون الاقتصاد العامل المحدّد في فهم أحداث الماضي وظواهره. على هذا الأساس تتطلّب عمليّة الكتابة التّاريخيّة تدخّل كلّ العوامل ليقع ترجيح عامل على آخر حسب الموضوع المدروس والمقاربة المتّبعة والمعطيات المتوفّرة. يقول إنجلس:» لقد ثبت أنّ الصّراعات السّياسيّة-على الأقلّ في التّاريخ الحديث- هي كلّها صراعات طبقيّة، وأنّ كلّ الصّراعات التّحرّريّة الطّبقيّة رغم شكلها السّياسي الضّروري- لأنّ الصّراع الطّبقي هو صراع سياسي- يدور في نهاية المطاف حول التّحرّر الاقتصادي» إنّ هذه المقولة تؤكّد أنّ التّاريخ السّياسي لا يمكن دراسته دون الأخذ بعين الاعتبار المواجهة بين المصالح الماديّة الاقتصاديّة للقوى الاجتماعيّة والطّبقات المتصارعة فإلى أيّ حدّ يمكن اعتماد العوامل الاقتصاديّة كعلّة أولى في الصّراعات السّياسيّة؟ لقد سبق وأن ذكرت أنّ التّاريخ عمليّة معقّدة ومتشعّبة ولذلك يصعب أن نقرّ بأولويّة العامل الاقتصادي في تفسير التّاريخ من كلّ نواحيه خاصّة إذا ما انعدمت الوثائق الّتي يمكن اعتمادها كحقائق لا يشوبها أيّ شكّ.منذ 1675 أدخل المؤرّخ الألماني كريستوف كيلر تقسيما ثلاثيّا على التّاريخ:التّاريخ القديم- التّاريخ الوسيط- التّاريخ الحديث. هل هذا التّحقيب يصلح للتّاريخ العربي الإسلامي؟ باعتبار هذا التّقسيم الثّلاثي صالح لأوروبا فقط، فكلمة "وسيط" على سبيل المثال تعني بالنّسبة إلى الأوروبيّين الفيوداليّة والتّخلّف الحضاري بينما تمثّل هذه الفترة "الوسيطة" بالنّسبة إلى العرب أزهى عصورهم. يعتبر التّحقيب الأوروبّي الّذي قسّم التّاريخ إلى أربع فترات تاريخيّة تحقيبا اصطلاحيّا لا يتماشى في جزئيّاته حتّى مع التّاريخ الأوروبي لأنّ المؤرّخ جورج دبيG.Duby أوضح أنّ التّاريخ الوسيط لا يمثّل كلاّ متجانسا وإنّما يتكوّن من فترات مختلفة منها ما هيّأ للنّهضة وإدخال أوروبا في العصور الحديثة. أمّا عن مدى تطابق هذا التّحقيب مع التّاريخ الإسلامي فيمكن القول بأنّ اعتماده لا يمكن أن يتجاوز المفهوم الاصطلاحي لغايات بيداغوجيّة بحتة.