نظم المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية بمقره بالرباط ندوة علمية في محور «تحولات القيم الدينية والسياسية في المجتمع المغربي»، بمشاركة أستاذ علم الاجتماع بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء جمال خليل، والفيلسوف محمد سبيلا والأنثربولوجي محمد الصغير جنجار. وقد كانت الندوة، التي نُظّمت مساء السبت الماضي، وقام بتسيير وتنسيق أشغالها الأستاذ عزيز مشواط، إجابة عن أسئلة كبرى من قبيل: ما طبيعة التحولات القيمية التي يشهدها المجتمع المغربي؟ هل تنحو منحا حداثيا أم يغلب عليها التقليد والاستمرارية؟ ما دافعيتها السببية إن كان هناك من سبب؟ وهل تساهم في ترسيخ قيم الحرية والتعايش والتسامح والاعتراف؟ ثم ماذا عن الآراء الشائعة حول ما يتداول إعلاميا من تراجع القيم المجتمعية المسماة «أصيلة»؟ وماذا عن قيم الحداثة وحقوق الإنسان هل ثمة قبول بها؟ الصيرورة الديناميكية لتشكل القيم: في بداية الندوة تطرق جمال خليل إلى الصيرورة الديناميكية لتشكل القيم وانبنائها وإعادة بنائها المستمرة، فيما قارب الباحث محمد الصغير جنجار تحولات القيم الدينية في المجتمع المغربي، أما المفكر محمد سبيلا، منسق الدائرة العلمية للمركز، فقدم مداخلة مكتوبة عن التحديث وتحولات القيم في المجتمع المغربي. وقد كانت التدخلات منسجمة مع أرضية الندوة التي اعتبرت أن اختيار الموضوع نابع من أهمية القيم في «دمغ توجهات المجتمعات الإنسانية نحو التقدم أو التخلف، نحو التحرر والانعتاق أو نحو الماضوية والسلبية، نحو المبادرة الحرة أو الاستكانة والاستسلام، نحو التقدم والازدهار أو نحو التقوقع والانغلاق، نحو الانفتاح والفعالية أو نحو الوثوقية والدوغمائية». وأضافت ذات الورقة أن «الوعي الحاصل بأهمية القيم في مسار تطور المجتمعات الإنسانية، ترتطم بمحاولة البناء العلمي للموضوع بزئبقية «القيم» كونها تتسم بالديناميكة والحركية وعدم الثبات. إنها عصية على التحديد ومنفلتة باستمرار من كل محاولة علمية للقبض على طبيعتها، نشأتها، تحولاتها ومسار تطورها. وعلى هذا الأساس ظلت دراسة القيم خاضعة لمختلف تجاذبات العلوم الإنسانية باعتبار علاقاتها بالحاجات الإنسانية، وبالميول والرغبات، وبالأمنيات البشرية كافة، سواء اتصلت بالحياة الاقتصادية أو السياسية أو التربوية والأخلاقية». جمال خليل: الفرد أمام عروض من القيم وعليه أن يختار القيمة التي يريد: عرض الأستاذ خليل، باللغة الفرنسية، تطرق منذ البداية لمسلمة أن القيم ليست ثابتة بل متحولة، لكن السؤال الذي ينبغي على عالم الاجتماع طرحه هو: كيف القيم هي متحولة؟ لماذا؟ ما العوامل الخفية والظاهرة؟ فالفرد يتشكل بطريقة خاصة، فهو يولد في كنف أسرة، ضمن مجموعة اجتماعية، وفي سياق أنتروبولوجي، لذلك فهو متشبع بالقيم. كما أن هذه المعطيات الاجتماعية والثقافية تقتحم الفرد وتصنع لديه عالما داخليا تستقر فيه عادات العيش والقيم والسلوك. لكننا نلاحظ أن هذا الفرد لا يبقى مشدودا إلى كل ذلك، بل يتغيروينفصل وتتحول قيمه مع الزمن. وأضاف جمال خليل، في تحليله لتحول القيم لدى الفرج، أن المدرسة تلعب مهمة كبرى من الناحية القيمية، بعد الأسرة. كما أن مكان العمل يشبع الفرد بثقافة المقاولة، ثم هناك فضاءات أخرى مختلفة عن هذه الفضاءات المغلقة، إضافة إلى وسائل الإعلام التي تفتح عقل الفرد على قيم عالمية معروضة، دون نسيان الإنترنيت وشبكات الواصل الاجتماعية، إذ أن 85 بالمائة من المغاربة يقتسمون القيم على شبكات التواصل. لذلك فعالم الاجتماع يتساءل دائما: كيف أصبح الفرد الذي أمامي معقدا، ومتعددا، ومتكون من نسيج متعدد الألوان من ناحية القيم؟ ليكون الجواب: إن هذا الفرد متعدد من الناحية القيمية لأن هناك أمامه تعدد الاختيارات في مقابل تعدد فضاءات القيم. لذلك فقد أصبح للفرد حرية قصوى في استقبال وتبني القيم التي يريد. وقد نتج عن ذلك أن لكل فرد تطلع إلى مستقبل خاص به يختلف عن تطلع الفرد الآخر. محمد الصغير جنجار: تحولات القيم الدينية معناه أن الدين يتغير: بدأ محمد الصغير جنجار عرضه بتأطير عدد من الأسئلة: ما هي طبيعة التحولات القيمية الدينية؟ في أي اتجاه تسير؟ هل تعيد إنتاج القيم القديم أم تنتج قيما جديدة؟ ثم أجاب جازما: إن سؤال التغيير في القيم الدينية معناه أن الدين يتغير. فالأنتروبولوجي عندما يتحدث عن القيم لابد أن يراعي مجموعة من القواعد. فهناك مبدأ معروف منذ ماكس فيبر هو «الحياد المنهجي القيمي». ومعناه أنه عندما يحدث صراع بين القيم لا يجب على الباحث أن يفرض اختيار قيمة معينة. فهو كفرد له الحق أن يختار ما يريد ولكنه كباحث، أو عالم، ليس له الحق في إسقاط اختياراته، هذا ما يسميه «فيبر» ب»وثنية القيم». لكن على الباحث أن يتحدث عن السبل والوسائل التي حددها المجتمع سابقا. كما يجب عليه الاهتمام بالفاعل، حامل القيم، وأن يعطي القيمة لما يحمل ولما يمثل، لأن في مجموعة القيم عقلانية معينة، هناك اختيارات فعلية على عالم الاجتماع ان ينفذ إلى تلك العقلانية، لأنها موجودة في سياق ثقافي معين. هذه قراءة لعقلانية الفاعل. واستعان جنجار بعالم الاجتماع «غيرس» الذي أكد أنه يجب التخلص من القراءة الخطية التي تكحون فيها البداية واضحة والنهاية واضحة أيضا. فنحن رغم خبرتنا لا يمكن أن نقول إن هذه الظاهرة بدأت هنا وستنتهي هناك، هذا نفي للتحول، للتغيرات المفاجئة التي لا محالة تحدث. لذلك يجب الاشتغال عن الدين كظاهرة معاصرة لنا لا نعرف مآلها. لابد في هذا السياق من هيرمونتيكا تؤول الثقافات والأديان. هذه هي النتيجة التي توصلت إليها الأنتروبولوجيا. وهو أمر يفرض على الباحث التحلي بالتواضع بعيدا عن النزعة الأكسيولوجية. وفي مفترق العرض عاد جنجار لطرح السؤال: هل الدين يتدبر ويتفكر تحولاته؟ هل رجل الدين يعي تغيره؟ من منظور علم الاجتماع فرجل الدين يعي كل ذلك. لكن منظومة القيم الدينية تُبنى على أصل. هناك شيء في الأصل يمثل، أو ينوب، عن الماضي والحاضر والمستقبل. والمسلم عندما يصلي يكرر الصلة بالأصل، هنا الدين يكرر نفسه، هذا هو براديغم كل دين. إذن، يتساءل جنجار، كيف يمكن للقيم أن تتغير في الدين؟ ليجيب إن الذاكرة الدينية دامجة وجامعة ومندمجة، ولا ترضى بالنشاز. إذن فمبدأ الاستمرؤارية موجود. لكن الدين عندما يفرض سلطته تصبح له قدرة هائلة على امتصاص القيم الجديدة أو تلك الأسئلة التاريخية. لكن من جديد كيف يحصل هذا التغير؟ التغير هو عودة إلى الأصل الصافي، فالسلفيات تعود إلى الأصل الصافي ولا تدعي أنها تغير الدين. وحتى البروتستانتية عادت هي الأخرى إلى المعين الصافي الذي لم تقتحمه المتغيرات الاجتماعية. إذن، يستخلص جنجار، هناك آليات يتجدد بها الدين، أو يجدد بواسطتها نفسه، وهي آلية العودة إلى الأصل الصافي وهذه العودة بذاتها تؤسس لتقليد ديني جديد. والتأصيل نفسه هذا ليس سوى آلية لإعادة صهر عناصر قديمة وبناء سرد جديد وحكاية مختلفة عن الحكاية الأصلية، لكنها متشبهة بها. فالتعددية السياسية التي أسستها أوربا في القرن التاسع عشر يجدها السلفي في عصر النبي محمد، فيعود إلى ذلك العصر لإعادة خلق حكاية جديدة وسرد مختلف. أما فقهاؤنا فقد كانوا يستعملون آلية أخرى: آلية التحريم. فالشاي مثلا كان محرما، ثم أصبح مستحبا، وفي الأخير أصبح قيمة من قيم الكرم ورمزا له. ويستخلص المتدخل ان الدين يعيد بناء القيم ولكنه يظهرها بأنها كانت موجودة في الأصل. فالماضي بعيد جدا ولكنه يصبح نموذجا ومنوالا. محمد سبيلا: التحديث وتحولات القيم خارج الوعي والإرادة: أما الأستاذ محمد سبيلا فقد قدم عرضا مكتوبا عنوانه «التحديث وتحولات القيم» وهو عرض تميل إلى منهج التحليل النفسي، أكد فيه أن المجتمع المغربي انخرط في تحولات قيم عميقة، وهذه العملية يمكن تسميتها «عملية تحديث» على كافة المستويات. وهي صيرورة موضوعية تجري خارج وعي الأفراد وخارج إرادتهم تدخل المجتمع في تحولات سطحا وعمقا وكان قدر مجتمع جمَّده التأخر لعدة قرون، فوجد نفسه في أتون التحولات التي جاء بها الاستعمار. وقد بيَّن السوسيولوجيون ان الاستعمار لعب دورا تحديثيا عالميا، «فالاستعمار هي الأداة التي اتخذ بها وعبرها التحديث طابعا كونيا». وأضاف الأستاذ سبيلا أن التحديث هو جملة من الصيرورات المتداخلة التي تقحم المجتمع في حركية لا نهاية لها. من هنا فالتحديث في مظاهره السطحية يظهر كتعبئة وكتنظيم للموارد والقوى المنتجة وإقامة سلط وإحلال نمط حياة حضري، إضافة إلى نشر التعليم والوعي الصحي. ولطذلك يمكن إجماله في: التأليل(من الآلة) والتشريع وأنسنة الثقافة. فهناك آليتان، يضيف الأستاذ، تستقطبان مجمل عمل علم الاجتماع: آلية التمايز وآلية العقلنة. فكل تحديث هو تمايز، وهي صيرورة يرافقها نوع من الاستقلال النسبي للمجالات. وتمايز الفئات الاجتماعية، وتقسيم العمل. من هنا فهي صيرورة لا متناهية. وآلية العقلنة، يضيف المتدخل، تعني التنظيم والتنسيق وإخضاع الحقول الاجتماعية إلى الحساب والتدقيق والتوقُّع. وهذه الآلية تطال كافة مستويات المجتمع: الاقتصاد، الإدارة، الثاقفة.... وعن نتاج التحديث قال الأستاذ سبيلا إنها عبارة عن تصادم مع المنظومة التقليدية. ونتيجة هذا التصادم يحدث اختلاط القيم والمعايير، بل اندغام المعايير وضياعها وتضببها. فالمجتمع الذي داهمته التحولات وعمليات التحديث يصاب بالشروخ والتصدعات. وهذا أمر ينعكس على وعي الأفراد، وعلى قيمهم، مما يؤدي إلى حدوث أزمة تؤدي إلى ضبابية الرؤية واختلال القيم والمعايير. إذن، يخلص الأستاذ، إلى أن القيم ليست اختيارات فردية. فالاختيارات الفردية والاجتماعية هي معتقدات أو مرجعيات أو يقينيات تفرضها البنيات الثقافية والاجتماعية بنوع من «الحتميات الاجتماعية» في فر ض القيم. لذلك فالتحديث يمارس نوعا من العنف على البيات الاجتماعية التقليدية. وفي النهاية أكد الأستاذ سبيلا آن القيم القديمة لا تطرد القيم القديمة، فهي لا تستطيع، بل هما يدخلان في تفاعل وجدل. كما أن هناك مجالات ومستويات يتراوح فيها هذا الجدل بين التعايش والتصارع، وهذا يتوقف على مستويات ومتغيرا ثقافية واجتماعية.