مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تونس الاستثناء الذي ينير الطريق


بكيت حالة الأمة العربية مرتين:
المرة الأولى، أثناء الغزو الأمريكي للعراق في 20 مارس2003.
لم أكن أتصور حتى في الخيال، أن تقوم دولة ديمقراطية في القرن الواحد والعشرين، وبعد نهاية عهد الاستعمار، باحتلال دولة أخرى بقوة السلاح والنار، لأسباب كاذبة، زعمت أن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل وأنه يدعم ويأوي تنظيم القاعدة، وكانت النتيجة مقتل أزيد من مليون مواطن، وحوالي 4،7 مليون لاجئي عراقي ( 16% من سكان العراق) ، والأكبر من ذلك تدمير وتخريب أغنى بلد عربي، في عملية لازالت تفتك بالجسم العراقي بعد عقد من الزمان .
والمرة الثانية، بعد عقد من الزمان، في صيف 2013، وتحديدا يوم 25 يوليوز 2013، حينما امتدت يد التطرف لاغتيال المناضل اليساري محمد براهمي وقبله الحقوقي اليساري شكري بلعيد في 6 فبراير2013 .
جاءت الاغتيالات من فعل جماعة سلفية جهادية تسمى " أنصار الشريعة "، وكانت تلك لحظة فارقة في المرحلة ما بعد أحداث الربيع العربي التي انطلقت من تونس وشملت مصر وليبيا وسوريا، وهم جناحي الأمة العربية الأسيوي والإفريقي الأكثر كثافة بشريا و الأكثر وزنا اقتصاديا، حينما بدأت آخر قلاع الربيع العربي تهتز وعلى خلفية الاغتيالات شهد الوضع في تونس أزمة سياسية عميقة، اشتعلت فيها من جديد المظاهرات الحاشدة للمطالبة برحيل الحكومة التي يقودها حزب النهضة ذو المرجعية الإسلامية.
وبدى المشهد العربي من جديد: دمار وخراب وقتلى ولاجئين .
سوريا، البلد المتحضر، والشعب المتقف، انقلبت فيها المظاهرات السلمية التي ابتدأت في مارس 2011 إلى حرب أهلية دمرته بالكامل وأتت على الأخضر واليابس، وشردت أزيد من ثلاثة ملايين مواطن سوري في كل دول الشرق الأوسط وبلدان المغرب العربي، وأزهقت أرواح ما يناهز مائتي ألف قتيل إلى حدود اليوم، دون أن يبدو في الأفق أي بصيص نور لحل أو بداية حل للنزاع .
الوضع في ليبيا لا يرسوا على قرار بعد الإطاحة بالقدافي، فإضافة للصراع بين التيار الليبرالي بقيادة محمود جبريل وتيارا لأخوان المسلمين، برزت القوى القبلية " والجهوية "، التي نادى بعضها بإقامة الفيدرالية في الشرق الليبي ( بنغازي ) حيث حاصروا منشآت النفط ومنعوا تصديره في محاولة لانتزاع الحكم الذاتي، وغرق الجنوب الليبي في الفوضى، وغابت مظاهر الدولة ، وسيطرت في بعض مناطقه قوى قبلية، فيما ترك البعض الآخر فريسة المهربين والعصابات المسلحة .
العراق يشهد مذابح يومية بالمئات بسبب التطاحن الطائفى بين الشيعة والسنة والأكراد، ذلك أن كل جذور الأزمة السياسية في العراق بعد الغزو الأمريكي في سنة 2003 تنبع من أن النظام السياسي تم تشكيله على أسس المحاصصة الطائفية .
لكن أخطر تلك الأزمات كان انفجار الوضع في مصر، فبعد المظاهرات الضخمة في 30 يونيو 2013 قام الجيش يوم 3 يوليوز 2013 بعزل الرئيس مرسي واعتقال قيادات الأخوان المسلمين وحل مجلس الشورى وتعطيل الدستور، وفي 14غشت 2013 جرى فض اعتصام رابعة العدوية، في أجواء خيمت عليها الدماء من القاهرة إلى سيناء، في صراع بدى أنه يهدد أهم قلعة عربية .
كان وصول هذا التدهور إلى مصر مؤشرا خطيرا يؤكد أننا نعيش أخطر أزمة عميقة على الكيان العربي، لم يضاهيها سابقا سوى الهجوم الأمريكي في ربيع 2003 على العراق، وتدمير بلد عربي عريق بدون وجه حق، رغم أنف ومعارضة العالم، الذي تحرك من أقصاه لإقصاء لمنع الحرب دون جدوى .
في هذه الأجواء التي كانت تؤرق وجدان الشعوب العربية، برزت شمعة رشيقة بضوء خافت في ظلام عربي دامس وموحش، تضئ قاعة أنيقة بالعاصمة تونس وتحديدا في شارع الحبيب بورقيبة، وأشخاص يقفون مرددين :
هلمو....هلمو لمجد الزمن .
نموت...نموت ويحيا الوطن .
إنه النشيد الوطني التونسي الذي صدع في جنبات قاعة المجلس الوطني التأسيسي الذي احتضن يوم الجمعة 26 يناير 2014 الحدث التاريخي بالمصادقة على دستور الجمهورية الثانية بأغلبية ساحقة، معلنا ميلاد تونس الجديدة، تونس الديمقراطية والحداثة.
لم يكن صدفة أن تنطلق شرارة الربيع العربي الأولى من تونس فيما سمي بثورة الياسمين في 14 يناير 2011، وأن تعيد تونس الأمل من جديد في 26 يناير 2014 بما يجب فعله لاجتياز مرحلة الانتقال الديمقراطي .
لنتعرف في البداية على أهم ما جاء في هذا المنتوج الدستوري .
يتكون الدستور من 149 فصلا موزعة على توطئة وعشرة أبواب .
الفصل الثاني ينص على أن " تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة و إرادة الشعب، وعلوية القانون".
الفصل السادس يؤكد أن " الدولة راعية للدين، كافلة لحركة المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي.
تلتزم الدولة " بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع جميع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها ".
الفصل 21 جاء فيه " المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز".
الفصل 23 " لاتسقط جريمة التعذيب بالتقادم ".
وفي الباب الرابع المتعلق بالسلطة التنفيذية، الفصول من 72 إلى 101، سنلاحظ التعديلات الجوهرية التالية:
ينتخب رئيس الجمهورية بواسطة الاقتراع العام لمدة خمس أعوام، ولا يجوز انتخابه لأكثر من دورتين، ويؤدى اليمين أمام مجلس نواب الشعب، له سلطات محدودة، يمثل الدولة ويضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والخارجية والأمن بعد إستشارة رئيس الحكومة، يرأس مجلس الأمن القومي والقيادة العليا للقوات المسلحة، يعين ويعفى مفتى الجمهورية وفي الوظائف العليا العسكرية والديبلوماسية والأمنية بعد استشارة رئيس الحكومة، يعين محافظ البنك المركزي باقتراح من رئيس الحكومة وبمصادقة اغلبية مجلس النواب، ولهذا الأخير حق إعفاء رئيس الجمهورية في حالة الخرق الجسيم للدستور.
في حين أن لرئيس الحكومة سلطات هامة، فهو يكلف من قبل رئيس الجمهورية من الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب، وهو الذي يختار ويعين ويقيل كافة الوزراء وكتاب الدولة، ويتشاور فقط مع رئيس الجمهورية بالنسبة لوزارتي الخارجية والدفاع، وهو الذي يضبط ويسير السياسة العامة للدولة، والحكومة مسؤولة فقط أمام مجلس نواب الشعب .
ومن خلال ما سبق، يتبين أن الدستور ألغى هيمنة رئيس الجمهورية، كما كانت في ظل دستور 1959، فلم يعد رئيس الجمهورية يستأثر بشكل مطلق بالسلطة التنفيذية، ولم تعد الحكومة مجرد موظفين سامين خاضعين لرئيس الجمهورية، بل أصبحت الحكومة هيئة متمتعة بشخصية مستقلة .
حدد الدستور حقل اختصاص رئيس الجمهورية المتعلق بقضايا الدفاع والأمن والخارجية، بينما رئيس الحكومة هو رئيس مجلس الوزراء، والحكومة تسهر على تنفيذ القوانين وتمارس السلطة التنظيمية " الترتيبية " التي كانت في السابق من اختصاص رئيس الجمهورية.
وبذلك فإن تونس تخطو الخطوة الأولى في إتجاه نظام برلماني، ذلك أنه في الوقت الذي يحافظ على دور مؤسسة الرئاسة، ينزع عنها طابع الهيمنة والتغول، ويطعم الهيكلة الدستورية بقواعد برلمانية تعلي من مكانة الحكومة ودور واختصاص السلطة التشريعية.
وفي الباب الخامس المتعلق بالسلطة القضائية، الفصول من 102 إلى 124، جرى التنصيص أن القضاء سلطة مستقلة، رئيس المجلس الأعلى للقضاء ينتخب من بين القضاة الأعلى درجة، وهذا المجلس يتكون من ثلاث أصناف، ثلثين منهم قضاة أغلبهم منتخبون وبقيتهم معينون بالصفة، والثلث الباقي من غير القضاة من المستقلين من ذوي الاختصاص القانونى .
المحكمة الدستورية التي يؤول إليها مراقبة القوانين، تتركب من أثنى عشر عضوا من ذوي الكفاءة والخبرة القانونية، كل سلطة من السلطات الثلاث تعين أربعة أعضاء: رئيس الجمهورية، مجلس نواب الشعب، والمجلس الأعلى للقضاء .
وقد نص الدستور في الباب السادس على الهيئات الدستورية المستقلة، الفصول من 125إلى 130، وهي : هيئة الانتخابات، وهي التي تتولى إدارة الانتخابات والاستفتاءات، وهيئة الاتصال السمعي البصري، وهيئة حقوق الإنسان، وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.
ومن خلال التمعن في هذا المنتوج الدستوري سنلاحظ أننا أمام ثورة حقيقية، تؤسس لدولة مدنية ديمقراطية حداثية.
قبل أن نبحث في أسباب حدوث هذه الطفرة، والتراكمات التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي كانت وراءها والتي أهلت تونس لهذا الانجاز التاريخي يتوجب إبداء ملاحظتين أساسيتين :
الأولى : لقد تم إعتماد دستور الجمهورية الثانية بأغلبية 200 صوت مقابل 12 وامتناع 4 نواب عن التصويت .
وتجدر الاشارة أن المجلس الوطني التأسيسي يتكون من 217 عضوا، فاز فيها حزب النهضة الاسلامي بالنصيب الأوفر بحصوله على 90 مقعدا، ولهذا الأمر دلالة كبيرة تاريخية سنرجع فيما بعد لتحليل أسبابها العميقة .
الثانية : تونس بلد نامي، حديث العهد بالممارسة الديمقراطية، مشهده الحزبي يتميز بكثرة التنظيمات السياسية التي تصل لحوالي 60 حزبا، وتقاليد الحوار والمنافسة في بداياتها.
بنت تونس هذه الخطوة الهامة على تراكمات تاريخية وجغرافية وسياسية وثقافية أهلتها لهذه المرحلة .
تونس ذات الموقع الاستراتيجي في قلب مهد الخصارات: الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط، المتميزة بتضاريسها المنفتحة السهلة، هي في أن واحد بلد المدن بامتياز، نخص منها بالذكر:
قرطاج، أسست منذ القرن 11 ق م، على يد الفينيقيين وتوالي عليها الرومان والوندال والبيزنطيين، لعبت دور حماية الموانئ التجارية على الساحل الغربي للبحر الأبيض المتوسط .
القيروان، إنشئت عام 670 م إثر الفتح الاسلامي بقيادة عقبة ابن نافع، وهي كلمة فارسية "كيروان" تعنى المعسكر، هي المدينة الاسلامية الأولى، والحاملة للحضارة العربية لإفريقيا وأسبانيا، ولهذه الأسباب لعبت دورا استراتيجيا في الفتح الاسلامي للمغرب الكبير والأندلس وإفريقيا.
الزيتونة : تأسست عام 79 ه، هي أول جامعة في العالم الاسلامي، في رحابها جرى ترتيب المذهب المالكي وتقنينه، تخرج منها آلاف العلماء والمصلحين والزعماء، منهم على سبيل المثال: المؤرخ ابن خلدون، وشاعر تونس أبو القاسم الشابي والمصلح الجزائري ابن باديس .
في عام 1574 م تقع تونس تحت الحكم العثماني، إلى الاحتلال الفرنسي بدءا من سنة 1883 وتحصل على الاستقلال عام 1956.
ومن كل هذا المسار التاريخي كان لتونس اجتماعيا خاصية متفردة عن باقي الدول المجاورة ( ليبيا ? الجزائر ? المغرب) تمثلت في غلبة الحياة الحضرية فيها، نظرا لعدد السكان الذين يعيشون في المدن، بينما كانت القبيلة في تونس هي الاضعف نفوذا والأقل تماسكا.
أدى ضعف البنية القبلية إلى بروز الدور الكبير للدولة المركزية، بما يعني بناء جيش نظامي يعتمد أساسا على تجنيد عناصر من السكان المحليين، وهو ما أهل تونس لتبلور مبكرا لاحساس بالهوية الوطنية الموحدة، الأمر الذي أتاح درجة عالية من التجانس الثقافي عبر التعريب.
هذه الخاصية: نسبة عالية من التمدن، ضعف البنية القبلية، قوة الدولة المركزية، التجانس السكانى عبر التعريب، تبلور الهوية الوطنية، هو ما وفر الشروط لخلق الوعي بالمواطنة، بمعنى الانتماء لكيان وطني أوسع، وهو البند الأول للديمقراطية.
تعتبر تونس من البلدان العربية القليلة التي لم يتورط فيها الجيش في أي انقلاب ضد النظام، موقع تونس الجغرافي وغياب أي صراع قومي خارجي كمصر، أو نزاع ترابي مع دولة جارة، كنزاع الصحراء المغربية، فرض دورا محدودا للجيش في الحياة العامة، تكرس هذا الدور عبر سياسة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة التي أبعدت الجيش عن أي دور في عملية صنع القرار السياسي، بما في ذلك الانتماء للحزب الحاكم، ورفض أن يكون للجيش أي دور في قمع احتجاجات المعارضة . عدم التسليح النوعي للجيش، فالانفاق الحكومي التونسي على الجيش هو الأدنى عربيا، وتحديد دوره في الدفاع عن الحدود الوطنية، كانت هي القواعد الأساسية لمقاربة الدولة لوظيفة الجيش .
مرحلة حكم بن علي ( 1987-2011)
لم تكن حكما للجيش
بن علي رجل المخابرات والأمن بامتياز، فرغم خلفيته العسكرية، فهو أساسا خريج مدرسة الاستخبارات بولاية ماريلاند الامريكية، عين مديرا للأمن العسكري ( 1974) تم مديرا للأمن الوطني ( 1980)، بعد ذلك عين وزير دولة مكلف بالأمن الوطني ( 1985) تم وزيرا للداخلية، وفي أكتوبر 1987 يحتل منصب الوزيرا لأول مع الاحتفاظ بوزارة الداخلية .
طبيعة النظام التونسي آنذاك فرضت تغول الأجهزة والذهنية الأمنية، ومنحت الحرس الوطني والأمن الرئاسي الدور المهمين في الحياة العامة، وكان من حسناتها أن حافظت على الجيش بعيدا عن الاحتكاك مع الشعب والشأن السياسي، مكرسا جهوده لوظيفته الأساسية كدراع عسكري لحماية الحدود الوطنية ، مع العلم أنه يتوفر على تكوين عسكري متميز وهو متجانس وموحد لغياب عوامل الفتنة الطائفية والقبلية، وله قيادة عسكرية ناضجة من أمثال الفريق أول رشيد عمار الذي صرح في 27/1/2011 " أن الجيش لن يخرج عن الدستور ويتعهد ببقاء المؤسسة العسكرية على نفس المسافة من كل الأطراف ورفض الإنخراط في كل عمل سياسي".
البورقيبية كفكر وكمشروع مجتمعي وكحركة، طبعت تاريخ تونس الحديث .
ولد بورقيبة سنة 1903، ويعرف القليلون أن أصوله العائلية من ليبيا وبالضبط من منطقة مصراتة من مواليد مدينة المنسيتر الساحلية، إبن عائلة من الطبقة الوسطى تلقى تعليمه الثانوي بالمعهد الصادقي ثم معهد كارنو بتونس، حاصل على الاجازة من كلية الحقوق والعلوم السياسية من باريس سنة 1927، امرأته الأولى فرنسية تسمى " ماتيلد ".
بورقيبة سليل الحزب الحر الدستوري التونسي الذي تأسس سنة 1920 على يد قسم من النخبة الثقافية الحضرية، خاصة من مدينة تونس، وهو تعبير عن الطبقة المتوسطة المدينية التي ربطت التحرر ببناء نظام دستوري، استلهاما لدستور 1861 في العهد العثماني .
البورقيبية كانت الصيغة العربية المعدلة لتجربة أتاتورك في تركيا، أي التطبيق لمشروع تغريبي في بيئة وتربة شرقية إسلامية، تعتمد البعد التونسي والبعد الأوربي الغربي.
أهم سلبياتها أنها لم تكن ديمقراطية .
كان بورقيبة مهووسا بالزعامة والحكم الفردي، أعدم العديد من معارضيه وأظهر شراسة شديدة في مواجهة خصومه وحتى من رفاقه الأقربين.
لكن أهم حسناته أنه كان عقلانيا في السياسة مؤمنا بقيم التقدم والعصرنة، معتبرا أن التنمية الإقتصادية واللحاق بركب التقدم الغربي هو الجهاد الأكبر، ومن هنا ساهم في بناء أسس الدولة الحديثة والمجتمع العصري، بإقرار مجانية التعليم والحق في العلاج وتوفير التغطية الصحية، وهو ما أهل تونس أن تحتل في التعليم المرتبة الثانية عربيا والمرتبة 41 عالميا .
قاوم بشراسة الشعوبية القبلية وملاك الاراضي الكبار، اتجه نحو احداث طبقة وسطى واسعة لتبلغ 80% من مجموع السكان، بفعل الاستثمارات الكبيرة في القطاع العام والمختلط وبفضل المجهودات التي بذلت في بناء شبكة من المرافق العامة الأساسية التي غطت مختلف مناطق تونس.
ومأثرة بورقيبة الكبرى تطوير الوضع العام للمرأة التونسية باصدار مجلة الأحوال الشخصية في 13 غشت 1956، التي نصت على الحقوق التالية:
- تحديد سن زواج المرأة في 17 سنة ( الفصل 5).
- الولاية في الزواج حق متساو للرجل والمرأة ( الفصل 9).
- الطلاق بيد القضاء ويقع إما بتراضي الزوجين أو بناء على طلب احدهما ( الفصلين 30-31).
ويحكم بتعويض مادى ومعنوي لمن تضرر بالطلاق، ويحكم للمرأة بجراية (نفقة) تؤدى مشاهرة بما في ذلك المسكن، قابلة للمراجعة حسب المتغيرات إلى أن تتوفى أو تتزوج ( الفصل 31).
إصدار قوانين تسمح للمواطنين بالتبني وتسمح للمرأة بالإجهاض
الحركة الاسلامية، ممثلة في حزب النهضة، بدايات التأسيس ترجع لسنوات السبيعينات، لقيت ترحيبا من النظام لمواجهة المد اليساري آنذاك حصلت على الشرعية القانونية في 1 مارس 2011، فازت في أول انتخابات للمجلس الوطني التأسيسي ب90 مقعدا، أي ما يمثل 42% من المقاعد، وهي بذلك أول حزب في تونس.
توجهها إسلامي معتدل أقرب إلى النموذج التركي والماليزي والاندونيسى، نماذج تجمع بين الإسلام والحداثة " [ حسب وصف راشد الغنوشي] عرف قياديوها ومناضلوها الاعتقال والنفي منذ الثمانينات وخاصة خلال عقد التسعينات.
راشد الغنوشي، أبرز زعماء حركة النهضة، ولد عام 1941 تلقى تعليمه في الزيتونة، درس في مصر وسوريا التي حصل بها على الاجازة في الفلسفة، ثم بجامعة السوربون بفرنسا، عاش مغتربا في بريطانيا مدة عشرين عاما، أثرت في تكوينة وتوجهه ونظرته للغرب، وفيها كتب كتابا تحت عنوان " نحن والغرب".
سنة 1995 نشر مقالا في مجلة المنطلق عدد 110 حدد وفيه موقفه من الديمقراطية فيمايلي:
" لا حرج علينا أن نأخذ بأي جديد نافع . الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أينما وجدها، والغرب اقتبس واستورد من علومنا ومعارفنا ما أسس عليه بنيانه ونما به معارفه حتى إذا نمت تلك المعارف التي أسسها على علومنا وجاءت إلينا مع الدبابات الغربية استو حشناها وقلنا هذا كله شيء واحد، لافرق بين دباباته وديمقراطيته وأفكاره، لكن عقلاءنا رفضوا الاسم وأخذوا المسمى...
الديمقراطية اعتراف بالجميع، الديمقراطية مساواة وتداول على السلطة وحق الشعب أن يختار...الديمقراطية ليست أن تختار معارضيك وإنما أن تروض نفسك على الحوار والتفاهم معهم... الديمقراطية كالشورى ليست مجرد أسلوب في الحكم للتعبير عن إرادة الأغلبية أو الإجماع ، وإنما أيضا منهجا للتربية وعلاج التطرف بالحوار...إن الاسلام يمتلك القدرة على استيعاب الصيغة الديمقراطية وترشيدها."
وفي احاديث تلفزية أخيرة بمناسبة التحضير لدستور 2014 حدد الغنوشي موقف حركة النهضة من قضايا جوهرية، منها على الخصوص:
- التنصيص على الشريعة الاسلامية كمصدر للتشريع موضوع خلافي، والدساتير لاتبني على ماهو مختلف فيه، الدساتير تبني على ماهو متفق عليه، ولهذا سحبنا هذا التعديل.
- الشريعة الاسلامية ليست نظاما تفصيليا قابلا للتطبيق في كل زمان ومكان .
- الاسلام يتضمن أصول ومقاصد الفقه ، ولايتضمن نظاما جاهزا للتطبيق .
- العلمانية ليست معادية للدين، مادامت تضمن حرية المعتقد.
- حركة النهضة مع الدولة المدنية، التي لا تستمد الشرعية فيها إلا من الناس، من المحكومين .
- نفضل النظام البرلماني، لكننا توافقنا وتنازلنا بإقرار انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام .
- لم تكن نظرتنا للتاريخ نظرة إنتقام او تشف او رغبة في أن تحل النهضة محل التجمع، نظرتنا لا تفصل بين المحاسبة والمصالحة، بين تطهير الجراح وطي صفحة الماضي.
التيارات العلمانية، تيارات وازنة في تونس بعد الثورة، تمثلها ثلاث انجاهات رئيسية :
- الاتجاه الليبرالي الديمقراطي اللائكي ( حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ) بزعامة منصف المرزوقي، يحتل 29 مقعدا في المجلس الوطني التأسيسي .
- الاتجاه الاشتراكي الديمقراطي ( حزب التكتل الديمقراطي) بزعامة مصطفى بن جعفر، يحتل 20 مقعدا.
- الاتجاه اليساري الجديد، ممثلا في أحزاب:
. الديمقراطي التقدمي بزعامة احمد نجيب الشابي، يحتل 16 مقعدا .
. حزب العمال الشيوعي التونسي، البديل الثوري بزعامة حمة الهمامي، 3 مقاعد.
في هذه العجالة يتعين الوقوف على الدور المتميز الذي لعبه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية أثناء الثورة.
النشأة تعود للدور الذي لعبته شخصية محمد منصف المرزوقي المولود سنة 1945، تكوينه تونسي مغربي، درس بالمدرسة الصادقية بتونس من عام 1957 حتى عام 1961، إلتحق بوالده بمدينة طنجة ودرس بها حتى عام 1964 حاصلا خلالها على شهادة البكالوريا قبل السفر لفرنسا حيث أكمل دراسته الجامعية وتزوج هناك، والده جاء للمغرب لاجئا اثر بطش بورقيبة بتيار بن يوسف ذو الاتجاه القومي، حيث عمل وعاش في المغرب مدة 33 سنة وتزوج من امرأة مغربية ورزق منها بسبعة أبناء يعتبرون إخوة لمنصف المرزوقي، فهو في حد ذاته يشكل عائلة مغاربية الأصول والإنتماء والتاريخ .
كان للمرزوقي دور كبير في تأسيس الرابطة التونسية لحقوق الانسان التي تأسست في 5/7/1977 وهي أول منظمة حقوقية في إفريقيا والوطن العربي، اختير أول رئيس للجنة العربية لحقوق الإنسان من عام 1997 إلى 2000.
كان لحزب المؤتمر حضور نشيط في منظمات المجتمع المدني وفي قطاع المحاماة، لكن إشعاعه الحالي، ونفوذه الشعبي الوازن الآن، إكتسبهُ من قوة إستشرافه وبعد نظره، ومن سداد وشجاعة مواقفه السياسية.
منذ الثمانينات كان تقديره للعوامل التي تختمر في المجتمع التونسي سليما، تنبه مبكرا لدلالات بروز حركة حقوق الإنسان سنة 1977، ولنمو النزعة الاستقلالية عن السلطة، متمثلة في تأسيس أحزاب جديدة على رأسها حركة الديمقراطيين الاشتراكيين سنة 1981، وجمعية النساء الديمقراطيات سنة 1984، وابتعاد الاتحاد العام التونسي للشغل عن الحزب الحاكم وظهور اتحاديين طلابيين أحدهما إسلامي والآخر يساري كلاهما مستقل عن الدولة في نهاية الثمانينات.
كان يقدر دور العوامل الداخلية في المجتمع التونسي، وخاصة منها ثورة التعليم والتقدم الاقتصادي في علاقته بالمناخ الدولي المتجه نحو الديمقراطية اثر إنهيار النظم الاستبدادية في جنوب أمريكا وشرق أوربا ونهضة ثقافة حقوق الانسان.
كما اكتسب هذا الإشعاع والنفوذ من المواقف الشجاعة والمتبصرة التي إتخدها منذ سنة 2005 التي تدعو إلى القطع مع نظام بن علي وتنادي بالعصيان المدني، وأن لاحل سوى الانتفاضة الشعبية السلمية لتحقيق الحرية والعدالة والكرامة.
كما لعب دورا محوريا في التوفيق بين الاتجاهات المختلفة التي يتركب منها المجلس الوطني التأسيسى للوصول لدستور 2014 ، وخاصة اقناع حزب النهضة للوصول لتوافقات وتسويات كبيرة.
المجتمع المدني التونسي، مجتمع له تاريخ عريق، وامتداد شعبي في الفئات المدنية والعصرية خاصة: العمال، النساء، الطلبة ، المحامين، حاملي الشهادات المعطلين، المنظمات الحقوقية، عمودها الفقرى الاساسي:الاتحاد العام التونسي للشغل، هذا الاتحاد الذي تأسس في 20 يناير 1946، هو من أعرق المنظمات النقابية في الوطن العربي وإفريقيا، يصل عدد المنخرطين فيه إلى أزيد من 600 ألف منخرط ، يغطى أهم القطاعات الاقتصادية الخاصة والعمومية، وينغرس في مختلف الشرائح الاجتماعية من عمال وموظفين وتقنيين وأطباء ومهندسين ورجال تعليم ومتقاعدين، تنتشر هياكله في مختلف أنحاء البلاد في المدن الكبرى والمتوسطة والصغرى والقرى، ساهم في النضال الوطني وفي بناء دولة الاستقلال، تميزت علاقاته بالسلطة بين التحالف تارة وبين الصراع والمواجهة في فترات عديدة، يتمتع بمصداقية شعبية واسعة، وتشتغل في هياكله كل التيارات والاحزاب السياسية التونسية، وكل المحاولات لتأسيس بديل عنه ظل التجاوب معها محدودا، مما جعله رقما أساسيا في ثورة الياسمين وفي عواصف الانتقال الديمقراطي .
تدرجت مواقفه بعد اندلاع احداث التضامن مع الشاب البوعزيزي، من الدفاع عن حق الشغل المشروع الى الدعوى لتبني حوار جدي من أجل التنمية المستدامة، والتضامن الميداني مع أهالي سيدي بوزيد، ودعى لاصلاحات سياسية قوامها تعميق الديمقراطية ودعم الحريات، ثم بعد تصاعد الاصطدامات، أدان اطلاق الرصاص على المتظاهرين وقتل الأبرياء، وفي ظل تصاعد الاحتجاجات بادرت الأطر المتوسطة في الاتحاد ونقابتي التعليم الأساسي والثانوي، إلى شن الإضرابات الجهوية والوقفات الاحتجاجية وصولا الى تنظيم المظاهرة الحاشدة التي التحمت فيها جماهير الشعب الغاضبة مع النقابيين بتونس العاصمة والتي انتصبت امام وزارة الداخلية يوم 14 يناير2011 مرددة شعار " إرحل بن علي"، وكان ذلك يوم الرحيل .
وأثناء الازمة السياسية التي عاشتها تونس بعد مقتل الشهيدين : شكري بلعيد ومحمد براهمي، لعب الرباعي الراعي للحوار الوطني، المشكل من: الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل دورا رئيسيا في إخراج تونس من شرنقة أزمة حظيرة، وذلك بالدعوة لاقالة حكومة النهضة وتشكيل حكومة كفاءات وطنية واقرار الدستور وتحديد موعد الانتخابات بعد تشكيل هيئة مستقلة للاشراف عنها.
تونس الاستثناء، هي البلد المتفردة، طابعها غلبة التمدن، ضعف الروابط القبلية،هوية وطنية مبكرة، تجانس سكانى مع توسع حركة التعريب وثورة التعليم، ومن سخرية القدر أن تلعب البورقيبية ذات التوجه الغربي الدور الحاسم في تعليم وتعريب البلاد مع وجود طبقة متوسطة عريضة جدًا .
لكنها تونس رغم ذلك تنير طريق العرب اليوم.
الدولة نتاج توافق إجتماعي عريض
لم يستغل الجيش تعثرات مرحلة الانتقال ليسطوا على السلطة، حافظ على دوره ووظيفته ومهنيته القائمين من جهة، على واجب الدفاع عن الوطن واستقلاله ووحدة ترابه، ومن جهة أخرى على الحياد التام ودعم الشرعية الوطنية الممثلة للإرادة الشعبية.
وفي نفس الآن، لم تعد الحركة الإسلامية ممثلة في النهضة مركزة على قضايا الهوية، بل بلورت بنضج خطابا إسلاميا مستوعبا لمكتسبات الحداثة ومنسجما مع منظومة حقوق الانسان ومحترما للتنوع والتعدد والتعايش، وهو ما أهلها في لحظة الأزمة أن تقبل التنازل عن الحكومة وأن تنخرط في مسلسل توافقي لإخراج دستور جديد .
إن من إحدى اسباب نجاح مسلسل التوافق، وبالأحرى نجاح العملية الديمقراطية يتمثل في نزع الطابع الراديكالي المتطرف عن القوى السياسية الوازنة، وقبولها بمنطق التدرج وابرام التسويات الضرورية وقبولها الاحتكام لقواعد تحظى بالاجماع في إطار الحوار وباعتماد الوسائل السلمية، تعترف بالآخر وتكفل تحقيق جانب من مصالح كل الأطراف .
كان الاساس للوصول لدستور يحظى بالإجماع وجود مساحة من التوافق والتفاهم والثقة أكبر من مساحة الصراع والاختلاف.
ولعل كل الأطراف كانت تدرك أن تكلفة إخضاع خصومها تفوق تكلفة التفاهم والتعاون معهم، وهي تتطلب الاستعداد لإجراء تسويات وتنازلات متبادلة لخفظ حدة الصراع وزيادة مساحة الاتفاق والإجماع، لكونها تعى مخاطر غياب التفاهم العام.
وهي في هذه العملية قد خفضت مستوى الصراع وأتاحت الفرصة غذا للتنافس على السياسات والبرامج المحددة، المتعلقة بما يهم مصالح المواطنين كافة والمتعلقة بقضايا التنمية الاقتصادية وتشغيل الشباب والتعليم وحقوق المرأة .
وهكذا ورغم الاستثناء، يمكن أن يتعلم العرب من تونس .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.