تنظيم وهيكلة أي قطاع من القطاعات، يرتبط بصفة أساسية، بأهداف هذه المؤسسة أو تلك، صغرت أو كبرت، والأهداف لا تنفصل على المكونات الهيكلية والبشرية، والإمكانيات المتاحة لتحقيق، البناء، والهدف منه في نفس الوقت. فالأمر لا يتعلق فقط بالنوايا الحسنة وحدها في أي إصلاح مستهدف، بل لا بد من استحضار الوسائل، المادية، والموارد البشرية، والتناسب الضروري بينها، حتى تتحقق شروط نجاح أي إصلاح، ولعل عدم توفر هذه الشروط، هي التي جعلت منظومة العدالة المغربية، معتلة لحد اليوم، بالرغم من محاولات الإصلاح، طيلة مراحل التاريخ المعاصر للمغرب، كما يتجلى من خلال استعراض هذه المراحل، التي تؤكد التحولات من مرحلة لأخرى، أنها أصبحت قاصرة عن القيام بوظيفتها، وهذا يتجلى في المحطات التي مر منها القضاء المغربي، تنظيمياً وتشريعياً. هكذا فقد كانت الشريعة الإسلامية، هي المطبقة في المغرب قبل الحماية، بالإضافة إلى الأعراف والعادات، التي كان يحتكم إليها سكانه، خاصة في الأقاليم الصحراوية والأمازيغية. وقد كان القضاء في هذه المرحلة، ينعقد لرئيس الدولة (خليفة أو إمام )، باعتبار أن هذه الولاية مستمدة تاريخياً من قاضي المسلمين، محمد بن عبد الله " صلى الله عليه وسلم ". ثم جاءت التحولات التي عرفها العالم الإسلامي، حيث تكالبت عليه، الدول الأوربية، بعد سقوط الخلافة، وانفراط عقدها إلى شعوب ودول. وهكذا وبدخول عقد الحماية على المغرب حيز التطبيق، حاولت فرنسا وإسبانيا، والسلطة الدولية في طنجة، القيام بإصلاحات، بإحداث قضاء عصري، وإلغاء الامتيازات القضائية الأجنبية، الأمر الذي انعكس على القضاء الأصيل، المستند أساساً إلى الشريعة الإسلامية، حيث أحدثت محاكم فرنسية في الجنوب، ومحاكم إسبانية في الشمال، ومحكمة مختلطة ثم دولية، بطنجة، وبقيت الأقاليم الصحراوية والبربرية، تطبق فيها بالنسبة للمغاربة الشريعة الإسلامية، والعادات والأعراف، كما ينص على ذلك قانون 19 أبريل 1961، المتعلق بالنظام القضائي بالصحراء، الذي ينص على أنه في حالة وجود مقتضيات من الشريعة الإسلامية، قابلة للتطبيق، فإنه يقع اللجوء إلى التشريعات الأساسية والمسطرية، المطبقة في جميع أنحاء التراب الوطني. هذا، فيما ظل الباشوات والقواد يمارسون ما تركته لهم الحماية، من اختصاصات في جرائم الأمن العام، بصفتهم مسؤولين عليه، كمحاكم مخزنية، وخصت المحاكم الشرعية بقضايا العقار غير المحفظ، والأحوال الشخصية والميراث، مع بعض الاختصاصات الجنائية في المنطقة الشمالية الخليفية. والجدير بالذكر أن سلطات الحماية الفرنسية، عملت على تحجيم اختصاص المحاكم الشرعية وتقليص دورها، بتكريس القضاء العرفي، في جل القبائل البربرية، لتوسيع واقع التفرقة بين وحدات الأمة المغربية. وهكذا يبدو من خلال الإشارات السالفة، أن تنظيم القضاء المغربي، شهد دينامية متوالية في وضع التشريعات وتنوع المحاكم، بغاية تكريس سلطات الحماية، وزرع بذور التفرقة بين الوحدات الاجتماعية المغربية، التي كان من مظاهرها تعدد المحاكم واختصاصاتها، ودليل ذلك تنوّع المحاكم (شرعية - عرفية - إسرائيلية - مخزنية - عصرية - فرنسية ). وقد ظل الوضع التعددي للتنظيم القضائي، طيلة سنوات سريان عقد الحماية، أي قرابة نصف قرن، إلى أن استرجع المغرب سيادته القانونية كاملة سنة 1956، حيث توالت الظهائر التي كانت غايتها بالأساس، وضع تدابير جديدة للتنظيم القضائي، تجسيداً للسيادة، وتكريساً للوحدة الوطنية، في التشريع والمؤسسات القضائية، التي توجت بتاريخ: 27 - 9 - 1956 بإنشاء المجلس الأعلى، كأعلى هيئة قضائية، تسهر على سلامة تطبيق القانون، بالنسبة لجميع المحاكم المغربية، وجعل حد لرقابة محكمة النقض الفرنسية على الأحكام المغربية، وتعزز هذا التوجه سنة 1965، بصدور قانون التعريب والمغربة والتوحيد، الذي نص على أن : « جميع المحاكم المغربية باستثناء المحاكم العسكرية، والمحكمة العليا للعدل... أصبحت موحدة في المملكة المغربية بمقتضى هذا القانون »، حيث أصبحت المحاكم الوطنية على الشكل التالي : ( محاكم السدد - المحاكم الإقليمية - المحاكم الاستئنافية - المجلس الأعلى ). وقد كان من أهم بنود إصلاح القضاء في هذه المرحلة، ظهير: 7 مارس 1956، الذي ألغى ظهير يوليوز 1954، الذي كان يخول للخلفاء والباشوات في المدن، ممارسة القضاء الجنائي، وظهير 19 مارس1956، الذي ألغى رقابة السلطة التنفيذية على السير الإداري للقضاء، وهذا كان - مبدئياً - نهاية لهيمنة السلطة التنفيذية عن السلطة القضائية، وإرهاصاً أولياً لفصل السلطات. وما تجدر الإشارة إليه، هو أن الإصلاح القضائي الذي تم وضعه بعد الاستقلال إلى حدود سنة1965، ظل وفياً لازدواجية القضاء المغربي، أي المحاكم العادية، والمحاكم العصرية. وبالرغم من الإصلاحات التي جاءت بعد الاستقلال، وبطريقة متواصلة منذ 1956، ومرورا بإصلاحات ما بعد 1965، فإن الواقع المتطور لمؤسسات الدولة، وتطلعات المواطن المغربي، واحتياجات المجتمع، نتيجة التطورات الديمغرافية، والاجتماعية، والاقتصادية، وحتى السياسية، كان لزاماً أن يشهد التنظيم القضائي المغربي، تحولاً أساسياً آخر بتاريخ: 15 يوليوز 1974، صدرت على إثره عدة تشريعات، همت الهيكلة والإجراءات، كان من أبرزها، إحداث محاكم الجماعات والمقاطعات، هذه المحاكم عرفت انتقادات حادة من طرف الحقوقيين، لكون هذا الاختيار، يمس باستقلال القضاء، ويبعده عن المهنية والمعرفة القانونية بالنسبة لبعض القضاة، حيث أسندت اختصاصات قضائية، حتى لمن كان منهم أمياً. إلا أنه بالرغم من ذلك، فإن بعض الفقهاء اعتبر أن أهم قفزة نوعية موالية لظهير، 15 يوليوز1974، كانت هي إلغاء أغلبية المحاكم التي كانت سائدة قبل هذا التاريخ، حيث أصبح التنظيم القضائي، بعد إلغاء ظهير محاكم الجماعات والمقاطعات، مكوناً من المحاكم الابتدائية، محاكم الاستئناف، محكمة النقض. ونظراً للتحولات الشاملة التي فرضتها القطبية الوحيدة، بعد زوال المنظومة الاشتراكية، والاختيارات الناتجة عن هذه التحولات، السياسية، والحقوقية، والاقتصادية، التي كرست عولمة الاقتصاد أو «امركته »، جارى المغرب كل ذلك، بميل التنظيم القضائي المغربي للتخصص، الذي ترجم بتنظيم قضائي إداري، وتجاري، وإحداث أقسام بمحاكم الاستئناف للبت في الجرائم المالية، تعزيزاً للشفافية، وتطبيقاً لربط المسؤولية بالمحاسبة، والرقابة في تدبير المال العام... حيث أجريت دورات تكوينية لمجموعة من القضاة، للتخصص في هذا النوع من القضايا المرتبطة بالمال العام، وخاصة جرائم الرشوة، والاختلاس، واستغلال النفوذ، والغدر... لقد تبنى الدستور المغربي قضاءً رقابياً، يتمثل في المجلس الأعلى للحسابات، كهيئة دستورية عليا، لحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة، والشفافية، والمحاسبة، بالنسبة للدولة، والأجهزة العمومية، يتخذ عقوبات عن كل إخلال بالقواعد السارية على تنفيذ قوانين المالية. يضاف إلى ذلك إحداث المحكمة الدستورية، كجهة دستورية، تختص، بالبت في صحة انتخاب أعضاء البرلمان، وعمليات الاستفتاء، وتحمي الدستور من إمكانية مخالفة القوانين التنظيمية لمقتضياته، وقد نص دستور 2011 على مقتضى هام جديد، في الفصل 133 منه، الذي اعتبر أن «...المحكمة الدستورية، تختص بالنظر في كل دفع، متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف، بأن القانون، الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور ». وبالرغم من كل هذه الإصلاحات المتلاحقة عبر المراحل، والمحطات الأساسية للإصلاح، فإن أهداف القضاء المغربي، مازالت عصية على التحقيق، وشهية الإصلاح والتطوير مازالت مفتوحة على مصراعيها، يغذيها الواقع القضائي المغربي، وما يعيشه من نقائص وأعطاب، تؤكدها النظرة السلبية للمواطن عامة، والمتقاضي بصفة خاصة، الذي مازال ثواقاً لقضاء يوفر ويضمن مساحات معقولة من الحرية، ويغرس الطمأنينة والسكينة، في النفوس، ويوائم بين متطلبات الحرية الفردية، والحياة الجماعية، ومصالح الدولة العليا، ومتطلبات أمن وأمان المجتمع العام. ولعل الأمل معقود، على التفعيل الإيجابي، والجدي لنتائج الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، الذي اسفر عن توصيات وخلاصات، يجب أن تكون قاعدة لإصلاح حقيقي، استثماراً للجهد والوقت والمال، الذي صرف، لتنزيل تلك التوصيات والخلاصات في الواقع، حتى لا تبقى حبراً على ورق.