رأت الجالية المسلمة في إنجاز المسجد الكبير محمد السادس بمدينة سانت إيتيان الفرنسية، لحظة تدشينه منذ أزيد من سنتين، «ليس فقط مفخرة للمسلمين وإنما أيضا لمدينة سانت إتيان ولتراثها المعماري وانعكاسا لصورتها كمدينة جامعة متعددة الثقافات وعالمية القيم». ومنذ ذلك الحين تحول هذا المسجد من معلمة دينية ومعمارية فريدة تأسر الناظر ببنائها وهندستها، التي برع في رسمها صفوة من المبدعين المغاربة في الحرف التقليدية، إلى واحدة من أهم المعالم السياحية للحاضرة الفرنسية. المسجد الكبير .. حلم يتحول إلى حقيقة لم يكن حلم كل من عميده العربي مرشيش، رئيس المركز الثقافي الاجتماعي المغربي بمدينة سانت ايتيان والمهندس المعماري كمال بنعبد الكريم ، حين وضعا طلب الحصول على ترخيص بناء المسجد الكبير محمد السادس بمدينة سانت إيتيان، الذي يتسع لحوالي ثلاثة آلاف مصلي واستغرقت مدة العمل به ثمان سنوات، أي منذ سنة 2004 تاريخ وضع الحجر الأساس لبنائه، لم يكن حلمهما يتجاوز سقف تشييد مسجد يشكل قبلة لكافة مسلمي المدينة وزوارها. لقد عبرت السلطات الفرنسية منذ وضع النواة الأولى للمشروع، عن رغبتها في الانخراط في إنجاز المسجد الكبير محمد السادس بمدينة سانت إيتيان، حيث عملت على تسهيل الجانب الإداري المتعلق ببنائه. إذ قدمت بلدية سانت إيتيان، مقابل التخلي عن أرض المسجد القديم التي تحتاج إليها البلدية، قطعة أرض كبيرة ومعها مبلغ مائة وثمانين ألف أورو وفضاء مدرسيا لتلقين اللغة العربية والثقافة المغربية. إن المسجد الكبير محمد السادس يعد من بين دور العبادة الإسلامية ال4 في المائة التي تزيد مساحتها على ألف متر مربع في فرنسا، المحتضنة على أراضيها ما يقارب 2300 مصلى لما مجموعه خمسة ملايين مسلم ، طالما اشتكوا من صعوبة العثور على المكانة التي يستحقونها داخل المجتمع الفرنسي، في وقت يقف الحد الأدنى المطلوب للمؤمنين، الذين يرتادون دور العبادة للصلاة، في رقم 850 ألف متر مربع عبر التراب الفرنسي. فإلى حدود سنة 2005 كان عدد المساجد التي تتجاوز مساحتها الألف متر مربع لا يزيد عن 34 مسجدا، وهو اليوم قريب من 200 مسجد. المسجد الكبير.. فضاء لنشر ثقافة الإخاء والتسامح بين وقتي صلاة العصر والمغرب يخلع المسجد الكبير محمد السادس بمدينة سانت إيتيان، الذي تم تشييده على مساحة 10 الآف متر مربع،منها 1400 مغطاة، عن نفسه عباءة فضاء الصلاة وأداء أبناء الجالية المسلمة المقيمة بمنطقة «رون ألب» لشعائرهم الدينية، ليرتدي لباس المعلمة الحضارية، قصد إشعاع إسلام معتدل يحرص على نشر ثقافة الإخاء والتسامح. لقد تحول المسجد، الذي أصبح اسمه جزءا من علامات التشوير بمدينة «سانت إيتيان» التي توجه الطريق إلى أبرز فضاءاتها من خلال زيارات موجهة ينظمها، إلى معلمة جديرة بالزيارة «تمكن عددا من الجمعيات والشخصيات الفرنسية ، من غير المسلمين خاصة، من الاستمتاع بجمالية قاعة الصلاة، التي تتسع لأزيد من ألفي مصل ومصلية، وقاعات الوضوء، وكذلك الحمامات التي حرص المسجد أن تستجيب لمتطلبات ذوي الاحتياجات الخاصة أيضا»، يقول بدر طالبي عضو المركز الثقافي الاجتماعي المغربي بمدينة سانت ايتيان، الذي يسير المسجد في حديثه ل«الاتحاد الاشتراكي». تشكل الزيارات المنظمة للمسجد الكبير محمد السادس، الذي يعتبر من المعالم الدينية القليلة التي يمكن زيارتها، وتحظى باحترام المسلمين وغيرهم من ديانات أخرى بالمنطقة وعموم فرنسا، «مناسبة ليس فقط لاكتشاف ما أبدعته يد الصانع المغربي التقليدي، بل فرصة لفتح نقاش متسامح يتسم بتبديد التصورات المسبقة حول الديانة الإسلامية والمسلمين، وتقديم صورة حقيقية عن الدين الإسلامي المبني على الاعتدال والوسطية»، يوضح بدر طالبي. المسجد الكبير.. دلالة الاسم الشريف غير بعيد عن قاعة صلاة المسجد الكبير محمد السادس بمدينة سانت إيتيان، الذي تم تشييد وزخرفته وفق الطراز المعماري المغربي الأصيل، بفضل المهارة اليدوية لحرفيي الصناعة التقليدية المغربية، يوجد مكتب عميد هذه المعلمة الدينية، العربي مرشيش، الذي ما أن تلجه حتى تصادف عيناك رسالة ملكية سامية ينوه فيها جلالة الملك محمد السادس بجهود جميع الفعاليات التي ساهمت في إنجاز هذا الصرح الديني الكبير، ويعلن فيها جلالته لأعضاء المركز الثقافي الاجتماعي المغربي بمدينة سانت ايتيان، موافقته السامية على إطلاق اسم محمد السادس على هذه المعلمة الدينية. «لقد تم بناء هذا المسجد الذي بدأت أشغال تشييده سنة 2004 وتصل طاقته الاستيعابية إلى قرابة ألفين من المصلين، بفضل هبة ملكية»، يشير عميد المسجد الكبير العربي مرشيش. وبلغت تكلفة بناء هذه المعلمة، التي أضحت جزءا من مدينة سانت ايتيان البالغ عدد ساكنتها 300 ألف نسمة، نحو عشرة ملايين أورو تكفل الملك محمد السادس بالقسط الأكبر منها كهبة ملكية. ويوفر المسجد، الذي يجسد انفتاح المغرب على باقي الديانات والثقافات ومد الجسور بين الحضارات والشعوب، فضاء ملائما أمام الجالية المسلمة بالمدينة والبالغة 50 ألف نسمة، بينهم 10 آلاف مغربي، لأداء شعائرها الدينية في ظروف ملائمة توفر الوقار اللازم لمثل هذه العلاقات الروحانية الاستثنائية التي تربط العبد بخالقه. المسجد الكبير.. جوهرة الصانع المغربي لم يتأخر عميد المسجد الكبير محمد السادس بسانت ايتيان، العربي مرشيش ونحن نقوم سوية بجولة استطلاعية لهذه المعلمة الدينية، في الإشارة إلى تألق صومعة المسجد المشيدة وفق التقاليد العربية الأندلسية في سماء حي «صولاي» غير البعيد عن الكنيسة المحلية بساحة «غاريبالدي» بمدينة سانت ايتيان، صومعة بكويرات جامورها النحاسية الأربع، التي تحيل على صوامع شبيهة بتلك التي تعتلي مساجد في المغرب والأندلس مؤشرة على «إسلام يرمز للسلام والتسامح»، يؤكد العربي مرشيش. لقد تمكن المهندس المعماري كمال بنعبد الكريم، وحرص أعضاء المركز الثقافي الاجتماعي المغربي بمدينة سانت ايتيان، على جعل المسجد الكبير محمد السادس معلمة دينية تتلاءم مع الطابع المعماري لمدينة سانت ايتيان، مع تمكينه من صومعة ترتفع بأربعة عشر مترا أشبه بجوهرة تؤثث الفضاء المعماري للمدينة وتنصهر معه، كما هو الحال بالنسبة لعدد من المساجد على الأراضي الفرنسية، وتحترم البيئة التي أنشئت فيها. ويتوفر المسجد الكبير محمد السادس، الذي قام بتدشينه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق بحضور العديد من الشخصيات المغربية والفرنسية وممثلي الديانات المسلمة واليهودية والمسيحية، على مئذنة مزينة بزخارف مغربية صرفة، فيما يزخر من الداخل بالأعمدة المنحوتة والجدران المزينة بالزليج المغربي والسقف المزخرف على الطريقة العربية الأندلسية. فقدتم تزيينه ب 1800 متر مربع من الزليج و2400 متر مربع من الجبص المنقوش. لقد برعت يد الصانع التقليدي المغربي، باغترافه من الهندسة المعمارية العربية والأندلسية، في أن تجعل من المسجد الكبير محمد السادس بسانت إيتيان، جوهرة للصناعة التقليدية المغربية بامتياز، فتمت زخرفة مساحاته الداخلية بزليج متعدد، ألوانه أكثر إضاءة، بترتيب هندسي براق فائق الدقة، زينت بجبص مرصع وبخشب منحوت ومصبوغ، ورصعت قبة قاعة صلاة المسجد بخشب الأرز المرصع بشكل دقيق والمزخرف للسقف الذي تتوسطه ثريا كبيرة أبدعتها، هي الأخرى، أنامل الصانع المغربي. المسجد الكبير.. فضاء للتعليم والتكوين لن يكتمل حلم الجالية المسلمة بمنطقة «رون ألب»، إلا بتشييد مشروع مدرسة لتلقين اللغة العربية والثقافة المغربية والقرآن الكريم ، إضافة إلى خزانة ومتحف بفضاء المسجد الكبير محمد السادس سيكون نسخة مصغرة عن «معهد العالم العربي» بالعاصمة الفرنسية باريس، «فقد استكملت كل التصاميم، ونتوفر اليوم على التصور النهائي للمركز الثقافي الاجتماعي المغربي»، يقول عميد المسجد، العربي مرشيش. يتوقع القيمون على المسجد الكبير محمد السادس أن تنطلق أشغال بناء المركز الثقافي الاجتماعي المغربي، الذي سيشيد على مساحة ثلاثة آلاف متر مربع بمحاذاة المسجد، في بحر السنة الجارية، على أبعد تقدير، ويشير العربي مرشيش، إلى أن «الجهود متواصلة مع كل الشركاء المحتملين لتحقيق هذا المشروع الثقافي، لإيجاد السيولة المالية الكافية قصد انطلاق أعمال البناء». إنه «مشروع ثقافي يضم فضاء للعروض، قاعات للندوات، مكتبة لوسائط الاتصال، متحفا ومدرسة ومركزا للتكوين»، يقول يوسف عفيف مدير مدرسة تعليم اللغة العربية التابعة للمسجد الكبير محمد السادس. فمشروع المركز الثقافي الاجتماعي المغربي، الذي قامت ببلورة تصوره الكامل، مجموعة من المهندسين الفرنسيين من ذوي الكفاءات العالية في مجالات الهندسة والتعمير، «يعتبر معلمة ثقافية واجتماعية من شأنها أن تستضيف، بعد الانتهاء من البناء، الاطفال (260 تلميذا وتلميذة) والبالغين (90 طالبا وطالبة) الذين يتابعون نهاية كل أسبوع دروسهم بفصول المدرسة التابعة للمسجد بحي «مورينو» وسط سانت ايتيان»، يضيف، يوسف عفيف، الذي يتابع حاليا دراسته ضمن الفوج الثاني لتكوين الأئمة بفرنسا بكلية «ليون الثالثة». وهكذا، فإن مشروع المركز الثقافي الاجتماعي المغربي، الذي يعكس خصوصية الثقافة العربية والإسلامية ضمن محيطها الغربي، وذلك «بجعل شكلها الهندسي رافعة لتقديم صورة متجددة عن الدين الإسلامي والثقافة العربية في تفاعلهما الايجابي مع محيطهم المجتمعي الغربي»، يوضح عميد المسجد، العربي مرشيش. إن اعتماد الضوء الهندسي، حيث تنتشر الأشعة الضوئية في الأوساط الشفافة كما تصوره المهندسون لتشييد المركز الثقافي الاجتماعي المغربي، مستلهم من الحضارتين الإسلامية والعربية وعلومهما، وهو ما من شأنه أن يضفي اللمسة الإنسانية على مبنى المركز وإشعاع قيم التضامن وتعزيز الثقافة والتكوين والبحث ويتحول إلى مجال للحوار والتبادل، ضمن مجال حركية ثقافتين إسلامية وعربية في مجتمع غربي. المسجد الكبير.. مفخرة الأجيال القادمة من أبناء الجالية المسلمة أُغادر مكتب عميد المسجد، العربي مرشيش، في اتجاه قاعة الصلاة، بعد أن أنهى محمد باه، مؤذن المسجد، أذان صلاة العصر، فتأكدت من جديد أن بناء معلمة دينية من هذا الحجم لا يمكن إلا أن يكون مفخرة، ليس فقط للمسلمين، وإنما أيضا لمدينة سان إتيان، وهي التي فتحت أبوابها للجاليات المسلمة بالمنطقة، وساهمت في أكثر من فعل ثقافي واجتماعي من بينها حملة التبرع بالدم، معلمة سوف تلمس حقيقة قيمتها المعنوية الأجيال القادمة من أبناء الجالية المسلمة في المنطقة، ومن بينهم المغاربة على الخصوص، في القادم من الأيام حين سيعون قيمة المجهود الذي بذل لإنجاز هذا الصرح الديني، المُشكل لمعلمة دينية ومعمارية فريدة تأسر الناظر ببنائها وهندستها، وسيكتشفون أنه بالرغم من ولادتها العسيرة، يبقى المسلمون إخوة رغم الاختلافات. المسجد الكبير.. رسالة إسلام وسطي تنتهي الزيارة، وما زلت أتذكر، ما تضمنته رسالة جلالة الملك محمد السادس الى رئيس المركز الثقافي الاجتماعي المغربي، العربي مرشيش حين ختم جلالته خطابه بالقول «إننا لندعو الله لكم ولجميع رعايانا الأوفياء من أبناء جاليتنا العزيزة بالديار الفرنسية، بموصول التوفيق والسداد، فيما يسعدهم ويصلح بالهم في تعلق دائم بثوابت هويتهم، عقيدة سمحة، وإسلاما وسطيا ووحدة وطنية متلاحمة في ظل قيادتنا».