الجزائر و"الريف المغربي" .. عمل استفزازي إضافي أم تكتيك دفاعي؟    حقوقيون مغاربيون يحملون الجزائر مسؤولية الانتهاكات في مخيمات تندوف        لفتيت يستعرض التدابير الاستباقية لمواجهة الآثار السلبية لموجات البرد    الاتحاد الأوروبي يمنح المغرب 190 مليون أورو لإعادة بناء المناطق المتضررة من زلزال الحوز    تعزيز وتقوية التعاون الأمني يجمع الحموشي بالمديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية    الرجاء والجيش يلتقيان تحت الضغط    في سابقة له.. طواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية يعبر صحراء الربع الخالي    الوالي التازي يترأس لجنة تتبع إنجاز مشروع مدينة محمد السادس "طنجة تيك"    السكوري يلتقي الفرق البرلمانية بخصوص تعديلات مشروع قانون الإضراب    الإنترنت.. معدل انتشار قياسي بلغ 112,7 في المائة عند متم شتنبر    المدعو ولد الشنوية يعجز عن إيجاد محامي يترافع عنه.. تفاصيل مثيرة عن أولى جلسات المحاكمة    ارتفاع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء الحسيمة    لاعبتان من الجيش في تشكيل العصبة    تكريم منظمة مغربية في مؤتمر دولي    ليبيا: مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي يجدد التأكيد على أهمية مسلسلي الصخيرات وبوزنيقة    "البيجيدي": الشرعي تجاوز الخطوط الحمراء بمقاله المتماهي مع الصهاينة وينبغي متابعته قانونيا    غرق مركب سياحي في مصر يحمل 45 شخصاً مع استمرار البحث عن المفقودين    حموشي يستقبل المديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية بالرباط    المغرب يفقد 12 مركزاً في مؤشر السياحة.. هل يحتاج إلى خارطة طريق جديدة؟    ريال مدريد يعلن غياب فينسيوس بسبب الإصابة    «الأيام الرمادية» يفوز بالجائزة الكبرى للمسابقة الوطنية بالدورة 13 لمهرجان طنجة للفيلم    في لقاء عرف تفاعلا كبيرا .. «المجتمع» محور لقاء استضافت خلاله ثانوية بدر التأهيلية بأكادير الكاتب والروائي عبد القادر الشاوي    تكريم الكاتب والاعلامي عبد الرحيم عاشر بالمهرجان الدولي للفيلم القصير بطنجة    بعد رفض المحامين الدفاع عنه.. تأجيل محاكمة "ولد الشينوية"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    استئنافية فاس تؤجل محاكمة حامي الدين إلى يناير المقبل    نقابة تنبه إلى تفشي العنف الاقتصادي ضد النساء العاملات وتطالب بسياسات عمومية تضمن الحماية لهن    العالم يخلد اليوم الأممي لمناهضة العنف ضد النساء 25 نونبر    بورصة البيضاء تفتتح تداولات بالأخضر    صنصال يمثل أمام النيابة العامة بالجزائر    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    "الكاف" يقرر معاقبة مولودية الجزائر باللعب بدون جمهور لأربع مباريات على خلفية أحداث مباراتها ضد الاتحاد المنستيري التونسي        إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    أسعار الذهب تقترب من أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع    تقرير: جرائم العنف الأسري تحصد امرأة كل عشر دقائق في العالم    مدرب مانشيستر يونايتد يشيد بأداء نصير مزراوي بعد التعادل أمام إيبسويتش تاون        استيراد الأبقار والأغنام في المغرب يتجاوز 1.5 مليون رأس خلال عامين    تقرير : على دول إفريقيا أن تعزز أمنها السيبراني لصد التحكم الخارجي    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    6 قتلى في هجوم مسلح على حانة في المكسيك    أونسا يوضح إجراءات استيراد الأبقار والأغنام    تحالف دول الساحل يقرر توحيد جواز السفر والهوية..    تصريحات حول حكيم زياش تضع محللة هولندية في مرمى الانتقادات والتهديدات    الإمارات تلقي القبض على 3 مشتبه بهم في مقتل "حاخام" إسرائيلي    جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العملية التعليمية بين الدارجة والفصحى من منظور الإسلام
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 22 - 01 - 2014

تذكرني هذه المناقشات الدائرة اليوم في شأن اللغة التعليمية، بالمناقشات التي راجت من قبل في شأن مدونة الأسرة، والذي يعجبني فيهما أن الأولى انتهت بإخراج مدونة الأسرة إلى الوجود، فكان المغرب بها نموذجا حيا في هذا المجال. وأن الثانية كذلك انتهت بهذه الوثيقة التي جاءت بها نخبة من علماء المغرب ومجاهديه في شأن إصلاح التعليم،والتي جاء فيها من جملة ما جاء اعتماد اللغة العربية، وأعتقد أن هذه الوثيقة سيكون لها الدور الفعال في إصلاح التعليم المزمع إنجازه.
ويسعدني أن أكون من بين الذين خاضوا غمار الأخذ والرد في المدونة، كما يسعدني أن أشارك بهذا المقال الخاص بالتفاضل بين اللغة الفصحى والدارجة في العملية التعليمية.
نبدأ بطرح هذه التساؤلات: هل حقا أن اللغة الدارجة هي اللغة الأم؟ وهل حقا أن هناك لغة دارجة أو فصحى يتشربها الطفل وهو لا يزال في بطن أمه؟ وأنه عندما يخرج من بطن أمه إلى هذا الوجود الرحب يجد صدى لما تلقفه من قبل؟
للإجابة عن مثل هذه التساؤلات سلكنا في هذا المقال ثلاث خطوات تدرجية: خطوة لها علاقة بحقيقة اللغة الأم، وخطوة لها علاقة باللغة التعليمية: الدارجة أو الفصحى أو غيرهما، وخطوة لها ارتباط بما يتولد عن اللغة الفصحى أو الدارجة اجتماعيا.
3 خطوات لا بد منها
بالنسبة للخطوة الأولى يلاحظ أن هناك أمرين لفتا نظري في هذه المناقشات الدائرة حاليا على صفحات جرائدنا الوطنية حول التفاضل بين الفصحى والدارجة في التعليم الأولي للأطفال :
أولهما المدح الصادر من البعض، لأولئك المبتعدين في مناقشاتهم عن المقدس، ولعلهم يقصدون به الدين أو القرآن الكريم، علما بأن هذا المصطلح خاص باليهود والنصارى، فالمقدس عند اليهود يراد به العهد القديم، وعند النصارى مجموع العهدين: القديم والجديد (1) وثانيهما التفسير المبسط لما يراد باللغة الأم.
بالنسبة للأمر الأول: أتساءل عن الأسباب الداعية إلى مثل هذه المدح المجاني، علما بأن القرآن الكريم مصدر علمي تتلقى من آياته المعارف والعلوم، مثلما تتلقى من الآيات الكونية، فهما معا كتابان للخالق سبحانه وتعالى. في كتابه الكوني يقول الحق سبحانه: «إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب» (آل عمران 190) ويقول أيضا : «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق» (فصلت 53). وفي الكتاب القرآني يقول الحق سبحانه: «كتاب أنزلنا إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب» (ص29) ويقول سبحانه أيضا في الهداية به : «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» (الإسراء 9) وفي آياته التي تنور البصائر والأبصار يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد» (2).
لنترك هذا جانبا، ولنتساءل عما يمكن أن يمدنا به القرآن الكريم من معارف أو هداية في هذا المجال الذي نتحدث فيه، وأعنى به اللغة الأم، إن كانت هناك من لغة يمكن أن نطلق عليها اسم اللغة الأم.
لكن قبل الولوج إلى عالم الهداية التي يمكن أن يمدنا بها القرآن في هذا المجال، نعرج على ما يقوله السيد نور الدين عيوش. يذكر هذا العالم الذي جاد به الزمان أن اللغة الأم هي ما تتحدث به الأم فيتلقاها الطفل وهو لا يزال في بطن أمه، بناء على أنه -كما يقول- قد ثبت علميا أن الطفل عندما يخرج إلى حيز الوجود، ويلج أبواب الروض فيخاطب بمثل «الجعدة، والشنكلة، والنبرة» وغيرها يتلقاها الطفل بسهولة أثناء تعليمه الأولي، ثم يذكر من جهة ثالثة أن الدارجة عندما تعتمد في التعليم تجعل الهدر المدرسي الذي تعاني منه مدارسنا، يتوارى عن أنظارنا ومسامعنا..
هذه بعض المعالم التي ينطلق منه السيد عيوش ومن لف لفه في الدعوة إلى اعتماد اللغة الدارجة في مدارسنا وتعليمنا، فلنكتف بهذا ونعود إلى ما يمكن أن يمدنا به القرآن الكريم من هداية في هذا المجال، خاصة وأنه يصرح بقوله: «ذلك الكتاب لا ريب، فيه هدى للمتقين» (البقرة 2) وبقوله : «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» (الإسراء 9).
لسان آدم
في البداية يمكن القول : إن الخالق سبحانه وتعالى يخبرنا في كتابه العزيز أنه سبحانه قد علم آدم الأسماء كلها، وأن آدم قد تحدث بهذه الأسماء ، حيث قال في تعليمه الأسماء : «وعلم آدم الأسماء كلها» (البقرة 31) ثم قال في حديثه بهذه الأسماء؛ «قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون« (البقرة 33). ومن تعليمه الأسماء وحديثه بها، تتبين الخصوصية التي برمجه الخالق سبحانه عليها، فكان بها حيوانا متميزا بالنطق من جهة والتفكير من جهة، إذ اللغة هي وعاء التفكير فلا لغة بدون فكر ولا فكر بدون لغة، ولعله سبحانه وتعالى يدلنا بهذا التوكيد بكلمة «كلها» على القواعد المتحكمة في توليد الجمل إذ عن طريقها كان تفوق آدم على الملائكة في التفكير، فالملائكة وإن علموا ما علمه آدم من الأسماء عن طريق عرضها عليهم، فهم لم يكن لهم ذلك الاستعداد أو تلك البرمجة أو القواعد المتحكمة في توليد الجمل، فمن ثم أقروا بالعجز لما طلب منهم التصرف في هذه الأسماء «فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم» (البقرة 30). يقول بعض الباحثين الغربيين عن هذه القواعد أو البرمجة التي تمت نشأة الإنسان عليها والتي سماها المفكر ناعوم شومسكي بالنحو العمومي: «ويبدو أن هناك شكلا موحدا للقواعد والمبادئ الخاصة بتراكيب الجمل وعلمي الصرف والأصوات مع اختلاف طفيف في بعض العوامل الثابتة التي تشبه قائمة الاختيارات» (3).
ويقول باحث آخر عن الحديث بالأسماء أو الكلمات: «إن اللغة نظام منتج أو توليدي، حيث يمكن توليد عدد لا نهائي من العبارات، انطلاقا من عدد محدد من الكلمات التي تعتبر الوحدات الرئيسية المكونة للمعنى... علما بأن حصيلة المفردات لدى البالغ تقدر بنحو: 50.000 إلى 100.000 كلمة. أما بالنسبة للجمل فالأمر مختلف، فنحن لسنا بحاجة لمعرفة الجملة لفهمها، وهكذا يمكننا بسهولة فهم جملة جديدة... انطلاقا من معنى الكلمات التي كونتها، ونستطيع أن نرى أن الأمر بالفعل ناتج عن تدبير محكم للمعنى وليس مجرد نوع من دمج معاني الكلمات التي تكون الجملة، حيث يكفي قلب مكان كلمتين حتى يصبح المعنى مختلفا تماما» (4).
ومعنى هذا أولا أن الملائكة وآدم عليه السلام وإن تساووا في تعليم الأسماء: آدم علمه الله إياها بطريق من الطرق قد يكون عبارة عن استعداد خلقي في الإنسان أو برمجة، والملائكة تم تعليمهم إياها بطريق عرضها عليهم، فإنهم لم يتساووا في توليد الجمل من هذه الأسماء، وذلك لتوافر آدم على قواعد كانت منبثة في تركيبته الجسدية والروحية، بينما الملائكة لم يتوافروا على مثل هذه القواعد في تركيبتهم، ومن ثم عجزوا عن التصرف في الأسماء لما طلب منهم ذلك: «أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين» (البقرة 31) أي صادقين في قولكم: «إني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء»، فأقروا بالعجز حيث «قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم« (البقرة 32)، والذي تم تعليمهم إياه هو الأسماء وحدها دون القواعد أو اللغة الأم، فكان لذلك العجز عن التصرف في هذه الأسماء، بينما تم ذلك لآدم أو للإنسان عامة لما طلب منه ذلك: «قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم» ثم قال الحق سبحانه معقبا على كل ما سبق: «قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون» (سورة البقرة 33).
ثم معناه ثانيا أن ليس هناك من لغة يتلقاها الطفل من أمه وهو في بطنها وإنما هناك برمجة أو أسماء ثم تخزينها في دماغه، يكون الطفل عن طريقها مستعدا لتلقي أية لغة كانت.
ومعناه ثالثا أن جميع اللغات المتولدة من هذه البرمجة لا فضل لإحداها على الأخرى. قال الإمام ابن حزم عن هذا التفاضل : «وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات، وهذا لامعنى له، لأن وجوه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو اختصاص، ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» (إبراهيم 4) وقال تعالى: «فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون» (الدخان 58)، فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام، لا لغير ذلك، وقد غلط جالينوس فقال:«إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما هي تشبه نباح الكلاب أو نقيق الضفادع». ثم قال ابن حزم معقبا على هذا القول: «وهذا جهل شديد لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها فهي عنده في هذا النصاب الذي ذكر جالينوس ولا فرق...»(5).
القرآن الكريم والبرمجة
هذا عن الخطوة الأولى أي عن اللغة الأم التي فسرناها بالبرمجة أو بالاستعداد للنطق الذي تم إنشاء الإنسان عليه، أو تخزين الأسماء في الدماغ، وأما الخطوة الثانية التي لها ارتباط بهذه البرمجة فيلاحظ انطلاقا مما أرشد إليه القرآن الكريم في هذه الآيات التي هي أول ما أنزل منه، وأعني بها قول تعالى: «اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم» (العلق 1-5) أن هناك أمورا يجب أخذها بعين الاعتبار في العملية التعليمية :
-أولها أن قوله سبحانه: «اقرأ باسم ربك» وإن كان خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام فهو خطاب في الوقت ذاته إلى الأمة بكاملها، إذ تقرر لدى علماء الأصول أن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر ونهي فالأمة مخاطبة به ما لم يقم دليل التخصيص...
-ثانيها أن النبي المخاطب بالقراءة ليس له علم بالقراءة التي يراد تعليمها إياه، لقوله تعالى: «وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذن لارتاب المبطلون» (العنكبوت48)، والأمر مثله بالنسبة للطفل عند خروجه من بطن أمه لقوله سبحانه: «والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون» (النحل 78) بمعنى أن هذا الطفل الخارج من بطن أمه ليس له من عالم المعرفة شيء يمكن الركون إليه أو الاتكاء عليه في تعليمه، غير هذه البرمجة المتمثلة من جهة في هذه الأسماء المخزونة في الدماغ، وفي هذه الأعضاء الثلاثة التي هي المفتاح لكل علم، إذ لا يصل للطفل علم إلا من أحد هذه الأبواب الثلاثة، السمع والبصر والعقل»، فما يقال إذن من أن الطفل يسمع حديث أمه، وأن هذا الحديث هو الذي يمهد له طريق المعرفة تكذبه هذه الآية.
-وثالثها أن العملية التعليمية تبتدئ بالخطاب المسموع، ثم يتلوه الخطاب المكتوب، قال تعالى في خطابه للرسول عليه الصلاة والسلام الذي لا علم له بالقراءة ولا بمضامين الرسالة التي يراد تعليمها إياه: «اقرأ باسم ربك» ثم قال فيما يمكن أن يكون خطابا للرسول وخطابا للبشرية: «اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم على الإنسان ما لم يعلم».
-ورابعها أن العملية التعليمية لكي تكون ناجحة مفضية إلى تعليم الإنسان ما لم يعلم، يجب أن يكون هذا الذي يتولاها متصفا بثلاث صفات أساسية: العلم من جهة، والخلق الكريم من جهة ثم جودة الطريقة المبلغة إلى العلم. وكلها مستفادة من هذه الآيات، فقوله تعالى: الذي خلق« ثم قوله سبحانه: الذي علم بالقلم» يستلزم كلا من الخلق والتعليم العلم، أما الخلق «فإن فعل الشيء على صفة مخصوصة ومقدار مخصوص دون ما هو خلاف ذلك، لا يكون إلا بإرادة تخصص هذا عن ذاك، والإرادة تستلزم العلم، فلا يريد المريد إلا ما شعر به وتصوره في نفسه»(6).
وأما التعليم «فإن المعلم لغيره يجب أن يكون هو عالما بما علمه إياه أي عالما بالغاية المقصودة، وعالما بالطريق الموصل، وكذلك الخبرة- وإلا فمن الممتنع أن يعلم غيره ما لا يعلمه هو» (7).
وأما عن الخلق الكريم فيتجلى أيضا من خلال هاتين الصفتين: صفة الخلق، وصفة التعليم، إذ يتبين من صفة الخلق أن الخالق سبحانه وتعالى قد تكرم على الإنسان بمنحه قسطا لا بأس به من الصفات التي يتصف بها هو نفسه سبحانه وتعالى، يقول ابن العربي في قوله تعالى : «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» (التين 4) : «ليس لله تعالى خلق هو أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه، حيا، عالما، قديرا، مريدا، متكلما، سميعا، بصيرا، مدبرا، حكيما، وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم على صورته، يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها، وفي رواية على صورة الرحمن» ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة؟ فلم يبق إلا أن تكون معاني» (8).
-وأما من جهة التعليم فإن من «تأمل الآيات يجد أن الخالق سبحانه وتعالى قد أنعم على الإنسان بالبيانين، البيان النطقي، والبيان الخطي. بالبيان النطقي زالت عجمة الإنسان فارتقى من الحيوانية إلى الآدمية فكان بذلك حيوانا ناطقا مفكرا إذ لم يكن فكر إلا بنطق. وبالبيان الخطي تضبط العلوم وتعرف أخبار الماضين وعلومهم، وتنمو الحضارات وتسمو الأفكار... »(9).
-وأما عن جودة التعليم فيلاحظ كذلك من خلال الآيات أن الخالق سبحانه وتعالى قد ابتدأ العملية التعليمية بإرشاد نبيه صلى الله عليه وسلم، إلى الاعتماد عليه سبحانه بقوله: اقرأ باسم ربك« أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك» (10). فهو جدير بالاعتماد إذ هو الذي خلق كل شيء، وخلق حتى الإنسان الذي هو أشرف ما على وجه الأرض، بمعنى أن من خلق كل الكائنات وخلق الإنسان من تراب، ومن ماء مهين، ومن علق، قادر على أن يجعلك قارئا وإن لم تكن من قبل عالما بالقراءة، وقادر على أن ينتقل بالإنسان من أخس المراتب إلى أعلى المراتب بتعليمه ما لم يكن يعلم، وقادر على أن يعطيك الكثير من النعم التي من ضمنها العلم، دون أن ينتظر منك عوضا، «كأنه تعالى يقول: الإيجاد والإحياء والإقدار والرزق كرم وربوبية، أما الأكرم فهو الذي أعطاك العلم لأن العلم هو النهاية في الشرف» (11).
ويلاحظ كذلك في جودة الطريقة التعليمة هذا التكرار الجامع بين ما يؤخذ من طريق المسموع لسانا كالدروس والمحاضرات وبين ما يؤخذ من المكتوب بالقلم في الكتب والمجلات وغيرها عن طريق المطالعة. يقول الإمام محمد عبده: «لقد ناب تكرار الأمر الإلهي عن تكرار المقروء في تصييرها (القراءة) ملكة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلهذا كرر الأمر بقوله:«اقرأ وربك الأكرم» (12)، ولهذا أيضا كرر جبريل عليه السلام الأمر بالقراءة عند ممارسته العملية التعليمية. فقد «صح في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما تمثل له الملك الذي يتلقى عنه الوحي، قال له الملك : اقرأ. قال رسول الله: ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت ما أنا بقارئ فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق« حتى بلغ «ما لم يعلم». ومعنى هذا أن التكرار ضروري في العملية التعليمية، إن على المستوى النظري أو على المستوى العملي فهو الذي أعطى ثماره، إذ كما هو وارد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها، بدليل أن السيدة خديجة قد «انطلقت به إلى ورقة بن نوفل: فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك: أي اسمع القول الذي أوحي إليه، بمعنى أن ما تعلمه من جبريل قد نقش في قلبه».
ومعنى كل هذا أن الخالق سبحانه وتعالى يرشدنا ، كما هو وارد في قوله: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» إلى أن من يتولى مهنة التعليم يجب أن يكون ذا كفاءة عالية في العلم، بل ذا ملكه فيه وذلك- كما يقول ابن خلدون- لأن «الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه، إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده، والوقوف على مسائله واستباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك المتناول حاصلا» (13) (لاحظنا الكفاءة العلمية في المقطعين من الآيات) ثم بالإضافة إلى هذا الحذق في العلم والتفنن لابد من اتقان طرق التعليم: «وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرماها»(14) (لاحظنا ذلك في الأخذ والرد الذي دار بين الرسول وجبريل عليها السلام عند تعليمه القراءة) ومعنى هذا أن حصول الملكة للمتعلم في العلوم أو الصناعات يخضع لشرطين: جودة التعليم من جهة وملكة المعلم من جهة أخرى إذ يرى ابن خلدون أنه «على قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته« (15) بل يمكن أن يضاف إلى الشرطين شرط ثالث هو الخلق الكريم. فكم من عالم زهد المتعلمون في علمه لفظاظته وغلظ قلبه، وهذا بالتأكيد داخل في جودة التعليم عند ابن خلدون.
لا بالدارجة ولا بالفصحى
وبعبارة جامعة إن العملية التعليمية ليست مرهونة بالدارجة ولا بالفصحى وإنما بإعداد المعلم، فكلما كان المعلم ذا كفاءة عاليه: علما وأخلاقا وخبرة كانت العملية ناجحة لا محالة.
-أما الخطوة الثالثة وهي التي لها ارتباط بما يتولد عن الفصحى أو الدارجة، فيمكن تشخيصها بالعودة إلى القرآن الكريم، إذ فيه يتبين أنه بالرغم من اختلاف الناس في أنسابهم وألوانهم وألسنتهم «ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم» (الروم 22) فإن الحق سبحانه وتعالى مع ذلك قد دعا إلى الوحدة في اللغة مثلما دعا إليها في الدين باعتبار «أن الاتحاد والإيخاء بين الناس وصيرورة الشعوب الكثيرة أمة واحدة لا يمكن أن يتم إلا بوحدة اللغة، وأن الحكماء الباحثين في مصالح البشر العامة، مازالوا يتمنون لو يكون لهم لغة واحدة مشتركة يتعاونون بها على التعارف والتآلف ومناهج التعليم والآداب والاشتراك في العلوم والفنون والمعاملات الدنيوية، وإن كانوا لم يستطيعوا أن يحققوا من أمنيتهم شيئا »(16).
لكن الإسلام استطاع أن يحقق هذه الأمنية وذلك بجعل لغة الدين والتشريع والحكم لغة واحدة لجميع المومنين به، والخاضعين لشريعته، إذ يكون المومنون مسوقين باعتقادهم ووجدانهم إلى معرفة لغة كتاب الله وسنة رسوله لفهمهما والتعبد بهما والاتحاد بإخوانهم فيها... ولذلك كرر في القرآن بيان كونه كتابا عربيا وحكما عربيا، وكرر الأمر بتدبره والتفقه فيه والإتعاظ ، والتأدب به .. بل فرض تعليم اللغة العربية انطلاقا من أن كل ذلك لا يمكن أن يحصل إلا من خلال تعليمها، وقد بسط الإمام الشافعي في رسالته القول في وجوب تعلمها(17).
ثم إلى جانب هذا فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين كل نوع من أنواع التفرق الذي ينافي وحدتهم وجعلهم أمة واحدة كالجسد الواحد. كما شبههم بقوله : «مثل المومنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (18).
وخص بمقته وإنكاره التفرق في الجنس النسبي أو اللغة. فقال من جهة التفاخر بالنسب في حديث مشهور : «كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان» (19). وقال من جهة اللغة فيما رواه الحافظ ابن عساكر بسنده إلى مالك عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هذا؟ (يعني هذا المنافق بالرجل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأوس والخزرج من قومه العرب ينصرونه لأنهم من قومه، فما الذي يدعو الفارسي والرومي والحبشي إلى نصره).
فقام إليه معاذ بن جبل رضي الله عنه فأخذ بتلابيبه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا يجر رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي: إن الصلاة جامعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن الرب واحد، والأب واحد، وإن الدين واحد، (وهو الدين الذي سماه بالإسلام في مختلف أطواره التي مر بها). وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي» فقام معاذ، فقال فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله؟ قال : «دعه إلى النار» فكان قيس ممن ارتد في الردة فقتل»(20).
هذا وليس معنى أن الوحدة والإيخاء بين الناس لا يمكن أن يتم إلا بوحدة اللغة، أن الإسلام ينهى عن تعلم اللغات الأجنبية، فقد جاء في مسند الإمام أحمد، أن جماعة من الصحابة، جاءوا بزيد بن ثابت إلى رسول الله لما قدم المدينة، وقالوا: يا رسول الله هذا غلام من بني النجار معه ما أنزل عليك بضع عشرة سورة، فأعجب ذلك رسول الله، وقال: «يا زيد تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتابي». قال زيد فتعلمت لهم كتابهم. ما مرت خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب»(21).
وجاء كذلك في طبقات ابن سعد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يختار رسله إلى ملوك القوم وعظمائهم ممن يتحدثون بلغات المناطق التي يبعثون إليها (22).
المراجع :
1 -انظر المعجم الوسيط.
2 -الحديث أخرجه في التيسير بطوله عن الترمذي عن علي رضي الله عنه ببعض اختلاف في اللفظ.
3 -موسوعة جامعة كل المعارف، ترجمت بإشراف د. جابر عصفور 2/83.
4 -نفسه 2/60.
5 -الأحكام 1/33.
6 -تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية جمعه وحققه إياد عبد اللطيف القيسي ? دار ابن الجوزي 7/121.
7 -نفسه 7/121.
8 -أحكام القرآن 4/1952 وانظر كذلك القرطبي في تفسيره.
9 -انظر بدائع التفسير لابن القيم جمعه يسرى السيد محمد ? دار ابن الجوزي 3/342.
10 -مفاتيح الغيب للإمام الرازي 32/13.
11 -نفسه 32/17.
12 -الأعمال الكاملة للأستاذ الإمام محمد عبده 5/461.
13 -المقدمة 3/985.
14 -نفسه 3/987.
15 -نفسه 3/923.
16-تفسير المنار 11/258.
17 -الرسالة. ص 48 و ما بعدها
18 - الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
19 - الحديث جاء في مسند البزار من حديث حديفة رضي الله عنه.
20 -انظر تفسير المنار 11/259.
21 -نقلا عن كتاب : هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي ?حنان اللحام- دمشق- دار الفكر، ص:761.
22 -نقلا عن كتاب السيرة النبوية. د. محسن باقر الموسوي- دار الهادي. ص 282.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.