جوديت بوتلر، الفيلسوفة وأستاذة الأدب المقارن بجامعة بيركلي (كاليفورنيا) اشتهرت بأعمالها حول النوع والتي تعتبر مرجعا عالميا مهما في هذا المجال, تتدخل باستمرار في النقاشات العمومية ولاسيما حول الصراع العربي الاسرائيلي. وبمناسبة جمع ونشر أهم نصوصها حول هذا الموضوع في كتاب بالفرنسية تحت عنوان «نحو التعايش» أجرت يومية «ليبراسيون» الفرنسية حوارا مع جوديت بوتلر هذا نصه: في كتاب «نحو التعايش» تقولين في سياق الحديث أنك نشأت في وسط يهودي, وأنك ترتبيت على المستوى الأخلاقي والفلسفي على «القيم اليهودية,» كيف كانت هذه التربية. في فرنسا، أخشى دائما سوء الفهم عندما أقول أنني تربيت في وسط يهودي، أخشى أن يتم تصنيفي «فئوية»، وفي الولاياتالمتحدة الأمور سهلة في هذا الموضوع، كطفلة كنت أذهب إلى البيعة، والداي كانا نشيطين في منظمات صهيونية وتعلمت الصهيونية في البيعة, ذهبت إلى اسرائيل وأنا صغيرة، لكن الكثير من الناس من جيلي تلقوا هذا النوع من التربية وفي نفس الوقت كنا منخرطين في عالم علماني, كنت دائما أذهب إلى المدرسة العمومية، كنت أسكن في حي مختلط ومندمج عرقيا، وكشابة كنت منخرظة إلى جانب والداي في الحركات المدافعة عن الحقوق المدنية، وهو ما كان يعني آنذاك في الولاياتالمتحدة خوض المعارك من أجل المساواة العرقية والنضال من أجل حقوق السود الأمريكيين. كل هذه الامور كانت جزءا من حياتي. من جهة قيم الفئة, أي ماهو يهودي وما ليس يهوديا، ما يجب أن يخشاه اليهود التاريخ والأخلاق اليهودية.. ومن جانب آخر الاحساس بضرورة الانخراط في عالم أوسع والنضال من أجل قضايا لا علاقة لها بعالم اليهود، في الولاياتالمتحدة العديد من اليهود الذين تربوا في عائلات مثل عائلتي وتلقوا نفس التربية، يفضلون عدم اعتبار أنفسهم كيهود, لأنهم لا يتفقون مع السياسات التي تنهجها دولة اسرائيل ولا يمكنني أن اقتنع بذلك. هل تتذكرين لحظة وعيك النقدي تجاه اسرائيل؟ بالتأكيد، عائلتي من ناحية, والدتي قضي عليها من طرف النازيين، وكبرت مع هذا الواقع، وكبرت أيضا مع واقع أن دولة اسرائيل كانت الملاذ الضروري بالنسبة لليهود الفارين من الفاشية في أوربا أو الذين خرجوا من معسكرات الابادة. وفي ذهني كان هذا الرابط بين الابادة واسرائيل قويا، وليس هناك ما يمكن أن يغيره . كبرنا جميعا بهذه القناعة وكل من يعتقد عكس ذلك كنا نعتبره عدونا. وشيئا فشيئا فهمت ان العديد من الدول اقصوا اليهود قبل سنوات 30 40 ,وان سياسات معادية لليهود انتهجتها عدة دول وساهمت في ممارسة الضغط على فلسطين حتى تستوعب هذه الاعداد من اليهود. وشيئا فشيئا فهمت ان الجهود السياسية الملموسة التي كانت ترمي الى إقرار سيادة متقاسمة مع الفلسطينيين قد تم التخلي عنها سنه 1948, وكانت الامور ستأخذ مجرى مختلفا لو أن اليهود تقاسموا السيادة مع الفلسطينيين, او تم إنشاء سلط فيدرالية. وبالتالي كانت مسألة تأسيس دولة اسرائيل مطروحة: على أي اسس وأية مبادئ ارتكزت؟ ماهي عواقب ذلك؟ هل يمكن إعادة تأسيسها؟ هل يمكن اعادة التفكير في الامر على ضوء الصراع اللامنتهي بين الفلسطينيين والاسرائيليين؟ ليس ضروريا التنكر للتاريخ الرهيب الذي قاد الى قيام دولة اسرائيل, من أجل التساؤل ما اذا كانت مبادئ تأسيسها مقبولة, فالمسألتان مختلفتان. كيف يمكن إعادة تأسيس هذه الدولة؟ النقطة الحيوية ستكون هي البدء، في انهاء الاحتلال. الامر قد يبدو مشرعا, ولكن الواقع هو ان ملايين الاشخاص يعيشون تحت الاحتلال بدون اي حق في المواطنة,ليست لهم دولة ولا يشاركون في دولة اسرائيل. و هذا يعني انه يتعين البدء بتحرير هؤلاء الناس باعطائهم حق التصويت. يتعلق الامر اذن باعطاء حق تقرير المصير لجميع من يعيشون فوق هذه الارض. ماهي النتيجة التي سيفرزها مثل هذا الاقتراع؟ لا أعرف, كل هذا هو رهان الحياة الديمقراطية. لا يمكن ان نعارض الديمقراطية بدعوى الخوف من نتيجة الاقتراع. لابد من اقامة شروط الديمقراطية باعطاء الحقوق المتساوية وانتظار رؤية اي نوع من الدولة سيفرزه مثل هذا المسلسل, ربما يتعلق الامر بحل قيام دولتين او بقيام سلطة فيدرالية. او الاستمرار في دولة واحدة يتوجب عليها ان تعطي مكانة لجميع المواطنين. لابد من وضع مثل هذا المسلسل. ويتعين على الناس الذين يعيشون على هذه الارض انجازه. ليست هناك حلول اخرى غير هذه المفاوضات الديمقراطية الصعبة. في كتابكم نحو التعايش, تركزين على تربيتك اليهودية وعلى التقاليد الادبية والفلسفية لكتاب امثال والكر بنجمان, ايمانويل لوفيناس، هانا ارانت، مارتن بوبر، بريمو ليفي لانتقاد السياسة الاسرائيلية. لوفيناس كان من كبار المدافعين عن اسرائيل، كان يعتقد انها كدولة وكأمة ملاذ ضروري لليهود من اجل حمايتهم من الهجمات المقبلة. ارانت كانت بدورها صهيونية من نهاية سنوات 40 حتى بداية سنوات 50, كانت لها علاقة متأرجحة مع اسرائيل. خاضت صراعا مع بوبر من أجل صيغة معنية للصهيونية.وخسرت المعركة بنجمان كان غريبا فيما يتعلق بالصهيونية, حاول شولم اقناعه بالمجئ, كان مهتما بالامر ومتشككا مثل كافكا متأرجحا بخصوص هذه القضية. نريميولي فيي لم يكن يعارض الدولة الاسرائيلية ولو أنه عارض سياساتها عندما اخذ مواقف علنية وقوية ضد قصف صبرا وشاتيلا سنة 1982. لا أعتقد أنه كانت له أفكار و اضحة ومحددة حول الصهيونية، ولكنه كان يعتقد بأن ما كان يحظى بقيمة أكبر في التقاليد اليهودية هو عنصر الشتات. السؤال هو: لماذا اهتم بكل هؤلاء الكتاب الذين يتقاسمون نوعا من التأرجح والإزدواجية فيما يخص الصهيونية؟ لأنهم يمدوني بعناصر التفكير التي تسمح لي ببناء وجهة نظري الخاصة.إنه كم قد يبدو غريبا، ولكنني مفكرة يهودية أمريكية تكونت على الفلسفة والأدب الأوروبي. لوفيناس ليس متأرجحا، ولكنني وجدت في نصوصه مبادئ أخلاقية قربة جدا من مبادئ إدوارد سعيد، أكثر منها لبعض الأفكار القومية. في كتابه حول موسى، يشرح إدوارد سعيد أن اليهود والفلسطينيين شعوب مسروقة وأن تاريخهم المتفرد في الحرمان يجب أن يشكل بالنسبة لهم أساسا لتفاهم متبادل بل و حتى لتحالف. عدم انتقاد اسرائيل أو عدم اعتبار نفسك يهودية: ترفضين هذا البديل، كيف يمكن الصراع على هاتين الواجهتين؟ المهم هو أن تكون جزءا من حركات أوسع، أنا أشتغل مع مجموعة أمريكية تدعى «صوت السلام»، و هناك العديد من المجموعات المماثلة: «أصوات يهودية» في بريطانيا ومجموعات أخرى في الدول الاسكندنافية، هناك على الأرجح أكثر من مليون عضو في هذه المجموعات، وتوجد مجموعات مماثلة في إسرائيل لنا معها علاقات. مجموعات مثل مجموعة «زوشروت» مثلا التي نظمت مؤخرا ندوة مهمة حول حق العودة. من المهم مناقشة هذه القضايا الجوهرية، قضية حق العودة وأيضا قضايا الفوارق وسياسات الاحتلال وطرحها على الساحة العمومية، سواء في إسرائيل أو داخل الجاليات اليهودية في الخارج. إنها ليست معركة يمكن خوضها بشكل منفرد، لابد من التكتل من أجل قطع الطريق على تلك السبة التي تسمى الصمت السياسي. في كتابكم، كيف تتصورون التناغم بين هذه المجموعة من الأسئلة حول العدالة والأخلاق، والمجموعة الأخرى من القضايا التي يعترف لكم العالم بها، أي أعمالكم حول النوع؟ مازلت أشتغل حول قضايا النوع والجنس، وأعتقد أنه يتعين أن نجعل من كل هذه القضايا قضايا العدالة الاجتماعية، ويتعين ربطها بقضايا الفوارق الاجتماعية والاقتصادية العامة والمشاركة السياسية، وبالتالي بناء تحالفات مع الحركات الاجتماعية الأخرى. لا يتعلق الأمر بالاهتمام فقط بالحقوق المدنية الخاصة، والولوج الشخصي للعدالة الاجتماعية و لكن يجب خوض معارك سياسية أوسع. في الولايات المتحددة العديد من المناضلين المنخرطين في سياسة كبيرة يجدون أنفسهم منخرطين في النضال ضد الممارسات المسيئة للأجانب أو ضد العنصرية، وبشكل عام من أجل الدفاع عن حقوق الأقليات. هذه التحالفات أصبحت أساسية وهذا ما لاحظته مؤخرا في اسطمبول، مجموعة مدافعة عن النوع إلى جانب الأمهات الكرديات ومجموعات المثليين مع مجموعات مشجعي نادي رياضي الى جانب المجموعات التي تناضل من أجل إنقاذ الأشجار أو خوصصة الماء. هذه تحالفات مهمة. هذا يحيل على جملة للشاعر محمود درويش وضعتها في مقدمة الفصل الأخير من مؤلفك «لأن الهوية متعددة، فإنها ليست قلعة أو خنادق « نعم، ولكن كذلك: معاناتي ليست المعاناة الوحيدة، لابد لي، وعلى أساس معاناتي، أن أقيم روابط مع معاناة أخرى، بناء إطارات العمل الجماعي وحتى لا أصبح أسير إطاره الهوياتي، إن مشروعي الدائم: بلورة نظرية نسائية لا ترتكز على الهوية. بتصرف عن جريدة ليبراسيون