حضور التكوين الفلسفي في أي مجتمع له دلالته على وضع ذلك المجتمع نفسه، وأما فياب التعليم الفلسفي أو ضعفن أو إضعافه فله دلالة أخرى. ولهدا تم التأكيد، في الكتاب الذي صدر حول وضعية الفلسفة في العالم، وكان عنوانه الفلسفة والديمقراطية، على ارتباط الفلسفة بالديمقراطية ، كما تم عبر هدا التأكيد على علاقة الفلسفة بالحرية. والعلاقة جدلية بين الفلسفة وبين الحرية، بجيث تكون الحرية شرطا لوجود الفلسفة وتطورها في المجتمع، من جهة، كما تكون الفلسفة حين حضورها في المجتمع مصدرا من مصادر تطوير فكرة الحرية في المجتمع، ومنبعا لفكرة بناء المجتمع على أساس الحرية. فالفلاسفة في الغالب دافعوا باستمرار عن الحرية لوعيهم بأنها شرط وجود نمط تفكيرهم. أكد الفيلسوف الألماني هيغل Hegel في كتابه عن تاريخ الفلسفة عن العلاقة الوطيدة بين الفلسفة والحرية. فجوابا عن السؤال عن متى بدأت الفلسفة، يؤكد هيغل أن بداية الفلسفة كانت مع بداية الفكر الحر اللدي يمكنه تأمل الوجود من حيث هو فكر، وتأمل الطبيعة والمطلق بصفته فكرا شاعرا بحريته وواعيا بها. والمقصود بالفكر الحر هنا الفكر الفردي كما بدا عند حكماء اليونان القدماء الدين أرجع كل منهم الطبيعة إلى عنصر من العناصر. إدا عدنا في تاريخ الفلسفة إلى القرن السابع عشر، وبحثنا في الأمر عند ديكارت الدي افتتح عصرا جديدا للفلسفة،فإننا نجد هدا الفيلسوف طلب الحق في إمكانية إعادة بناء الأفكار على أساس التفكير فيها عن طريق عقله الفردي، وافتتح الفلسفة بالأنا أفكر. والعصر الممتد من ديكارت إلى هيغل سمي أحيانا بعصر الذات المفكرة، والتي يقتضي تفكيرها أن تكون حرة.في تفكيرها. يتلاءم مع هذا المعنى ما أكدته قبل الآن عن المغامرة الفكرية للفيلسوف التي خصصت لها مقالا سابقا بينت فيه أن من مظاهر المغامرة الفكرية للفيلسوف أنه يوقع كلامه بصفته الشخصية متحملا مسئوليته ، علما بأن كلامه لايسير في اتجاه ماهو قائم، بل وفي كثير من الأحيان في اتجاه نقد الأفكار السائدة، والفيلسوف من أجل هدا في حاجة إلى الحرية. تناولت الموضوع أيضا في إطار تربوي عام في مقال سابق عن التعليم والحرية، وضمه في اللاحق كتابي عن التعليم بين الثوابت والمتغيرات ، حيث أكدت أن الحرية شرط للتكوين بصفة عامة فالتعليم الذي تكون من مهامه نقل المعارف والمكتسبات السابقة للجيل الذي يكون في مرحلة التكوين، لن ينجح في مهمته التكوينية حين يقتصر على طريقة تلقين المعلومات التي يكون من وظيفة المتعلم في إطارها حفظ تلك المعلومات والمعارف التي تقدم له، ويكون توفيقه مرتكزا على ترديد تلك المعارف. التعليم الذي يتبع هده الطريقة في التكوين ويقدم للمتعلم بها المعلومات ، فلا يشركه في بنائها، لايعلم المتكون التفكير الحر الذي هو أساس التجديد والإبداع في جميع الميادين. في إطار التكوين السابق لايكون للفلسفة مكانها الذي تستطيع به أن تلعب دورها الإيجابي بوصفها نتاجا لتفكير ذوات حرة. ويبدو هدا الأمر على مستويين: فالتعليم الذي تغيب فيه الحرية أو يكون حضورها ضعيفا يكون دافعا لظهور مواقف مضادة لتعليم الفلسفة، لأنه إذ يكون مضادا للحرية يكون معارضا لحضور تعليم فلسفي قوي ضمن مخططات التكوين بصفة عامة. حيث إننا نكتب هذه الكلمة في إطار الاحتفاء باليوم العالمي للفلسفة، فإننا نرى أن على كل مجتمع، ويعنينا هنا المجتمع الذي ننتمي إليه، أن يبني استراتيجية تكوينية تكون غاية التكوين فيها هي تكوين ذوات تكونت على الحرية الفكرية وتمارس تفكيرها في كل القضايا بما فيها القضايا المجتمعية بصفة عامة في إطار تلم الحرية الفكرية. حينما يتم بناء المجتمع وفق استراتيجية تكوينية تكون للحرية فيها مكانة مركزية، وعندما نعنل على تكوين الأجيال وفق تلك الاستراتيجية، فإننا نكون المواطن الحر القادر على اختيار أفكاره ومواقفه المجتمعية والفكرية، بل وحتى السياسية على أساس اختيار حر لاعلى أساس تبعية تضعف شخصيته وتجعله على هامش الحياة المجتمعية. وحين تكون تلك هي الاستراتيجية التكوينية التي نختاره قائمة على الحرية، فتقوم العملية التربوية على هدا الأساس، فإن الفلسفة تكون لها مكانتها ضمن التكوين.