ظلت سيرة أحمد الريسوني مصدرا متجددا للكتابة وللتأمل وللبحث وللتنقيب، على امتداد فترات زمنية طويلة. وظلت مغامراته ومواقفه تجاه القوى المؤثرة في أوضاع المغرب خلال العقود الأولى للقرن العشرين، مثار خلاف عميق بين المؤرخين والباحثين والمهتمين، سواء من داخل المغرب أم من خارجه. لا يتعلق الأمر باستقراء تنقيبي في خبايا أدوار الريسوني تجاه المخزن أولا وتجاه مجتمع منطقة جبالة بشمال المغرب ثانيا، ثم تجاه مختلف القوى الأجنبية وتحديدا إسبانيا ثالثا. ولا يتعلق الأمر ? كذلك ? بمحاولات التصنيف النمطي بين أدوار البطولة والعمالة، الجهاد والخيانة، الوفاء والظلم، الحلم والاستغلال، ... بقدر ما أن الموضوع أضحى يستلزم إعادة التقييم العلمي لتفاصيل التجربة الريسونية داخل محيطها الإقليمي الضيق المحصور جغرافيا بمنطقة جبالة بشمال المغرب، في علاقة ذلك بمختلف الامتدادات الجهوية والوطنية والدولية الواسعة، وتحديدا على مستوى الحيثيات التي رسمت علاقة الريسوني بفاعلي منطقة الريف بشمال المغرب وبعموم القوى الوطنية بالمركز، ثم بإسبانيا ، خاصة منذ تبلور موقف الريسوني الداعم للإنزال العسكري الإسباني بمدينة العرائش سنة 1911 والذي انتهى باحتلال هذه المدينة ثم مدينة القصر الكبير. ولعل من حسنات البحث التاريخي المعاصر المتخصص في تحولات ماضي منطقة الشمال، اكتسابه الجرأة العلمية لإعادة مقاربة قضايا الظاهرة الريسونية، بعيدا عن الأحكام المستنسخة المتوارثة في الإسطوغرافيات الكلاسيكية المتعددة المرامي والأهداف، سواء منها الكولونيالية التسلطية أم العائلية العاطفية أم النزوعية المصلحية المرتبطة بتدافع المصالح الآنية التي لازالت تعيشها منطقة الشمال بفعل بعض المبادرات والمواقف والقرارات الموروثة عن هيمنة الريسوني ? في ظروف تاريخية سابقة ? على المنطقة الغربية لشمال المغرب، في سياق تفكك سلطة المخزن وتزايد الضغط الأوربي الاستعماري على بلادنا عند مطلع القرن العشرين. وبموازاة هذا الاهتمام الوطني المتزايد بتوسيع آفاق البحث في وثائق أحمد الريسوني على اختلاف أصولها ومصادرها وطبيعتها، حظي الموضوع باهتمام متزايد بالخارج، من خلال سلسلة من الإصدارات المتواترة بالعديد من الدول الأجنبية، وعلى رأسها إسبانيا وفرنسا والولايات المتحدةالأمريكية. وبفعل هذا التراكم، أصبح بالإمكان توفير الأرضية الضرورية للبحث في الملفات الملتهبة في سيرة أحمد الريسوني، بعيدا عن إكراهات مرحلة الضغط الاستعماري وارتداداته على الكثير من قضايا واقعنا الراهن. فلم يعد من المقبول غض الطرف عن كل الإصدارات ذات الصلة بالموضوع، تحت مبرر روحها الاستعمارية وطبيعتها الوظيفية، ذلك أن هذا المبرر لم يعد يقنع الباحثين في شيء، لاعتبارات متعددة، لعل أبرزها قدرة مناهج البحث التاريخي المعاصر على اكتساب عناصر التفكيك والتحليل والتقييم الضرورية لبلورة المنطلقات الإجرائية المؤسسة للقراءات النقدية البديلة. فلا يهم أن تطفح الروح الاستعمارية من بين المتون، مادام النقد التاريخي يوفر أدوات التمحيص الضرورية للكشف عن السياقات وإبراز التناقضات وتوضيح الانزياحات على اختلاف أصولها وعلى تعدد مظاهرها وعلى تلون خلفياتها. في إطار هذا الاهتمام المتجدد في أوربا بتقليب صفحات الحركة الريسونية، يندرج صدور الترجمة الإسبانية لكتاب « الريسوني : سلطان الجبال»، لمؤلفته الكاتبة والرحالة والمغامرة الإنجليزية روزيتا فوربس، وذلك سنة 2010، في ما مجموعه 342 من الصفحات ذات الحجم الكبير. وقد صدرت الترجمة الإسبانية بتوقيع كاطالينا رودريغيث، معززة بسلسلة من التعاليق والتوضيحات والصور الفوتوغرافية التوثيقية. ويختزل الكتاب تدوينا عاما حول سيرة أحمد الريسوني، أنجزته المؤلفة عقب زيارتها لمركز تازروت وللقائها بالريسوني خلال شهر غشت من سنة 1923، وهو التدوين الذي قدمت له بعنوان فرعي جاء فيه : « السيرة العجيبة والمثيرة لأحد قطاع الطرق بمنطقة الريف، كتبتها إحدى مغامرات سنوات العشرينيات «. ويبدو أن إقامة المؤلفة بمركز تازروت بقلب بلاد جبالة، قد وفر لها فرص تجميع قدر كبير من المعطيات التي وظفتها في تدوينها، إلى جانب أن حفاوة الاستقبال التي حظيت بها من قبل الريسوني وأنصاره قد خلق لها حافزا لتوسيع بحثها في خبايا الموضوع بعد مغادرتها للمنطقة. لا يتعلق الأمر بتأليف تاريخي بالمفهوم الأكاديمي أو الإسطوغرافي المتعارف عليه للموضوع، بقدر ما أنه عبارة عن سرد مسترسل يفتقد إلى عناصر الضبط والتوثيق المعروفة، تنساب وقائعه عبر فصول متكاملة حاولت أن تغطي مجمل مكونات سيرة الريسوني، بدءا من البحث في أصله وفي نسبه، ومرورا بمرحلة ما سمته المؤلفة ب « اللصوصية والسجن «، ثم مغامراته وتطورات علاقاته بالمخزن وبإسبانيا، وانتهاءا بظروف وفاته يوم 3 أبريل من سنة 1925، عقب اعتقاله من طرف قوات محمد بن عبد الكريم الخطابي في الظروف التاريخية المعروفة. وإذا كانت الكثير من المعطيات الواردة في الكتاب، تظل متداولة على نطاق واسع، ولا تقدم أي جديد بالنسبة للباحثين المتخصصين، فالمؤكد أن صدور هذا التدوين يساهم في إعادة مقاربة مواقف الآخر الأوربي تجاه الظاهرة الريسونية، ليس من موقع الصراع والتدافع، ولكن ? أساسا ? من موقع الانفتاح المباشر على سيرة أحمد الريسوني، بعيدا عن كل الطابوهات المتواترة حول الموضوع. ويبدو أن الطابع الحميمي لاستضافة الريسوني للمؤلفة، قد سمح بالكشف عن الكثير من مكونات الجانب « الآخر « المنسي في سيرة الريسوني، سيرة الإنسان أولا وأخيرا، بأخطائه وبإنجازاته التي تظل مشرعة أمام كل الأسئلة الضرورية لإعادة تقييم حقيقة الظاهرة الريسونية، في جذورها التاريخية البعيدة وفي امتداداتها الراهنة المتداخلة.