مجرد أسئلة: حتى لا تتحول فيديوهات «فدوى العروي» و»البوعزيزي» و «زيدون»إلى مجرد مشاهد تلفزية و «يوتوبية «تمتع البعض و تدمي قلوب الآخرين ، أو حتى لا تتحول إلى أوراق ضغط ، لا أكثر ، يتراشق بها السياسيون في سياق ما يمكن تسميته بتبادل «الضرب والجرح السياسي» و استثمار لمآسي الناس لتحقيق مكاسب سياسية.لابد من فهم و فضح لما يقع ، قد يختلف سياسيونا في التحليل ، بين من يشم في هذه المشاهد رائحة انهيار وشيك للدولة ، و من يرى فيها ضعفا لدى المحتجين من مختلف الأطياف في الإبداع و التحليل نتج عن انتهاء صلاحية الأحزاب و النقابات و الجمعيات و تراجع قدراتها على التأطير و التكوين و اكتفائها بمواكبة ما يقع من وراء حجاب ، و من يرى فيها فقط أنانية مفرطة و رغبة في تحقيق البطولة و النجومية بإبداع حلول فردية لهواجس جماعية . على الباحثين و المتخصصين في العلوم الإنسانية أن يتحملوا مسؤوليتهم في الإجابة على أسئلة الإحراق هاته للوقوف عند التفاصيل أولا و سعيا منهم لإيقاف النزيف ، وحتى لا تتحول هذه الأفعال المفردة و المتفرقة إلى ظاهرة و بعدها الى موضة ، و لان الإحراق - وهذا هو الأساس - لن يكون أبدا هو الحل الأوحد الممكن . كما أن على السياسيين أن يتحلوا بالجرأة في القول و العمل من أجل « تجاوز لغة الخشب و السيراميك و شعارات الحرية و الديمقراطية التي لفرط تداولها و تكرارها قد تحولت الى عمليات تجميل و تغطية و تمويه . لابد من تسمية الأشياء بمسمياتها حتى يصبح الحديث في الديمقراطية و الحرية فاعلا و مؤثرا. و «كشرط لإطلاق تنمية انسانية فعلية لها نصيب من إدراك أهدافها» . من كم الأسئلة التي تحتاج الى إجابات يمكن أن نقف عند الآتية : ما الذي يدفع انسانا في مقتبل العمر الى حافة الانتحار(سواء كان انتحارا عاديا و مألوفا كالذي نسمع عنه كل يوم، أو « سياسيا» كالذي نصف به حالات المعطلين و المكفوفين و حالة «البوعزيزي و العروي»)؟. ما الذي يجعل طاقات خلاقة تختار الرحيل تاركة خلفها جغرافية وطن ممتد شرقا و غربا، شمالا و جنوبا ؟؟ لماذا يقاطع الشباب العمل الجمعوي والنقابي والحزبي و ينخرط في كل ما يعرفه و ما لا يعرفه من أشكال التطرف و الشذوذ ؟ وهل من المقبول أن لا يكون الشباب رافعة للتقدم الا في خطابات السياسيين والنشرات الاخبارية والبرامج والحملات الانتخابية ؟ هل هنالك حافز ما، لا نعرفه، يحث الشباب على المتاجرة بأعضائهم في أشكال جديدة من التجارة تغزو مجتمعاتنا «المحافظة «( تجارة الاعضاء البشرية )،و أشكال جديدة من الدعارة (ما يسمى اليوم بدعارة الرجال ) ؟ لماذا تضاعفت عندنا أرقام الاكتئاب و الجنون و التسول؟... لسنا هنا بصدد تصوير مأساوي لمجتمعنا جاد بها خيالنا المتدفق ، و لا بصدد أسئلة ماهوية تستعصي على أية مقاربة علمية. بل انه شئنا ذلك او أبينا نبض الواقع و كلام الشوارع و الأزقة . * الهدر الانساني في مؤلفه «الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية لم يعتبر مصطفى حجازي هذه الأسئلة ماهوية أو ميتافيزيقية يستعصي فهمها و الاجابة عنها، بل ان جوابها سهل ممتنع ، جوابها بسيط بساطة معقدة و مركبة. ان كل المشاهد السالفة الذكر و أخرى هي نتائج و ليست قطعا أسبابا، انها نتائج لما أسماه ب»الهدر الانساني»، هذا النوع من الهدر أشد فتكا بالمجتمعات من مجرد «هدر مدرسي» و «هدر مالي «، أو هدر للموارد و الأموال العامة أو سلب لها من خلال مشاريع و صفقات وهمية، تهدف الى إثراء مشبوه و غير مشروع لهذا على حساب هؤلاء و أولائك، هذه الأنواع صارت شائعة و بفرط شيوعها أصبحت عادية ، حتى أنها لم تعد تثير الفضائح، لقد تحولت إلى قاعدة. الهدر الإنساني أكبر و أخطر مادام يعطل مشاريع التنمية ، انه يقوم على الاستبعاد و الإهمال و الاستغناء الذي تواجه به القوى الفاعلة و المحركة لكل مجتمع و لكل تاريخ، أن هذا الهدر يولد شعوبا يعيش معظم شبابها مأزقا كيانيا، مأزق هوية ذاتية و جماعية، يعيشون على حد تعبير ماركس «الاستلاب». اشتهر مصطفى حجازي أكثر من خلال دراسته الأولى حول «التخلف الاجتماعي و سيكولوجية الإنسان المقهور»، وعن اختياره هذه المرة الأشغال حول «الإنسان المهدور» يقول حجازي «إن مفهوم «الهدر» أعم و أشمل» من مفهوم «القهر» ، «فالقهر يعني في التعريف القاموسي الغلبة و الأخذ من فوق ،و بدون رضى الشخص الآخر». القهر مرادف للغلبة و للتعنث و العجرفة، والغلبة تعني التسلط و القمع، و التسلط لا يصبح ممكنا الا شرط استعمال مفرط للقوة المادية و الرمزية لأجل انتزاع امتيازات ليست للمتسلط بالمرة، و شرط استمراره تماهي المغلوب على أمرهم مع سلطة المتسلط خوفا أو طمعا، و من مظاهره «فقدان السيطرة على المصير إزاء قوى الطبيعة و اعتباطها و قوى التسلط في آن معا». أما الهدر فأوسع من حيث دلالاته بحيث يشمل القهر الذي يتحول الى احدى حالاته. ان الهدر في المقام الأول هو استباحة دم الآخر، تحفيز ضعاف النفوس على إيلامه و قتله، جل أنواع السلط التي تحبل بها المجتمعات تبنت هذا النوع من الهدر ، ابتداء بالسياسية، مرورا بالدينية و الاقتصادية و هلم جرا.. حيث يتحول دم الآخر الى مجرد سائل ملون لا أكثر، و تتحول الذات الانسانية الى مجرد شئ إما عديم القيمة نهائيا و إما قيمته مشروطة بنفع أو بمصلحة، شئ يمكن التصرف فيه و اعتباره وسيلة لبلوغ غاية . الهدر الذي يقصده حجازي اعتراف مشروط بإنسانية الإنسان ، حيث لا يكون الإنسان كامل الأوصاف و حاملا لمقومات تميزه عن الأشياء و البهائم ، إلا عندما يعترف بسلطة المتسلط ، و يزغرد احتفاء بها في كل مرة، و المواطنة هنا تصبح امتيازا يتمتع به هذا دون ذاك، و تصبح حجرا كريما في يد المتسلط يأتيه من يشاء و ينزعه ممن يشاء، هذا النوع من الهدر و المتاجرة بالوطنية و الانسانية فيه الكثير من الإذلال، ألم يعاني المغاربة و الجزائريون و التونسيون و المصريون من اليافطات التي كان المستعمرون يعلقونها على بوابات حاناتهم و متاجرهم ابان الاستعمار و التي يكتب عليها مثلا «يمنع على المغاربة و الكلاب»؟؟ . على عكس هذا الموقف الحاط من إنسانية الإنسان تماما و ضدا عليه، دافعت الفلسفة و خاصة فلسفة الأخلاق مع ايمانويل كانط عن الإنسان كغاية تسخر من أجلها كل الوسائل ف»عندما نعتبر-الإنسان-شخصا ،أي بوصفه ذاتا لعقل أخلاقي عملي، سنجده يتجاوز كل سعر، و لا يمكن أن نقدره كوسيلة بل بوصفه غاية في ذاته، و هذا ما يعني أنه يمتلك كرامة». الكرامة إذن هي ما يجعل الشخص شخصا و هي تماما كما العقل عند ديكارت «أعدل الاشياء قسمة بين الناس «. الكرامة كانت هي الأم المباركة التي من أجلها كان الليبيون يربطون أرجلهم بأسلاك و يواجهون دبابات موسوليني و من بعده دبابات القذافي القائد و الرمز و البطل و ملك ملوك العالم. وقد يتخذ الهدر أشكالا ذاتية أيضا-حسب حجازي- حينما ينخرط الناس في عملية تدمير ذاتي لكيانهم النفسي و المعنوي أو حتى الجسدي ، و ما الصورالتي انطلقنا منها الا قطرة في بحر ،حيث أن هنالك أشكالا للهدر لا يعرفها إلا ممارسوها مادامت تكون سرية في الغالب. كيف يمارس الهدر و ما نتائجه؟ «يتفاوت الهدر بين انعدام الاعتراف بإنسانية الإنسان كحد أقصى، و بين استبعاده و اهماله و الاستغناء عن فكره و طاقاته ،باعتباره عبئا، أو كيانا فائضا عن الحاجة . في دينامية و سيرورة الهدر المقصود و الواعي يعامل الإنسان كعبء و ككيان فائض لا دور له ولا و ظيفة، اللهم الا وظيفة حفظ النوع من الانقراض و حماية و ضمان التوازن البيئي، هذا الفهم للانسان اذا ما تم افشاؤه و تسييده تصبح كل مشاهد التدمير التي نراها يوما عن يوم في اليمن و العراق و سوريا ممكنة و بل مقبولة و مفهومة. أما عن النتائج فيرى حجازي أن:» كل من الهدر و القهر يشترك في تفاقم المأزق المتراكم بحيث يصبح الوجود غير قابل للاحتمال و المواجهة». الهدر و الاحساس بالعطالة و بلاقيمة و لا جدوائية الوجود يتراكم في غفلة من الهادر و المهدر و المهدور ، فيتحول ليجعل الذات رخيصة ، فيرفع المعطلون شعار الشغل أو إحراق الذات ، و يرفع الطلبة شعار المجانية أو إحراق الذات ، كما يصبح الجسد رخيصا للغاية فيتأبط المراهقون الأحزمة الناسفة يحرقون بها أوطانهم و قلوب أمهاتهم ، و يضرم فيه المغبونون النار في مشاهد أخطر على أمن و سمعة البلد من الجائحة . و في كل الحالات حسب حجازي نكون «بصدد كوارث وجودية لابد من الوعي بديناميتها و ألعابها البائسة المدمرة ..في انتظار توفر ظروف مجابهتها .و هنا يلعب التفكير الايجابي و تنشيطه و العواطف الايجابية و تنميتها و الارتباط بقضايا كبرى دور فتح آفاق التحرر من الهدر و القهر. استاذ الفلسفة - الفقيه بنصالح