تعيش مدينة فاس هذه الأيام على إيقاع حوادث الانتحار، لتعود الظاهرة إلى الاستفحال بعدما سجلت أربع حالات خلال أقل من شهر، حيث لم يمر كثيرا على انتحار رجل أعمال المسمى قيد حياته (ع.م) والبالغ من العمر57 سنة، رميا بنفسه من الطابق الخامس من الإقامة بشارع علال بن عبد الله، حيث وجده رجال الوقاية المدنية غارقا في دمائه بسبب شدة اصطدام رأسه بشرفة الطابق الأول، تلتها حالة ثانية اهتز لها حي العشابين بالمدينة العتيقة، أدت بشاب في ربيعه الثلاثين إلى شنق نفسه بحبل في غرفة نومه بمنزله بدرب الجوطية، ثم أعقبتها حالة انتحار ثالثة بساحة باب الفتوح صباح الثلاثاء 9 يوليوز، كان ضحيتها رجل مسن تهشم رأسه لما رمى بنفسه تحت عجلات حافلة للنقل الحضري، ولعل الحالة الرابعة سجلت على الساعة الخامسة صباحا من يوم الاثنين 5 غشت 2013 بمنطقة اولاد الطيب تحديدا بتعاونية الحمومية بطريق صفرو، بعد أن أقدم المسمى قيد حياته حسن الخلقي والبالغ من العمر 18 سنة على الانتحار شنقا بجدع شجرة، قبل نقل الجثث إلى مستودع حفظ الأموات بمستشفى الغساني لإخضاعها إلى التشريح الطبي لتحديد أسباب الوفاة، موازاة مع بحث فتحته المصالح المختصة التي حضرت لمعاينة الحالات لتحقق في الموضوع. حالات أخرى سجلت في يوم واحد سقط ضحاياها سيدة بحي سيدي إبراهيم وشخص مسن وآخر عثر عليه معلقا بواسطة حبل مثبت بإحكام في شجرة قريبة من منتزه سياحي على الطريق بين فاس ومنطقة عين الشقف بمولاي يعقوب، وسابعة وثامنة وعاشرة شهدتها المدينة في وقت ليس بالبعيد، تطرح هي الأخرى علامات الاستفهام لعل أبرزها انتحار رجل ستيني رمى بنفسه من الطابق الثاني لمبنى بالمدينة القديمة على غرار حالة مشابهة بمقاطعة جنان الورد، بسبب تراكم مشاكلهما الشخصية والعائلية وعجزهما عن إيجاد حل لها، على غرار تاجر بفاس الجديد، وجدت جثته معلقة في «كيوسك» يستغله في بيع ملابس نسائية بسبب ضائقته المالية. وبالعودة إلى أسباب وظروف حالات الانتحار، كشفت مصادر مقربة للجريدة أن رجل الأعمال كان يعاني حالة من التوتر يجهل أسبابها، بينما ربط البعض الحادث نتيجة تداعيات الديون والقروض المتراكمة، لترجح جهة ثالثة سبب الانتحار بمكالمة هاتفية لم يتمالك على إثرها الرجل نفسه وارتمى من الطابق الخامس للعمارة اعتبارا لهاتفه المحمول الذي وجدوه بمكان الحادث، لكن وإلى حد الآن لا يعلم أحد بالأسباب الحقيقية التي كانت وراء إقدام الرجل على رمي نفسه، في الوقت الذي فتحت فيه مصالح الأمن تحقيقا معمقا لتسليط الضوء على ظروف وملابسات الحادثة، التي تركت الكثير من الحزن والاستفهام لدى سكان وأصدقاء الضحية، في حين يختلف دافع الانتحار عند الشاب الذي اختار طريقا مناسبا له في تنفيذ حكم الإعدام في حق نفسه. وعند كل حالة يلف الغموض وتكثر التأويلات وتبريرات الفعل غير المستساغ عند بعض الضحايا، فتتضارب بشأنها روايات دوافع الانتحار، حيث من الملاحظات المسجلة اليوم أن هناك انتحارا ومحاولة انتحار، وبعض محاولات الانتحار تكون وهمية من أجل جلب اهتمام الأسرة ولفت الانتباه إلى الشخص من أجل تخصيصه بأكبر قدر من الرعاية، وهناك أيضا محاولات انتحار جادة تتأكد من خلالها رغبة الشخص في الانتحار بشكل أكيد، وما يقارب 90 بالمائة من المحاولات الجادة في الانتحار تكون بسبب اضطرابات نفسية تختلف حسب الأعمار إلا أنها تتركز بين سن 20 إلى 40 سنة وتبقى النسب الأكبر في صفوف الشباب، وغالبا ما تكون الدوافع ناتجة عن حالات الاكتئاب والمرض العقلي كالدهان، وبعض حالات الاكتئاب الحاد قد تدفع المريض إلى الانتحار...، لكن مهما تعددت الأسباب والدوافع التي كشف الطب عن بعضها، فحالات كثيرة تبقى مجهولة ويحمل أسرارها المنتحرون معهم إلى مثواهم الأخير... وقد ساهم التفكك الأسري والمشاكل العائلية وتراجع الصحة النفسية في الرفع من وتيرة إقدام الأشخاص على وضع حد لحياتهم بأساليب مختلفة تتراوح من البسيطة إلى أساليب بشعة، ويبقى الطب النفسي أساس العلاج رغم أننا أصبحنا نلاحظ لجوء العديد من المرضى إلى أساليب الشعوذة وزيارة الأضرحة. وقد سجلنا أن بعض العائلات سواء من المغاربة المقيمين بالخارج أو بالداخل عندما يلجؤون إلى بعض الفقهاء من أجل طلب العلاج من بعض الأعراض النفسية التي تصيبهم، فإن هؤلاء ينصحونهم بزيارة طبيب مختص في الطب النفسي وهذا ما جعل عدد الأسر المغربية التي تلجأ إلى الطب النفسي في تزايد مستمر. وتشير بعض الدراسات الى أنه عندما يفقد الشخص الحيوية والنشاط، ويفقد الشعور بالفرح واهتمام المحيطين به، ويفقد الأمل في الحياة، فالإنسان السوي يبدو عليه الاهتمام بنفسه ومستقبل أبنائه، لكن الشخص المصاب بالاكتئاب يفقد هذا الشعور بالمستقبل والحاضر، فمن بين العناصر المحددة طبيا لبوادر الانتحار ما يصطلح عليه «المستقبل المغلق».