لمْ أحتفظ، منْ رواية مصرية صادرة في ستينيّات القرن الماضي، نسيتُ عنوانَها واسمَ كاتبها ومضمونَها، إلاّ بعنصر جزئيّ: وهو أنّ الأحداث، وأفعال وحركات الشخصيات رُويتْ باللغة العربية الفصحى، بينما تجري الحوارات بالعامّيّة المصرية. من المعلوم أنّ هذا التوزيع يطبع العديد من روايات تلك الفترة، غير أنّ هناك خاصية مميّزة للرّواية التي أتحدث عنها: جميعُ الشخصيات تتحدّث بالعاميّة، باستثناء شخصيّة واحدة، هو ربّ أسرة لا يتكلّم إلاّ بالعربية الفصْحى. لا أكادُ أذكر ما إذا كانَ أزهريّا، وما إذا كانَ يرتدي اللباس التقليديّ، لكنْ لا يهمّ. إنّ الغريبَ والمحيّرَ هو قراره الراسخ بإبعاد العامّية من خطابه، وبألاّ يتكلّم، في جميع المناسبات، إلاّ بالفصْحى. فهلْ يتعلق الأمر، بالنسبة إليه، بمظهر من مظاهر الاستعلاء، وبالرغبة في خلق مسافة بينه وبين محيطه، والتعبير عن السلطة (لقد كان أَباً)؟ أمْ أنّ الأمر يتعلق بتجسيد للقانون (القانون لا يتمّ التعبير عنه باللهجة العامية، وإنما باللغة الفصحى، أليْسَ كذلك؟)، بالتعبير عن إخْلاص ووفاء، لكنْ تُجاه مَنْ وماذا؟ بإمكاننا مضاعفة الفرضيّات، غير أنّ الشيء المتأكد منه هو أنْ لا أحدَ يمكنه مواجهة الرّهان، ولا أحدَ واجهه في الماضي. فلا سيبويه ولا الخليل بن أحمد الفراهيدي كانا يتكلّمان، في حديثهما اليوميّ، وفق قواعد الإعْراب الصارمة. ففي العالم الذي تعيش فيه، كانتْ هذه الشّخصية الرّوائية، بطيعة الحال، وحدها في مواجهة الجميع. كان أحمقَ، إذنْ، لكنْ من وجهة نظره، كان الآخرون، كلّ الآخرين، واقعين تحت سلطان الجنون. لقدْ أصبحت اللغة العربية، التي يتحدث بها محيطه، لغة حمقاء (حول فرضية جُنُون اللغة، انظرJacques Derrida, Le Monolinguisme de l'autre, Paris, Ed. Galilée, p.104-108 )، لغة متدهْورة. غير أنه مصمّم على أنْ لا يستسْلم للهذيان المُحيط به. لك لغتكَ ولي لغتي. ولا يهمّني إذا سعيتَ إلى خسارتك. أما أنا، فإنني أحْتمي، مثل نوح، في سفينتي. ينبغي أنْ أعترفَ بأنني كدتُ أنْ أتفق معه. وجدته شخْصًا ودودًا، وشعرت تُجاهه بعاطفة غامضة. شعرت، على كلّ حال، بامتنان نحوه، لأنني كنت أفهم جيدا ما يقول، بينما كنتُ أجهل كلَّ شيء عن العامية المصرية، ولا أتمكّن من معرفة ما تقوله باقي الشخصيات ( وقتها لمْ يكنْ هناك تلفزيون، وبالتالي لا شريط تلفزيوني، أما السينما فقد كانت بمثابة تَرَف). كان هو الوحيد الذي يتحدث بالفُصْحى، الوحيد الذي أستطيع تلقّي خطابه. وبقدر ما كان بعيدا عن أقربائه، بقدر ما كان قريبا منّي. لقد تخلّى عن لهجة عائلته من أجْلي أنا. كان عمري آنذاك اثنا عشر أو ثلاث عشرة سنة، وكنت أتضايقُ كلّما وجدت نفسي، عند الكتّاب الذين كنت معجبا بهم، إحسان عبد القدّوس في المقام الأوّل، أمام حوار بالعامية المصرية (كان نجيب محفوظ يتجنّب ما كنت أعتبره بمثابة شذوذ). كنت أتحمّل وجود العامّيّة في السينما والمسرح، ولكن لم أكن أتحمّل ظهورها في حَرَم الكتابة، وفي معبد الكتاب. كنت أشعر بالغيْظ لأنني مقصيّ من التواصل: لم يكنْ ضمير «نحنُ» أمْرًا بديهيّا. ومما كان يزيد في انزعاجي هو أنني كنت واقعا تحت سلطان فكرة غريبة، وهي أنه يجب أنْ نقرأ الكتاب من ألفه إلى يائه، دون أن نسقط ونحذف شيئا منه. والحال، أنه بسبب اللهجة العامية، كان يضيع مني نصف محتوى الروايات المصرية. وفي خضمّ سُخْطي وتذمّري، كنت أعتبر أنّ أحسن رواية لإحسان عبد القدوس (ومازلتُ أعتقد ذلك إلى اليوم) هي رواية «شيء في صدري»: رواية بدون حوار، حيث يتحدث أنا-سارد بمفرده، وبالفصحى بطبيعة الحال. لا وجود لأيّة كلمة خائنة بالعامّية. وغنيّ عن القول بأنني كنتَ أَعِدُ نفسي بألاّ أستعملُ، حين أكبرُ وأكتبُ، إلاّ العربية الفصيحة، العربية الأصيلة! وباختصار، فقد كان هناك مجنون، وجاء بعدهُ مجنون آخر... مع هذا الفرق الطفيف، وهو أنني وعدت نفسي بالكتابة بالفصحى، بينما كان صاحبنا يتحدث بها. كنتُ أرغب في كتابة الكتب، بينما هو كان يتكلّم مثل الكتب. كان أكثر تطرّفا، ومثيرا للإعجاب، في العمق، بإفراطه. وما فتئ إلى اليوم، بعد خمسين سنة، يثير إعجابي. ما السببُ الذي يجعلني أحيل على الرّواية المصريّة؟ من الغريب أنني لا أتحدث منذ البدء عن الأدب المغربي. لكنْ، ليُسْمحْ لي بطرح السؤال التالي: هل هناك أدب مغربيّ؟ لست متأكّدا من ذلك، ليس تماما، ليس بعد. ذلك أنه لكيْ نشهد بوجود أدب ما، ينبغي أن يكون لهذا الأدب، أوّلا، تاريخ، وأنْ يكون، ثانيا، موضوع تاريخ. لكنْ، هل كتبنا (أو روينا) تاريخ الأدب المغربيّ؟ هل يوجد كتاب مدرسيّ (مثل «لاغاردْ إي ميشارْ) يصف مراحل هذا الأدب، اعتمادا على النصوص، منذ البداية (ما هي؟) إلى النهاية، إلى يومنا هذا، إلى «نَحْنُ»؟ الأعمال الأكاديمية تنشغل بالنصوص المكتوبة إلى بالعربية أو بالفرنسية، ولا تهتم أبد، أو تقريبا، بدراستهما معا. ويبدو أن الإمكانية الوحيدة للجمع بينهما هي الجرْد والفهرسة والمعجم. هذا ما قام به، على سبيل المثال، سليم الجايْ في «معجم الكتّاب المغاربة»، المخصّص جزئيا للأدب الحديث (ويحتلّ فيه الأدبُ المكتوبُ بالفرنسيّة حصّة الأسد، أما الأدب القديم فيظلّ أرضا مظلمة). لم يكنْ الأدب المغربيّ، بالنسبة لي ولزملائي في الفصل، موجودا حين بدأنا في تهجية الحروف وفي القراءة، أيْ حوالي سنة 1955. كنا نقرأ في الفصل الدّراسي نصوصا فرنسية (ألفونسْ ضوضي، سولي بّْريدومْ، تيوفيل غوتيي)، ونصوصا مشرقيّة، مصرية على وجه الخصوص. كنا نميل إلى كل من المنفلوطي وجبْران خليل جبْران، الكاتبيْن المشهورين وقتها، واللذيْن كانت كتبهما، وكتب آخرين، منشورة بجانب المساجد، على قارعة الطريق (لمْ تعد موجودة اليوم، فقد حلّت محلها كتب من نوعية أخرى). وبطبيعة الحال، فإنّ كُتُب القراءة، المُستقدمة من مصر وفرنسا، لم تكن تقترح علينا نصوصا لكتّاب مغاربة. وعلاوة على ذلك، فقد كان معظمُ أساتذتنا فرنسيّين ومصريّين (كان هناك بعض الجزائريين، لكنهم كانوا يدرّسون العربيّة). لم نكنْ نعرفُ شيئا عن الأدب المغربي، قديمه أو حديثه، لا شيءَ عن هذا العالم الموازي، العاكس والناسخ، الذي يُسمّى عادة أدبا. كنا نعيش على فكرة أن لغتنا الأمّ كانت لغة منحطّة وهجينة وغيْر صالحة للأدب وللكتابة. صحيحٌ أننا كنا نحْفظ بعض الأغاني في البيْت، وكانوا يروونَ لنا حكاياتٍ وأحجياتٍ وقوافيَ وأمثالاَ وحِكَماَ وأقوالا مأثورة، ولكن، هل هذا هو الأدب؟ لم يكن ذلك ليخطر ببالنا، بل إنّ السؤال لم يكن يُطرح. لقد كان الأدب موجودا بالفعل، لكن خارج بيتنا، خارج عالمنا: يكتبه أشخاص مختلفون، أجانب، تقتصر الكتابة الأدبية عليهم. كان الأمر كما لو أنّ أدبا خاصا بنا شيء غيْر لائق، أو أنّ المغاربة غير جديرين بإنتاجه. ثمّ لماذا تجشّم عناء الانشغال بمشاهد المغاربة وأغانيهم وشخوصهم وهمومهم؟ وما يزال الأدب، إلى اليوم، بالنسبة لعدد من القرّاء المغاربة، هو ما يأتي من الخارج، من جغرافية غريبة، ومن تاريخ بعيد. ذلك أنه من المألوف، في بعض الأوساط، ازدراء الكتابات المحلّيّة. هناك أدب مغربيّ إذن؟ أجلْ فيما يبدو، لكن إلى أية بداية تعود؟ ماذا أعرف، مثلا، عن الإنتاج الأدبيّ في الماضي؟ إنّ الأدب، بالمعنى الذي نفهمه اليوم ( والذي يتكوّن من الأجناس الثلاثة: الشعر والرواية والقصّة) لم يكن موجودا في الماضي. ومع ذلك سأذكر بعض العناوين: «التشوف إلى رجال التصوف» لابن الزيات، «رحلة ابن بطوطة» (المغرب غير غائب في هذا الكتاب الذي يتحدث عن بلدان أجنبيّة)؛ «محاضرات» اليوسي. وهي الكتب التي تبدو مألوفة لديّ، بحكْم أسماء الأعلام وأسماء البلدان والكلمات «المُبتذلة» التي تطفو من حين لآخر، باحتشام ومواربة، وبعفوية على الأرجح، بين فجوات الفصحى (انظر الصفحة التي يتحدث فيها اليوسي عن الكسكس والبرنوس، والصفحة التي يتحدث فيها عن «جامع الفنا»)... ذكرتُ ثلاثة مؤلفين عاشرتهم إلى حدّ ما، ولا أعرف غيرهم. كلاّ، لقد تصفّحت مع ذلك مؤلفات الرّحّالة الذين كانوا، خلال القرن التاسع عشر، يصفون رحلاتهم في الجانب الآخر من حوض البحر المتوسط، في هذه البلاد الأوروبية أو تلك. ففي فرنسا، لم يكن الرّحالة محمد الصفار يفكّر إلا في شيء واحد، هو المغرب: في كل صفحة، تقريبا، من صفحات رحلته، كانت ترد كلمة بالمغربية الدارجة: «الفنّارات»، «الصبيطارات»، «المكاحل»، «البزبوز»، «القهاوي»... هل هناك أدب مغربيّ؟ عندما أسمع مثقفا يتحدث في الراديو، بالعربية او بالفرنسية، أستطيع في غالب الأحيان تخمين، حين لا تكون هويته معروفة، ما إذا كان الأمر يتعلق بمغربي أم لا. من خلال نبرته، وهي نبرة خاصّة في اللغتيْن معا، قد يسمّيها البعض «شيبوليتْ». والشيءُ نفسه يصدقُ على الكتابة: فمنْ خلال قراءة نصّ لا يحمل اسم كاتبه، يمكنني أنْ أحْدَسَ ما إذا كان كاتبه مغربيّا أم لا. ومن ثمّةَ إذنْ لا يمكن الخلط، أبدا، بين كتابة مغربيّ فرانكوفونيّ وكتابة فرنسيّ من «المتروبول»، ولا بين كتابة مغربيّ معرّب وكتابة مصري من القاهرة. فمهما حاول، فإنه سيخونُ أصوله. فمنْ خلال التعرف على كلمات القبيلة، التي هي بمثابة وجوه مألوفة، أعيش إذن لحظة تواطؤ كبير، بل لحظة سعادة عائلية... لنأخذْ، على سبيل المثال، رواية عبد الحيّ المودن «خطبة الوداع» (2003). الحوارات والسرد باالغة الفصحى، لكن ابتداء من الصفحة 4 أقرأ: «دابا يفرّجْ ربّي»: يتعلق الأمر بأمّ تتحدث إلى ابنها؛ اللغة الأمّ تظهر بالموازاة مع استحضار الأمّ. وفي مكان آخر، نقرأ :»بهدلتيني مع السّي محمد، بهدلتيني دينْ مُّكْ». في المثالين معا، يصاحب استحضار الأم ظهور الدارجة. الأم، العائلة... هناك شخصية عند إدريس الشرايبي اسمها «يلعنْ والديكْ». ستقولون إذن بأنّ العربية الدارجة، باعتبارها حاملة لتاريخ ولجغْرافية، هي التي تسمح بالتعرّف على العمل الأدبي المغربيّ، بالعربية أو بالفرنسية، قديما أو حديثا! أعتقد ذلك، وأتصوّر بأنَّ قارئا يعرف الأمازيغية (وهو الأمر الذي لا ينطبق عليّ، ولعلّ عرْضي هذا يعاني من هذا الغيابِ دون شكّ) يشعر، في هذه اللحظة أو تلك، أمامَ هذا اللفظ أو ذاك، بإحْساس الألفة، واللقاء، والتعرّف والاعتراف أثناء قراءته للكتب التي ذكرتُها. هلْ من باب الصدفة أنْ تستحضر الرّوايات المغربية الأولى موضوعةَ الطفولة، حتى في عناوينها: «في الطفولة» لعبد المجيد بن جلون (1957)، «علبة العجائب» لأحمد الصفريوي (1954). يتعلق الأمر هنا بتجديد كبير: ففي النصوص العربية القديمة، لا وجود للطفل تقريبا، إلا في نصّ «حيّ بن يقظان» الذي هو استثناء نادر. ومن ثمّ، فمنذ سنة 1954، بات المغاربة يكتبون أساسا، أو في المقام الأوّل، من أجْل استحضار طفولتهم وميلادهم، وهي ضمنيّا طريقة لوسْم وإثبات ظهور الأدب. كلّ رواية إذن تقدّم نفسها كنسْخة من عقد الازدياد، وباتَ الأدب كسجلّ للحالة المدنية... في أية لغة ينبغي أن يكتب المرء إذن؟ الكاتبُ، عموما، لا يطرح هذا السؤال: فهو يكتبُ في اللغة المألوفة لديْه، لغة عائلته. لكنْ، من هي عائلتنا؟ هل ننتمي إلى عائلة واحدة أمْ إلى عائلات عديدة؟ هل ننتسب إلى أمّ واحدة ووحيدة؟ وماذا عن الأب؟ الكاتبُ حرّ في اختيار اللغة التي يكتب فيها. هذا أمر مؤكّد، لكنْ كيف يُنظر إلى اختياره؟ ليس فعلا بريئا: فهو ينْطوي على نوْع من التضامن، وعلى عقلية ومرجعيّات. يتعلق الأمْر بوضعيّة، بموقف لسان حاله يقول: انظروا إليّ، انظروا من أنا! بعض الكتّاب يختارون نوعا من التسوية: يحرّرون دراساتهم مقالاتهم بالفرنسية والعربية لا فرق عندهم في ذلك، غير أنهم لا يكتبون قصائدهم ومحكيّاتهم إلا بالعربية فقط (كما هو الشأن عند عبد الله العروي). هلْ يتعلق الأمر بالدفاع عنْ لغة مهملة ولا اعتبار لها والرفع من قيمتها؟ أمْ بانشغال قوميّ؟ أمْ أنّ الأمر يتعلق باللغة العربيّة باعتبارها تعبيرا عن الكائن؟ هناك، إذنْ، من جهة، نصوص تكونُ فيها اللغة، كما نفترض، عابرة وطارئة، ومنْ جهة أخرى نصوص تكونُ فيها اللغة ضروريّة. لكنْ، هل تكون اللغة محايدة حين نحرّر بها دراسة أو مقالة؟ كلاّ. لنقرأْ، في هذا الصّدد ما يقوله عبد الله العروي في «خواطر الصباح» عن الكيفية التي تمّ بها تلقي كتابه «الإيديولوجية العربية المعاصرة»: « ماذا كان يكون ردّ القارئ المشرقي لو ألّفتُ الكتابَ أصْلا بالعربية، كما كانتْ نيّتي أوّل الأمر؟ الإهمال بدون شك. كلّ اتصال بيننا-المغاربة أو العرب أو المسلمين- يمرّ عن طريق الغرب، كما هو حال الأوروبيين اليوم بالنسبة لأمريكا. هذا هو مؤدى الكتاب في الواقع». لقد استفاد كتاب العروي من الحظوة المرتبطة باللغة الفرنسية، ومن الاستقبال الإيجابيّ لكبار المثقفين في باريس. من هنا ذلك الاهتمام الكبير الذي حظي به في المشرق. المرور عبر البعيد من أجل معرفة القريب والاعتراف به: لعنة يبدو أنها تنوء على كاهل العرب منذ زمن بعيد، منذ ما يرْبو على قرْن من الزمن... وهذا يجرّنا غلى طرح سؤال آخر: ماذا كان سيكون مصير روايات عبد الله العروي لو كتبها بالفرنسية؟ يبدو لي الجوابُ بديهيّا: كانت ستلقى اهتماما أكثر، داخل العالم العربيّ وخارجه. كانتْ ستُتَرجم بسرعة إلى اللغة العربية، بينما انتظرنا عدة عقود لكيْ نرى رواية «الغربة» مترجمة إلى الفرنسية. في الظروف الحالية، ليست ثمّة حظوظ كبيرة، بصفة عامّة، لكي يُترجم كتاب بالعربية إلى اللغة الفرنسية. لا بدّ من الاعتراف بأنّ عملية الترجمة إلى إحدى اللغات الأوروبية تعتبر في حدّ ذاتها حدثا بارزا ومشهودا في العالم العربي (انظر: Richard Jacquemond, Entre scribes et écrivains, le champ littéraire dans l'Egypte contemporaine, Paris, Ed. Sindbad Actes Sud, 2003, p. 160.). يغدو الأمْر احتفالا، وحدثا مشهودا تتحدث عنه الجرائد، حيث يتمّ عرْض غلاف الكتاب ككأس-نصب تذكاري... أنا مُتَرْجَمٌ، إذن أنا موجود. هذا أمر لا يمكن تصوّره في فرنسا والولايات المتحدة، حيث لا يكترث الناس بالترجمة، وحيث لا تكتسب الكتب قيمتها من كوْنها مترجَمة إلى لغة أجنبيّة. لكنْ كلّ هذا تفوح منه رائحة الحساب والمهانة. لذلك ينبغي العودة إلى ما هوَ جوهريّ: أنتَ لن تحاسَب على اختيارك للغتك، بقدر ما تحاسَب على التوظيف الذي قمت به لهذه اللغة، وعلى البصمة الشخصية التي تطبعها بها. فاحرصْ، إذن، على أنْ تدثّر لغتكَ بحجاب رقيق يجعلها مجهولة المعالم تقريبا. بهذا المعنى تقريبا كتب مارسيل بروستْ قائلا:» الكتب الجميلة تُكتب بما يشبه اللغة الأجنبيّة». من الكتاب الجماعي: Comment peut-on être Marocain?, Maison des Arts, des Sciences et des Lettres, p,p. 131, 140.