في أواخر التسعينيات بباريس، تلقى الروائي المغربي الطاهر بن جلون دعوة من إحدى المكتبات بضواحي العاصمة الفرنسية، لتقديم روايته، التي صدرت وقتذاك. طلب مني صاحب الكونكور مرافقته، وكان الصدر الأرحب، بحيث توجهنا على متن سيارة الصديق المشترك مصطفى الذي يطلق عليه الطاهر اسم كيفارا. وصلناإلى المدينة الصغيرة على بعد عشرين كيلو مترا من عاصمة الأنوار، وخيط من السماء كان المطر. نسي الكاتب اسم المكتبةفي مدينة أصغر من حي كبير عندنا.و قفت السيارة أمام رجل من رجال الشرطة، وسأله مصطفى:" اسمح لي سيدي، نبحث عن مكتبة المدينة؟ و أجاب الشرطي:" لكن يا سيدي، هناك العشرات من المكتبات بهذه المدينة". وألح صاحبنا كيفارا" مكتبة تنظم فيها الندوات والمحاضرات.. وأجاب الشرطي وهو يخفي تهكمه:: كل هذه المكتبات تستقبل أدباء لتقديم مؤلفاتهم« اسمع أبارد لقلب! ماعلينا، وصلنا متأخرين والقاعة مملوءة عن آخرها، والسماء كئيبة كآبة وجه مصطفى الفضولي. تذكرت هذه الحادثة وأنا أتابع البرنامج الناجح "بدون حرج" على قناة ميدي آن تيفي والذي خصص حلقته الأخيرة للحديث عن القراءة والعزوف عنها، عن الكتاب ومشاكل النشر في أجمل بلد في العالم. وشارك في تناول الموضوع كل من الأساتذة عبد الرحمان طنكول وحسن الوزاني رئيس مديرية الكتاب بوزارة الثقافة وأحمد شراك أستاذ علم الاجتماع، والباحث الاجتماعي عبد الرحيم العطري. وأكيد - كما يقول محللو القناة الرياضية- أن الحلقة كانت ناجحة، وأكثر تأكيدا أن نسبة المشاهدة الكبيرة لم تكن في الموعد. إذن، هنيئا للقناة بهذه المغامرة النبيلة. ونقبل منها تقديم "حريم السلطان" من أجل "الأوديمات" اللعين .. كانت المقاربة من زوايا مخلتفة ومتعددة، وكانت تشخيصات الداء، وكانت محاولات لاقتراح الدواء، وهذا أضعف الايمان. في حقيقة الأمر، برنامج واحد وحلقة يتيمة لا يكفيان. وقناة وحيدة تهتم بالموضوع، لا تكفي بالحال ولا بالنعت ولا بالبدل علما أن المسؤولية مسؤولية الجميع. قال أساتذتنا الكبار في الزمن الغابر إن مصر تكتب، ولبنان تنشر، والمغرب يقرأ. هيهات هيهات! أما أنا فلا أصدق المقولة اليوم، ولو رأيتها بأم العينين،مفهوم. مجتمعنا لا يقرأ، وهو تحصيل حاصل حصلنا فيه، والمجتمع الذي لا يحمل هم القراءة مجتمع فيه نقص كبير، وانتم تعلمون. فكيف يمكن الحديث عن التطور والتقدم والنهوض من دون محاربة ظاهرة العزوف عن القراءة . فأي أمة من الأمم لا تقرأ، هي -كما قال الاخر- أمة ميتة لا حياة ولا تاريخ ولا ذاكرة لها. المؤسسة التعليمية، لا تقوم بالواجب المنوط بها، والوزارة الوصية أيضا وأيضا.. المنازل الكثيرة فيها عدد "السدادر"، أكثر من عدد الكتب، وحتى هندسة بيوتنا لا تفكر في مكان احتواء الصديق الأنيس، ونعم الصديق! الخزانة البلدية المتواجدة بشارع الجيش الملكي بالبيضاء، والتي بناها الفرنسيون في بداية القرن الماضي وتركوا فيها أمهات وآباء الكتب، أغلقت أبوابها إلى أجل غير مسمى بعد أن كان مسمى وكانت بالفعل والحرف قبلة لجوقات من الطلبة البيضاويين-على الخصوص- لمدة سنوات وأعوام. غريب أمرنا، نرفع اصواتنا احتجاجا على إغلاق القاعات السينمائية واحدة تلو الأخرى، ولا نحرك ساكنا ولا نسكن متحركا حين يتعلق الأمر بإسدال الستار على مكتبة من المكتبات. ربما لأن الفيلم يقتات من أموال البلاد والعباد، والكاتب المغربي المسكين لا حول ولا قوة له سوى الصبر والصمود.