قاعات مثل الأطلس ، الكواكب ، موريطانيا ، المامونية ، شهرزاد والشاوية ، تعرف عليها عبد الإله تقريبا في نفس الفترة ، في سن الثانية عشرة تقريبا ، لا يخفي عاجل أن تلك الأفلام أثرت فيه كثيرا ، فقد جعلته يمرن خياله على إعادة تمثيل مشاهد منها بعد مغربتها وتقريبها إلى لغة أصدقائه ليصبح بطلا حقيقيا يثير اهتمامهم موريطانيا مثلا كانت ، وماتزال ، متخصصة في عرض الأفلام الهندية ، يتذكر عبد الإله أنها كانت تعرض فيلمين في سهرة المساء ، بين الأول والثاني ، كانت تبث نشرات الأخبار ، وعن طريقها كان المتفرجون يطلعون على ما يحدث في المغرب والعالم ، وبعد نشرة الأخبار يتم بث أغاني أم كلثوم ..منذ تلك الفترة سيصبح عاجل متيما بكوكب الشرق ، على غرار ملايين العرب الذين كانت أم كلثوم ملهتهم كانت السهرة طويلة ، تبدأ في السادسة مساء لتنتهي مع تباشير الصباح ، المستخدمون والعمال كانوا من هناك يتوجهون إلى مقار عملهم ، عبد الإله وأصدقاءه ، كانوا يكتفون خلال كل هذه الساعات بسندويش من المصبرات والفلفل الحار الشهير ، والذي لم تعلم به موسوعة غينيتس آنذاك وإلا كانت صنفته ضمن أشهر مأكولات الفقراء في العالم ، الذين يسمونه « الطون والحرور» كان الجميع يلج القاعة متأبطا هذه الأكلة بالإضافة إلى قنينية مشروب غازي من الحجم المتوسط ، وكانوا، مثل عبد الإله، يحسون بسعادة حقيقية وهم يشاهدون الأفلام الهندية ويقضمونها قضما شارع الإمام القسطلاني يفصل درب ليهودي عن حي الأحباس ، وهناك كان محل لإصلاح الأدوات الكهربائية لصاحبه المعلم حدونة ، في هذا المحل كان عبد الإله وأصدقاءه يجتمعون لمتابعة التمثيليات الإذاعية التي كان يشارك فيها أكبر فناني المغرب آنذاك ، من أمثال العربي الدغمي ، عبد الرزاق حكم، أمينة رشيد وغيرهم ، بعد مدة أصبح عبد الإله هو من ينشط تلك السهرات التي كانت تمتد إلى التاسعة صباحا ، كان يحكي ويشخص ما علق بخياله من حكايات رواد الحلقة في درب غلف ، وما شاهده من أفلام في موريطانيا وغيرها لكن قبل ذلك ، كان عاجل قد تمرن جيدا على فن التشخيص في وسطه العائلي ، وهو يؤكد أنه كان محظوظا لأنه تربى في حضن عائلة تعشق الفن. كانت عائلة اسثتنائية بكل المقاييس ، أخواله ، أحمد ، المختار ومحمد ، كانوا يعشقون الفن ، ليس ذلك فقط ، فقد كانوا يمارسونه أيضا وقد ازداد عشقهم للفن بعد قضاء سنوات في أوروبا ، خاله أحمد كان مثلا عازفا على الساكسفون ، وقد كان يملك مختبرا للأدوية في ذلك الوقت ، اشتغل معه عبد الإله لاحقا لبضعة أشهر . الخال المختار ومحمد لم يشدا عن أخيهما ، لا في عشق الفن ولا في مهنة الصيدلة كان الوالد ، الحاج عاجل بنموسى يشتغل كموزع للعجلات في مختلف ربوع المغرب ، وكان يسافر كل اثنين على مثن شاحنة ، ويعود يوم الجمعة نهاية كل أسبوع ، كانت العائلة الكبيرة تلتئم بالتناوب ، كل مرة عند فرد من العائلة ، وهو التقليد الذي ماتزال بعض العائلات محافظة عليه وإن بدرجة أقل تحت تسمية « دارت» كان المظيف هو من يتكفل بالأكل ، وجبات عديدة ومتنوعة ، تبدأ وتنتهي بصينية الشاي الملازمة لكل جلسة مغربية ، فما اجتمع مغربيان إلا وكانت الصينية ثالثهما ، الصينية التي ألهمت ناس الغيوان وخصصت لها أغنية خالذة ، والتي لعبد الإله قصة خاصة معها بالإضافة إلى الأكل وكؤوس الشاي ، كانت النكات والحكايات والموسيقى التي يؤديها الأخوال تؤثت تلك اللقاءات . الذكريات الأولى التي احتفظ بها عاجل تعود إلى بداية الستينات ، كان عمره آنذاك خمس أو ست سنوات ، ذات مرة خطر له أن يضيف نكهة أخرى إلى جلسات العائلة ، فقام بتقليد أخواله ، ونجح في ذلك إلى درجة أنهم طلبوا منه أن يقلد والده . أمام هذا الإحراج ، سيكتفي عبد الإله بتقليد طريقة والده في التدخين ومسك السيجارة وسط ضحكات الجميع. كانت الجدة ، والدة والدته الحاجة السعدية ، هي من تتكفل بإعداد الشاي في هذه الجلسات ، طريقة جلوسها تتوسط الجميع ، بلباسها الأبيض الذي يشع وقارا وهالة ، وطريقة إعداد الشاي وصبه ، كانت جزءا أساسيا من طقوس تلك الجلسات ، طقوس لن يستوعب عاجل مغزاها وما تعنيه بالنسبة للمغاربة إلا بعد سنوات عندما سيستمع لأول مرة للأغنية الاشهر في تاريخ الأغنية الشعبية المغربية ، حينها راوده إحساس أن الغيوان غنوها خصيصا عن جدته ، وأن «اللي جمعوا عليك هل النية» هم اخواله وباقي أفراد العائلة كان والد عبد الإله يملك جهازا للأسطوانات ، وبعد ظهور ناس الغيوان أصبحت أسطواناتهم تملأ البيت على رأسها الأسطوانة التي تضم أغنية الصينية ، ذات يوم وكانت العائلة مجتمعة في منزله بالأحباس ، بحث عن الأسطوانة فلم يجدها ، فما كان إلا أن طلب من ابنه عبد الإله أن يؤديها أمامهم لمعرفته أنه يحسن الغناء فأداها واعجبوا كثيرا بطريقة أدائه ، في ذلك الوقت لم تكن له سابق معرفة بناس الغيوان ولم يكن يدرى أنه سيتعرف عليهم عن قرب وسيرافقهم في العديد من الجولات وأن صداقة عميقة ستجمع بينهم ، بل إنه سيشتغل مع العربي باطمة في فيلم تلفزيوني وسيخرج مسرحية كتبها الفنان الراحل . قبل ذلك ، وعندما أصبح عاجل تلميذا في الثانوي ، سيقوم برفقة عدد من أفراد عائلته بإنشاء مجموعة غنائية متخصصة في أداء أغاني الغيوان ، لمشاهب وجيل جيلالة ، وكانت الأغنية التي يرددونها أكثر هي «قطتي صغيرة»