إنهاء "أزمة طلبة الطب" يطرح إشكالية تعويض الأشهر الطويلة من المقاطعة    هكذا علق زياش على اشتباكات أمستردام عقب مباراة أياكس ومكابي تل أبيب    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    بعد إضراب دام لأسبوع.. المحامون يلتقون وهبي غدا السبت    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    سانت لوسيا تشيد بالتوافق الدولي المتزايد لفائدة الصحراء المغربية بقيادة جلالة الملك (وزير الشؤون الخارجية)    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات الماريشال ليوطي عن المغرب 1926-1912 .. أول معرض تجاري ضخم بالدارالبيضاء سنة 1915
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 28 - 07 - 2012

الحديث عن الفنانين المغاربة طويل لا ينتهي ، فقد مكّنتني طبيعة عملي وطول إقامتي في المغرب من التعرف على غالبيتهم العظمى من مسرحيين ومطربين منفردين أو فرقا ? رجالا ونساء. ففي مطلع عام 1972 تعرفت على مجموعة من الشباب يحيون حفلا فنيا بمناسبة انعقاد
مؤتمر نقابة الإتحاد المغربي للشغل بالدار البيضاء ، يغنون كلمات مختلفة عما اعتدنا سماعه في الإذاعة المغربية ، وبنغمات وحركات مختلفة ، ويلبسون ملا بس غريبة أيضا ، قيل لنا بأنهم مجموعة ( ناس الغيوان ) . فحرصت على أن أتعرف عليهم وإقيم علاقة بهم ، مما استدعى ذهابي مرارا إلى الدار البيضاء للإلتقاء بهم . وكانت معرفتي الأقوى بالأخ بوجميع الذي سبق له وأن تتلّمذ على عمي أبونزار في ثانوية الأرميطاج وذهب إلى بيروت وعاش فترة من الزمن مع الفدائيين الفلسطينيين ، وكان مثقفا وشاعرا تقدميا بالفطرة ، وكانت لي علاقة متميزة مع الأخ العربي باطما المتعدد المواهب كتابة وتلحينا وعزفا ، وصاحب صوت متميز، ومندفع في نقده للأوضاع السائدة ، وكانت كذلك مع الأخ عمر السيد الودود المرح خريج معهد الكونسرفتوار كما قيل لي .
اقتربت كثيرا من المجموعة وعبرهم تعرفت على أعضاء الفرقة التي ظهرت بعدهم بوقت وجيز( جيل جيلالة ) التي سبق وأن تعرفت على بعض أفرادها عندما كانوا مسرحيين هواة في مراكش كمحمد الدرهم والطاهر الأصبهاني. وقد فكرت مع الأخ خالد الجامعي وزوجته الأولى السيدة بديعة البراوي وشقيقته الدكتورة سكينة بأن ندمج الفرقتين في فرقة واحدة ، ثم تخلّينا عن الفكرة لاستحالة تنفيذها . ثم تعرّفت لاحقا على فرقة ( رعاة الصحراء ) وفرقة لمشاهب وفرقة تاكادا وفرقة مسناوة ، وأشهد أنهم جميعا كانوا يناصرون القضية الفلسطينية ولا يترددون في المساهمة التطوعية بأي حفل يكون مردوده لصالح القضية الفلسطينية .
ذات ليلة من أواخر عام 1972 سمعت طرقا على باب شقتي ، ففتحت الباب لأفاجأ بفرقة ناس الغيوان بالباب . دخلوا فاعتذرت لهم بأنني ليس عندي طعام أقدمه لهم في هذه الساعة المتأخرة من الليل ، إضافة إلى أن زوجتي التي يمكنها تدبّرالأمر موجودة في الدار البيضاء . فقال بوجميع : قدمنا حفلا في مسرح محمد الخامس ، وعند خروجنا حاول بعض أصحاب المرسيدسات أن يأخذونا لإكمال السهرة معهم ، فرفضنا وقلنا لهم أننا سنذهب عند واصف منصور لنشرب عنده الشاي الأسود ونبيت عنده . فقمت وأحضرت لهم بعض البيجامات ، فلبس بوجميع قميص بيجامتي ، ولكونه كان قصيرا بشكل ملحوظ ، فقد وصل القميص إلى قدميه ، فحمله عمر السيد وبدأ يرقص بشكل كوميدي وهو يغني له ( وليدي وليدي ) . توجه بوجميع نحو المكتبة الموجودة في الصالون ، وتناول ديوان الشاعر أحمد فؤاد نجم ( يعيش أهل بلدي ) وقال أنه سيأخذه معه ، فرفضت أن أعطيه إياه لأنني أحضرته معي من بيروت قبل مدة قصيرة ولم أقرأه بعد ، فطلب مني قلما وأوراقا ، ولم ينم حتى نسخه كاملا .
أصرّت الفرقة قبل أن تخرج من البيت على أن أعطيهم بعض أشعاري ليغنّوها ، وكنت قد كتبت زجلا بالعامية المغربية أقول فيه
الله الله يا خويا والدرب طويل
الله الله يا خويا والحمل ثقيل
صبرك عالذل ما يزيدك غير مذلّه
واذا صبرتي عالظالم زاد تعلّى
وان كنت حرّ يا خويا شوف العلة
والطرف الفاسد نوض قطعوا لاش التعطيل
يا هذا بنادم يا حادر ديما راسك
الصبر تقاضى من صبرك هرّس كاسك . . . الخ
وقد أخذوا الكلمات وغنوها دون الإشارة إلى صاحب الكلمات ، بناء على طلبي .
في أواخر السبعينات أقامت جريدة لوبنيون لسان حزب الإستقلال الناطقة بالفرنسية حفلا فنيا بسينما الملكي بالرباط يكون ريعه لصالح الثورة الفلسطينية ، وشارك في الحفل فرقة ناس الغيوان وفرقة المشاهب وفرقة مسرح البدوي وغيرها من الفرق والفنانين . وقبل رفع الستارة بدقائق جاء من يخبرنا بأن إحدى الفرق تريد مبلغا من المال لقاء مساهمتها والا فإنها لن تشارك . حاول الأخ باطما إقناعهم بالعدول عن موقفهم لكنهم أصرّوا عليه . فذهب إليهم الفنان عبد القادر البدوي وقال لهم : بما أنني سأفتتح الحفل بمسرحيتي ، فسأرتجل في البداية كلمة سأقول فيها للجمهور أن الفرقة الفلانية رفضت المشاركة إلا إذا تقاضت مبلغا كبيرا من المال . انقلب الموقف وهرع أعضاء الفرقة يقبّلون يد الأخ البدوي ، راجين منه أن يسامحهم ويسمح لهم بالمشاركة في الحفل .. فهم يعرفون أنهم إذا عرف الجمهور بما فعلوه سيسقطون إلى الأبد. ولا يفوتني أن أذكر بأن فرقة الوفاء المراكشية بقيادة الفنانين عبد الجبار الوزير ومحمد بلقاس ، قد نظّمت جولة فنية في المدن المغربية كان ريعها لصالح الثورة الفلسطينية عام 1972 .
أما عن الفنانين المنفردين ، فقد دعيت لإلقاء محاضرة في قاعة المعهد البلدي للموسيقى بمدينة القنيطرة ، وبعد إنتهاء المحاضرة طلب المنظّمون أن أزور وإياهم مدير المعهد وهو أحد الفنانين المحترمين كبار السن . ذهبنا إلى مكتبه فاستقبلنا بحفاوة ، وفاجأني بقوله أنه يقوم حاليا بتلحين قصيدة لأحد الشهداء الفلسطينيين . وعندما طلبت منه إطلاعي على نص القصيدة ، فتح درج مكتبه وأخرج نسخة من نشرة ( صوت الثورة ) التي كنا نصدرها في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية ، وعلى صفحتها الأخيرة قصيدة لي بعنوان ( زغرد يا رصاص واخرس يا قلم )، وكنت قد كتبت في تقديمها أن هذا العنوان هو في الأساس جملة قالها الشهيد مازن أبو غزالة قبل استشهاده في معركة طوباس عام 1968 ، فالتبس على الفنان واعتبر أن القصيدة للشهيد مازن أبو غزالة ، دون أن ينتبه لإسمي المكتوب في نهاية القصيدة .
وأتوقّف عند حكاية طريفة وقعت لي مع شيخ الفنانين المغاربة الأستاذ أحمد البيضاوي ، الذي سعدت بالتعرف عليه ومجالسته مرات عديدة بالدار البيضاء والرباط ، فاكتشفت أنه من كبار المثقفين وحفظة الشعر ، إضافة إلى ذكائه وحضور بديهته وكونه عازف عود لا يشق له غبار وملحن مبدع تخصص في تلحين القصائد . وذات يوم كنت بصحبة وفد فلسطيني نبحث عن عنوان أحد الأحزاب التي لنا معها موعد ، وبحثنا عن العنوان في الشارع الذي أعطونا إسمه ، ولم نعثر على العنوان . توجهت إلى مقهى في ذلك الشارع لأسأل عن عنوان الحزب فوجدت الأستاذ أحمد البيضاوي جالسا مع بعض أصدقائه . سلّمت عليهم فسألني عما جاء بي إلى هذا المقهى المنزوي ، فلما أخبرته قال لي وهو يصطنع الجدّية ( هذا يدلّك كم هوهذا الحزب جماهيري جدا ) .
في عام 1972 تعرّضت شخصيا لحادثتين خطيرتين أحدهما في الصيف والأخرى في الشتاء . ففي فصل الصيف أردت أن أمارس بعضا من الطقوس التي يمارسها عموم الناس الذين هم في مثل سني ، أي الذهاب إلى البحر للإستمتاع بجوّه من سباحة ومرح وحمّام شمس . ولما كان تحقيق ذلك ليس ممكنا إلا بأخذ إجازة كما يفعل عموم الناس بسبب طريقة تفكيري في ذلك الزمن ، حيث كنت أعتقد أن كل دقائق الزمن هي ملك للقضية ، وأن الذهاب إلى البحر أو محاولة الإستمتاع الشخصي هي هدر للوقت ونكوص عن النضال . وقد احتجت لوقت وجهد كبيرين لإقناع نفسي بأن ( لبدني عليّ حق وأن لزوجتي عليّ حق ). وهكذا ذهبت رفقة زوجتي وأفراد من عائلتها إلى منطقة غير مطروقة كثيرا على المحيط الأطلسي شمال مدينة المحمدية عند إلتقاء الواد المالح بالمحيط ، وأخذنا معنا مأكولات ومشروبات وما تستلزمه نزهة البحر .
لا أدّعي أنني أجيد السباحة ، فأنا رغم أنني ولدت في مدينة حيفا البحرية لم أتعرّف على البحر إلا في المغرب ، حيث عشت حياتي السابقة في الضفة الغربية لنهر الأردن التي لا بحر لها سوى البحر الميت ، الذي يستلقي الناس على شاطئه أو فوق سطح مائه الذي لا يغرق أحد فيه بسبب كثافة مياهه التي تزيد عشرة أضعاف عن كثافة مياه البحار الأخرى ، ومياهه مالحة جدا تجعل من يغطس فيه لجهله بهذه المعلومة تحمرّعيناه وتتورّمان . وهكذا دخلت البحر وصرت أرمي نفسي وسط المياه محركا يدي ورجلي كالأطفال دون أن أجرؤ على الدخول إلى الأعماق .
وقد علمت لاحقا أن البحر في تلك المنطقة فيه دوّامات يسميها الناس ( خاتم ) تجذب الإنسان وتمنعه من الخروج من دائرتها وتشدّه إلى الأعماق . وقد وقعت في واحدة من هذه الدوّامات في نفس الوقت الذي أصبت فيه بتشنّج عضلي في رجلي ، ولما شعرت بالخطر بدأت أقفز في الماء وأصرخ طالبا النجدة ، دون أن يتقدم أحد لنجدتي لظنهم أنني إنما ألعب ، حيث لم اكن بعيدا جدا عن الشاطئ ، إلى أن لاحظ اثنان من الشبان تخبطي في الماء وقدّرا أنني لا أجيد السباحة وأن الدوّامة تجرّني ، فجاءا وأمسكا بي وأخرجاني بعيدا عن بؤرة الدوّامة .
دامت العملية كلها دقيقتين أو ثلاث فقط ، ولكنها كانت بالنسبة لي دهرا طويلا ، شعرت خلالها بأنني سأموت لامحالة ، وبدأ شريط حياتي يمرّ في ذهني بسرعة البرق بكامل تفاصيله . أحزنني جدا أنني عندما سأموت ويصل الخبر إلى أهلي ويعلم والدي بأنني مت غرقا وأنا مستمتع بالبحر ، تصورته سيقول : كنا نظنه مناضلا يكرّس حياته كلها للقضية ، فإذا به كان لاهيا مستمتعا ، مما يعني أنني سأصغر في عين أبي وعائلتي ولن يحزنوا عليّ كثيرا وربما لن يتلقوا العزاء بي . وأطرف من ذلك أنني وأنا أنزل إلى الأعماق ، كنت أحسّ وكأن خاتم الزواج ينسلّ من إصبعي ، فأرفع أصابعي إلى الأعلى حتى لا ينزلق الخاتم . المهم أن الأمر كله حدث دون أن تعرف زوجتي ومن معها بما حدث ، ذلك أنني آثرت أن أسبح بعيدا عنهم حتى لا يضحكوا من كوني لا أجيد السباحة ، في الوقت الذي يجيدها أطفالهم.
والحدث الثاني وقع في شهر ديسمبر / كانون أول ، وكان صهري الحاج الطيب يومها قد عاد من الحج فذهبت زوجتي إلى الدار البيضاء على أن ألتحق بها مساء بعد إنتهاء مأمورياتي . فقد كان عليّ أن أذهب إلى مطار الدار البيضاء لإستقبال الأخ محمد المدني ( عضو اللجنة المركزية لحركة فتح لاحقا ) القادم من دمشق في مهمة ، وكان يحمل معه شريطا سنمائيا للمنتج السوري مظهر السبيعي والذي حضر للمغرب قبل أيام لتسويقه وكان إسم الفيلم ( ثلاث عمليات في فلسطين ) . وقد أزعجني إصرار الأخ السبيعي على مرافقتي إلى المطار ، لأن معنى ذلك أنني سأعود بهم إلى الرباط ، في حين أنني لو لم أحضره معي كنت سآخذ الأخ المدني إلى أحد فنادق الدارالبيضاء ليبيت هناك أو أن يأخذ القطار إلى الرباط ، وأذهب أنا عند أصهاري .
لم تكن الطريق الرابطة بين الدار البيضاء والمطار يومها اوتوستراد ، وكان الجو ماطرا . إنزلقت بي سيارة الفولس فاغن التي ذكرتها كثيرا ، فانقلبت على جنبها ولقوة الإرتطام عادت لتنقلب على ظهرها ، وبما أن سقفها محدودب فقد انقلبت ثمان مرات حسبتها وأنا لا أكف عن ترديد ( الله يستر الله يحفظ ) ، إلى أن ارتطمت السيارة بشجرة تين واستقرت . في الإرتطام الأخير إنقلع الزجاج الخلفي للسيارة مع المطاط الذي يحيط به ، فقذفت السيارة الأخ المدني خارجها ليقع على حجر سبب له جروحا وكدمات وآلاما فظيعة .
خرجنا من السيارة بشق الأنفس بمساعدة بعض الناس الذين هرعوا لنجدتنا ،وكانت الدماء تغمرني وتسيل من وجهي ورأسي ، حيث تحطم الزجاج الجانبي للسيارة وجرّحني . أما السيد السبيعي فنظرا لكونه قصيرا وسمينا ويجلس في الكرسي الأمامي بشكل يملأ الكرسي تماما فلم يصب ولو بخدوش . جمعت أوراق السيارة وحقيبة الأخ المدني والفيلم السينمائي وحملنا الناس بسياراتهم الخاصة إلى مستعجلات مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء . تعرّف الأطباء والممرضون على هوياتنا فاهتموا بنا كثيرا وبدأوا بتصويرنا بأشعة إكس ليعرفوا هل حدثت لنا كسور أم لا . أصرّ الأخ السبيعي على أن يدخل غرفة التصوير أولا رغم عدم إصابته ، وتبين أنني مصاب بجروح غير غائرة ، وأن الإصابة البليغة كانت للأخ المدني الذي قرر الأطباء إبقاءه في المستشفى .
تسبب الحادث في تأخري عن الذهاب إلى بيت أصهاري ، فطلبت من أحد الممرضين السماح لي باستخدام الهاتف للحديث مع زوجتي في بيت أهلها ، فأخبرتها بما حدث وقلت لها أنني سليم تماما . تماسكت زوجتي ولم تخبر أحدا من إهلها بما حدث ، وركبت سيارتها وجاءتني إلى المستشفى . دخلت البهو مهرولة حتى وصلت أمامي وتفرّست في وجهي ووقفت بجانبي وهي صامتة دون أن تقول لي حتى ( الحمد لله على السلامة ) ، ولكن وجهها كان شاحبا وعينيها زائغتان . وفي تلك اللحظة وصل عمي أبونزار لابسا جلبابا فوق بيجامته ، رفقة زوجته ، وعيناه محمرّتان من شدّة البكاء . وعندما رآني واقفا على قدمي ، تنهّد وقال الحمد لله واتكأ على الحائط دون أن يسلم عليّ ، ثم اقترب مني وسألني : أين أبو إياد ؟ فلما قلت له بأنه لم يحضر ، تنهّد ثانية وقال الحمد لله وعاد ليتكئ ثانية على الحائط .
كان أحد أقارب زوجة عمي يركب سيارة أجرة تسير وراء سيارتنا وقت وقوع الحادث وتعرّف عليها ، لكنه لم يتمكن من الوقوف ليتبين ما وقع ، ولما وصل إلى بيتهم اتصل بزوجة عمي وقال لها بأن سيارتي قد انقلبت عشرين مرة ، وأن أحد ركابها قد مات أما واصف فهو بين الحياة والموت . كان عمي يعلم أن الأخ القائد أبو إياد سيحضر إلى المغرب ، فظن أنني ذهبت لإحضاره من المطار وبالتالي فإنه هو الذي مات ، وأنني قد أكون مت أيضا .. ولذلك جاء وهو بهذه الحالة .
وقد ذكّرني هذا الحادث بما وقع لي صيف عام 1962 عندما كنت رفقة شقيقتي الطفلة غربية متوجهين بالحافلة من مخيم الفارعة إلى نابلس ، وانقلبت الحافلة وسقطت في الوادي بعد اجتياز شلال وادي الباذان . كان ردّ فعلي العفوي أن إحتضنت شقيقتي لأحميها بجسد ي ، وفعلا أصبت بالعديد من الكسور والجروح وتلطّخت ملابسي بالدماء. نقلتنا سيارات المارّة إلى المستشفى الوطني بنابلس حيث قدمت لنا الإسعافات وخيّطوا جروحنا بدون مخدر . وبالطبع وصلت أخبار الحادث إلى أهالي المخيم الذين هرعوا إلى المستشفى ليطمئنوا على ذويهم ، ووصلت الأخبار والدي الذي كان يعمل في نابلس ، فجاء مسرعا إلى المستشفى ، ولما وصل إلى حيث نحن رأى شقيقتي واقفة سليمة تماما ورآني رغم الضمادات واقفا على رجلي ، تقدم وقال لي جملة واحدة وعيونه زائغة : الحمد لله على السلامة وأخذني وشقيقتي إلى المخيم . وفي الطريق قال لي كلاما فهمت منه رغم الإعياء أنه يعتزّ بما فعلته أثناء الحادث حيث أخبره الناس أنني أنقذت العديد من المصابين الذين ربما كانت ستسوء حالتهم لولاي ، ولم أكن أتذكر لحظتها شيئا مما فعلته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.