من خلال ما راج من تصريحات وقرارات وخيارات ذات الطابع السوسيو-اقتصادي، والتي ميزت الشهور الأولى لحكومة عبد الإله بنكيران، لا يمكن للمتتبع إلا أن يدلي بدلوه قدر المستطاع في النقاشات المتعلقة بالمرجعيات والتبريرات العلمية الممكنة التي يجب أن تكون سندا لاتخاذ مثل هذه القرارات والإجراءات في مجالات حساسة للغاية لكونها تربط ما بين الوضع الاجتماعي والتنمية الاقتصادية وتوفير ديمومة شروط الاستقرار السياسي في بلادنا. فعلا، لقد بادرت الحكومة وأثارت في بداية عهدها إشكالية سياسية بخيارات تدفع المتتبع إلى طرح العديد من الأسئلة والتي نذكر منها في هذا المجال: * ما سر تركيز خطاب الحكومة على الطبقة الفقيرة عوض الطبقة الوسطى؟، هل من أجل تنمية الاقتصاد الوطني أم لأهداف أخرى لا نعلمها؟ * لماذا أثيرت إشكالية وجود ترابط ما بين الزيادة في ثمن المحروقات ومسألة إلغاء صندوق المقاصة وطرح خيار تعويضه بصندوق للدعم المباشر للفقراء؟ ما قد يفهمه المتتبع هو كون طرح كل هذه الخيارات جاء في سياق صعب يحتاج إلى سياسات اقتصادية ناجعة يجب أن يكون وقعها إيجابيا على كل الطبقات الاجتماعية وبالشكل الذي يترتب عليها دينامية اقتصادية واجتماعية تخدم مسار الانتقال الديمقراطي (جعل التنمية الاقتصادية أساس التنمية السياسية). بالطبع هذه النجاعة لا يمكن تحقيقها البتة في حالة استمرار الحكومة في تجاهل الأدوار الريادية التي لعبتها وتلعبها الطبقة الوسطى في تنمية الأمم والمجتمعات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. لقد أكدت التجارب أن دعم الطبقة الوسطى في السياسات العمومية هو السبيل الوحيد لتقوية الروابط الاجتماعية، وضمان استدامة الاستقرار، والتقليص من حدة الفوارق الطبقية، والرفع من مستوى الاندماج والتقارب ما بين طبقة الأغنياء (الطبقة العليا) والطبقة الفقيرة (الطبقة السفلى)، ولعب دور الوساطة وضمان استكمال الدورة الاقتصادية بمردودية كبيرة لتشمل كل الطبقات في المجتمع (الطبقة الوسطى هي المحرك الأساسي للأنشطة الاقتصادية ذات الصلة بتنمية مستوى عيش الطبقات الفقيرة لكونها تعيش معها جنبا إلى جنب وتتفاعل معها باستمرار في الحياة اليومية). إن مكانة هذه الطبقة في تحقيق أهداف السياسات الاقتصادية على مر التاريخ لم تكن خاضعة لتوجهات إيديولوجية، بل لاعتبارات وطنية صرفة. لقد أكدت التجارب التي يزخر بها تاريخ تطور الفكر الاقتصادي بمختلف مرجعياته وتلاوينه أن هدف تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كهدف أساسي بالنسبة للحكومات في مختلف البلدان والأزمنة، كان دائما مرتبطا بضرورة تقوية الصلة أو العلاقة بشكل دائم ما بين الإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار. فلجوء الحكومة اليوم إلى خيار الدعم المباشر للفقراء في سياق اقتصادي اجتماعي يتميز بالهشاشة، أصبح فيه المغاربة يدفعون ثلث مداخلهم لتسديد قروضهم (المصدر الاتحاد الاشتراكي عدد 10144 بتاريخ 16 يوليوز 2012)، يمكن أن يتحول إلى مصدر قلق، ويمكن أن يسبب في ظهور اختلالات اقتصادية واجتماعية. الأهم في هذه المرحلة في اعتقادي يجب أن يكون هو البدء في التفكير في سياسة اقتصادية إستراتيجية تمكن البلاد من تنمية دخلها الوطني، وبالتالي ضمان التنمية الأوتوماتيكية لدخل كل الطبقات الاجتماعية وعلى الخصوص الطبقات الفقيرة والمعوزة. وهاته السياسة لا يمكن بلورتها كما سبق أن أشرنا إلى ذلك أعلاه إلا من خلال التفكير في تقوية العلاقة ما بين الإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار. إن الاستهلاك، كمحرك أساسي للاقتصاد الوطني والدولي، له ارتباط وثيق بمستوى الدخل الفردي حيث يلجأ المستهلك دائما إلى الرفع من قيمة استهلاكه كلما ازداد دخله، لكن بدون أن تجتاز نسبة الرفع من الاستهلاك نسبة الرفع من الدخل، أي أنه لا يستهلك الزيادة في دخله الحقيقي بكاملها بل يخصص الفارق للادخار. وبذلك يكون الرفع من مستوى الاستثمار والاستهلاك مرتبط أشد الارتباط بمنطق تعامل المستهلك مع دخله، أي بمنطق توزيع هذا الأخير ما بين صرفه لتحقيق حاجياته الاستهلاكية الاعتيادية، أو ادخار جزء منه لتحقيق حاجيات أكثر أهمية في المستقبل والتي قد تكون سلعا استهلاكية أكثر نفعا وأكثر قيمة أو استثمارا أسريا قد يكون مصدر تمويله ذاتي أو مختلط (الاستعانة بقروض السوق المالي). وعلى المستوى الوطني، بتجميع مبالغ الادخار الفردي يتشكل الادخار الوطني والرأسمال المفترض أن يتحول إلى استثمارات تنموية يستفيد منها بالموازاة القطاعين الخاص والعام والدولة والمجتمع. وبذلك يبقى تطور حجمها (أي الاستثمارات) مرتبط أساسا بمتغيرين اثنين، الأول هو تكلفة القروض الضرورية لتمويل المشاريع الاستثمارية والتي تحددها نسبة الفائدة، والثاني هو نسبة تطور الإنتاج والزيادة في حجمه والمرتبط بدوره بمستوى الطلب، وكلما ارتفع مستوى هذا الأخير (أي الطلب) في السوق تجد الوحدات المنتجة نفسها في وضع اضطراري للاستجابة للحاجيات المعبر عنها كما وكيفا (تلبية طلبات وتطلعات المستهلكين الاعتيادية والإضافية) حيث تلجأ في هذا الشأن إلى تطبيق قاعدة «مفعول مكثر المضروب فيه» (Effet multiplicateur). واعتبارا لما سبق، تكون الأجور الأكثر نفعا بالنسبة للاقتصاد الوطني هي تلك التي يترتب على الزيادة في قيمتها الحقيقية (الرفع من القدرة الشرائية) زيادة في حجم الاستهلاك والادخار. وبعبارة أخرى، إنه الدخل الذي يتيح إمكانية الرفع من مستوى الاستثمار في «قوة الإنتاج» سواء تعلق الأمر بالاستثمار في قيمة الرأسمال المادي والتقني (الرأسمال الثابت، الآلات والمعدات، آلات العمل، المواد المخزونة،....)، أو في الرأسمال البشري (خلق مناصب شغل جديدة، التكوين المستمر، التعليم والتكوين المهني،...). وعليه، يبقى تطوير الاقتصاد وتنميته مرتبط إلى حد بعيد بمدى توفر الإرادة السياسية لتمكين الأفرا من التعود على منطق زمني للتعامل مع الادخار، منطق يضمن تعاقب مستمر لمرحلتي تكوينه وصرفه (périodes d?épargne et de désépargne). إنها الحاجة لترسيخ منطق عادات الادخار في حياة المستهلكين وتنميته في الزمن، وفي نفس الوقت الرفع من مستوى الموضوعية في الاستهلاك لديهم. بهذا التعود، المؤدي حتما إلى عقلنة التفاعل ما بين الإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار، لا يمكن للمقاولة أن تكون إلا في وضع اقتصادي واجتماعي مريح وجد ملائم يمكنها من تدبير استثماراتها بنجاعة ومردودية، وبالتالي يضمن لها التفاعل مع متغيرات السوق بنوع من الثقة، وبنوع من القدرة في التحكم في تحقيق توقعاتها الإحصائية وعلى رأسها التأكد من إمكانية تجاوز دخل الاستثمارات لتكلفة الإنتاج، وتجاوز الفاعلية الهامشية للرأسمال لنسبة الفائدة. كما يكون الفاعلون في هذا الوضع بالذات أكثر قدرة في مواجهة إكراهات الاستثمار بيسر وسلاسة، بل والتشجيع في الزيادة في قيمته بشكل دائم من خلال خلق التوازن ما بين اللجوء إلى القروض المالية وإلى إمكانيات التمويل الذاتي، وبالتالي تحويل العلاقة ما بين الاستثمار ونسبة الفائدة إلى علاقة مرنة بشكل تضمن برمجة زمنية دائمة لاستغلال الرأسمال سواء على شكل «توظيفات» مالية (placements) لدى المؤسسات البنكية والمالية في حالة ارتفاع نسبة الفائدة، أو على شكل مشاريع استثمارية حقيقية في حالة انخفاضه. وفي ختام هذا المقال نقول أن توطيد علاقة زمنية قوية ما بين الإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار هو السبيل الأنجع للرفع من مستوى المقاومة للمخاطر الاقتصادية الدورية الداخلية والخارجية. إنه السبيل كذلك لخلق وضعية اقتصادية ملائمة تشارك في تنميتها كل الفئات الاجتماعية، وتضمن علاقة ايجابية ما بين تفعيل مبدأ «التسريع» (principe d?accélérateur) ومبدأ «مفعول مكثر المضروب فيه»(Effet multiplicateur) . اقتصاديا، القاعدة الأولى تعني أن قيمة حجم الاستثمار من أجل الإنتاج قد تساهم في جعل المنتوج مرتفعا كلما كان الرأسمال الضروري المخصص لذلك مرتفعا كذلك، وكلما انخفضت نسبة الإنتاج كلما انخفض حجم وقيمة الاستثمارات، أي أن الاستثمار ينخفض كلما فقد درجات في سرعة نمو الإنتاج (السقوط في وضعية تكون فيها القدرة الإنتاجية تفوق الطلب وبالتالي مكلفة بسبب الاستغلال الجزئي للرأسمال المالي والتقني).