كانت السيدة» رودريغيز» أول من يكون هناك.. في هذه الأثناء، لاتغادرها الابتسامة العريضة، وهي تمسح شارع «جان جوريس»، بنظرات حانية، تنتقل، يمينا، نحو قنطرة( بويون كور)، وتستقر، برهة، يسارا، في اتجاه محطة الميترو، محطة.. ..»مارسيل سامبا» ... تجلس، في مكانها المعهود، على المقعدالحديدي المشبك بكؤوس أنخا ب النصر القادمة، وأكمام وردة ...رفعت عينيها نحو متجر « باسم الوردة» ، وأصابعها تتقرى المقرنصات المكللة لأنخاب النصر. تتحرك شفتاها بصمت، ثم تعاود النهوض، من جديد، بعد أن تسحب عربتها، ذات العجلتين، متجهة نحو حاوية الأزبال الخضراء الشبيهة بخيام معسكرات فرسان القرون الوسطى. لا .. كانت أشبه بكبائن المصطافين في المنتجعات والشواطئ.. وتقف عند البويب الخاص بالملابس بجفنه المنسدل وتلتقط من الإسفلت حزمة ملابس تفليها أصابعها المدربة، فتحتفظ بقطعة، او قطعتين، وترمي بالباقي عبر النافذة التي ارتفع جفنها بحركة آلية في هذه اللحظة بالذات. أما العين الأخرى الدائرية، فلم يهتز لها جفن، فالسيدة «رودريغيز»، وهي تستعد للعودة نحو المقعد الحديدي، لاتحمل زجاجا ، أو ماشابه، لكنها لاتتردد في اللف حول الحاوية، وتقف عند هشيم الزجاجات الفارغة، المنثورة فوق الإسفلت...وتلعن بهمهمات سريعة، متجهة نحو، مكانها المعهود. - كيف حالك، يا جميلتي؟ سأل السيد» بول» صاحب مصبنة « النظافة فن وجمال منذ1920» السيدة رودريغيز برأسه الأصلع البارز من النافذة المفتوحة نصف فتحة. -. . أحسن منك. أجابت السيدة «رودريغيز» بلهجة حاسمة، دون أن تنظر جهة السيد «بول». في هذه اللحظة، يكون « ليو» قد تسلل بكيسه البلاستيكي على رؤوس أصابع قدميه، نحو المقعد الحديدي، وسارع إلى التقاط، علبة البيرة المعدنية المذهبة وجذب، بسبابته، الحلقة المعدنية، إلى أعلى، فانبعثت فشفشة مدغدغة ابتسم لها « ليو»، وهو يناقل بصره بين الرغوة والسيدة رودريغيز. - في صحتك يا أجمل امرأة في العالم. - مبكرا - ياعزيزي- أكثر من المعتاد.. بدأت اليوم.. أتمنى أن.. - .. هل هناك أجمل من الشرب مع الطيور؟ هذه العلبة (يرفع ليو مقاطعا السيدة رودريغيز- البيرة عاليا مثل ممثل مسرحي)... في هذه اللحظة ينتشر الصفاء المطلق، وكأن الأرض ممتلئة بينابيع «جورا». يرفع «ليو» العلبة، من جديد، صادحا بصوت جهوري: -.... قبل أن يلوثوا العالم.. في صحتك. أضاف «ليو» بعد صمت قصير. -....أتمنى أن تكون نهاية هذا اليوم بخير... المهم أن تكوني راضية عني. تبتسم السيدة « رودريغيز»، وهي ترد له التحية، بصوت هامس: - في صحتك با طفلي الكبير. يتجه « ليو» نحو منتصف الكرسي، ويضع الكيس بين قدميه، وهو ما زال ممسكا بعلبة الجعة المعدنية. يبدأ في فتل شاربه الشبيه بشارب» أحد الخارجين من بطن» جيرمينال». - هل تعرفين ، يا عزيزتي، أن «جان جوريس» قد شرب نخبه الأخير بهذا المكان؟ -.... تهز السيدة» رودريغز» موافقة على ماقاله «ليو الذي أخرج ، في هذه الأثناء، من جيبه الخلفي، جريدة «الميترو» المطوية أربع طيات، ووضع عويناته فوق أرنبة أنفه. -.. ماذا يقولون اليوم؟ سألت السيدة «رودريغيز» بصوت متثائب، دون أن يغادر بصرها حاوية الأزبال. - لاشئ.. لاشئ.. سوى... توقف»ليو» عن الكلام، وهو يتابع، بزاوية عينه اليمنى، السيدة» رودريغيز». . -.. سوى ماذا؟. -.. ستغضبين، مرة أخرى، إذا قرأت عليك أخبار» الصبار المكسيبكي» -... أنتم الرجال مشدودون، دائما إلى الأسفل. . إلى سراويلكم القذرة. . _.. لكن سروال هذا الذي يشبه اسمه شركات ماوراء البحار، يساوي أجرة سنة كاملة للمنظفة المعتدى عليها في البالاس الأمريكي. . -. . . يحكم العالم، ويعجز عن إغلاق إبزيمه. . ابن الفاعلة. . _. . . مثل القط بسبع أرواح. . يشربون الدم ، ويمصون العظم. . - بيني وبينك، اسمه لايستحقه .. ستراوس.. فالس. . ( تتمايل السيدة رودريغيز مغمضة العينين).. لا يستحق هذا الاسم. . و -. . تذكرين عزيزتي أغنية « جاك ديترون « الشهيرة: في جمجمتي صبار في سراويلي صبار... في... ذلك هو صاحبنا في هذا اليوم.. يلوح» ليو» بالجريدة، ويعود ، من جديد، إلى القراءة. في هذه الأثناء، يصل»مانويل»، وهو فتى ما زال في مقتبل العمر، إلى الكرسي الحديدي، وقبل أن يمد رجليه، على عادته، يخرج ، من جيب بنطاله الخلفي، زجاجة» الدجين» المربعة الحجم، ويكرع ، بصوت مرتفع ثانيةأو ثانيتين. . . يلولب الزجاجة، ويدخلها في جيبه الخلفي، ويدمدم بصوت مخنوق: - لم يجدوا أما مهم إلا الخيار الاسباني. . اا تلتفت السيدة» رودريغيز» نحو»مانويل» وتسأله بنبرة ساخرة: -. . . واحد يتكلم عن الصبار، والثاني عن الخيار. . هل هو ملحق سوق الجملة الجديد؟ -. . . . ألم تسمعي قنبلة الخيار الاسباني؟ نظرت السيدة» رودريغيز»، من جديد، جهة «مانويل»، الذي عاد إلى القول: -. . . خيار كاتالاني قبل كل شئ. _ . . ماذا فعلت»إيتا» مرة أخرى؟ -. . . لاشئ. . إنه الخيار. . الخيار الكاتالاني فقط. -. . ماذا حصل لكما اليوم. ؟. ا واحد يكلمني عن الصبار المكسيبكي، والثاني عن الخيار الكاتالاني. . . وصلتما إلى الافلاس بسبب هذا الملعون. تشير السيدة»رودريغيز»إلى مؤخرة»مانويل»، بسبابتها التي تتجه ، بحركة بطيئة، نحو الكيس البلاستيكي عند قدمي»ليو». استوى «مانويل» واقفا ، فجأة، والتفت ، ببصره، يمينا نحو نهاية شارع «جان جوريس»، عند «جزارة المغرب العربي» المواجهة لوراقة السين». رفع قبضة يده اليمنى المكورة، وأخذ يصرخ بصوت مرتفع: - التاريخ إما أن يكون مأساة ، أو ملهاة. . . والخيار وجهه المأساوي صمت برهة، و رفع بصره نحو السيدة «رودريغيز»، وهو يمد سبابته نحو نهاية الشارع: -. . في36، وصلنا إلى قوس النصر، والآن يشهرون في وجوهنا الخيارالقاتل . . فاشيست. . ولم يتردد» مانويل» في الإمساك ، بحجره، مكورا قبضته بحركة داعرة، وهو يدفع بجذعه المنطوي نحو نهاية الشارع، نحو قوس النصر. - .. اسمعوا.. هذا الخبر عن هذا الملوث القذر:» باعت زوجة صاحب الاسم الشهير العابر للقارات إحدى لوحات « فان جوخ» ب...بثلاثين مليون دولار... أصفار كثيرة. هو ذاك... لوحة هذا المسكين مقابل دزينة عوازل طبية. ا - .. لو بعث الآن لأخرج شفرته الشهيرة ، وجز الأذن الأخرى حتى لايصله هذا التلوث المريض. حثالة.. . _. . لا. . بل عليه أن يجز الخيار الفرنسي الذي يعلو ولايعلى عليه. أشار مانويل إلى مقدمة سرواله، لاويا شفتيه باشمئزاز، بعد كرعه لجرعة سريعة من زجاحة «الدجين». -... وزوجة (تابع ليو بصوته الجوهري) هذا الخيار..صاحب اسم الشركة العابرة للقارات، تملك متحفا، أو متحفين... بيتافي» لاميريك» (نطقها ليو بصخب من زاوية فمه).. رياض ب» مراكش»... وتشارك في المزادات العالمية. . . ؟ا - كل ذلك بسبب الخبار؟ا . . نعم ياعزيزي. . الخيار تحت شمس مراكش يختلف عن خيار « نيويورك». . في هذه الأثناء، كان « ليو» يتابع ارتفاع الباب الحديدي الملولب ل»المطعم الصيني الذي اشتعلت واجهته الزجاحية ببالونات حمراء عديدة طوقتها أشرطة أفعوانية مذهبة، ومجسمات التنين الصيني تقذف شواظ لهب لاينطفئ. . . ابتسم، وكرع ، بصوت مسموع، من علبة البيرة، ثم تجشأ، وهويمسح شاربه بكم قميصه الصوفي ذي المربعات السوداء والحمراء المتقاطعة. الصينيون قادمون.. - . . ماذا تنتظر من هؤلاء الكسالى؟ا. أشارت السيدة « رودريغيز» إلى الأبواب المغلقة على طول امتداد ضفتي شارع « جان جوريس». وهي لاتكف عن هز كتفيها مرات عديدة. في هذه الأثناء، بدأت زخات المطر في التساقط بإيقاع سريع. . قذف « ليو» بما تبقىمن العلبة في جوفه، وسحب وراءه الكيس البلاستيكي ، واتجه، بخطوات رشيقة على رؤوس قدميه، نحوسقيفة محطة الأوتوبيس الزجاجية الأنيقة التي انزوت بإحدى زواياها عجوز لاتكف عن تحريك شفتيها بحركات سريعة. لم يغادر « مانويل» مجلسه، وهو يتابع « ليو» الذي استقر بجانب العجوز، وهو يرفع أمامها العلبة المعدنية. - في صحتك يا جميلتي. يخرج « ليو» قطعة أورو، صفراء اللون، ويقربها من يد العجوز التي، نظرت إلى اليد المدودة باحتقار، دون أن تكف عن تحريك شفتيها. - هذه السيدة المحترمة من حزب « سيرج جانسبورج»اا. أطل «ليو» برأسه مخاطبا السيدة «رودريغيز». - هل هو حزب جديد؟ سألت السيدة « رودريغيز» باستغرابا، بعد أن مسدت غطاء الرأس البلاستيكي المجعد. - ألاتعرفين حزب « جانزبورج»؟ الملعون هو الذي أحرق ورقة الخمسين أورو المشهورة. . لفها مثل سيجار كوبي. . . . ثم . هوب . . احترق رأس « ديكارت». . - . . يستحق هذا الأورو الملعون أكثر من ذلك. - أنت محقة ياجميلتي( مد لية عنقه من جدبد دون أن يغادر السقيفة). . . كيس من الأورو لا يمنحك مترا في هذه المدينة العاهرة. . . في صحتك. . يخرج « ليو» علبة جديدة من الكيس المستقر بين قدميه. - وهاهو الرئيس القزم يغازل الصينيين دون خجل. . أو حياء. اا. خاطب « مانويل» « ليو»، بجبين معقد، ويده تندس في جيبه الخلفي بحركة سريعة. -.. يمدحهم في خطبه، ويلعنهم في غرفة نومه... سي لابولايتيك .. لابوليتيك ياعزيزي.. - لابوليتيك ، وما تشربه الآن، زجاجة واحدة. . لافرق. قالت السيدة «رودريغيز» بلهجة حاسمة. - لو كان الأمر بيدي لجعلتك رئيسة للجمهورية عوض هذا المأفون. - . . من المؤكد أن القزم سيصدر قرارا جمهوريا لغسل « اليوان» الصيني قبل استقراره بجانب « الأورو». ارتفعت قهقهة صاخبة من «مانويل»، وهو ينهي كلامه بعينين دامعتين. - مساكين. . همست السيدة «رودريغيز»، بصوت خافت، وهي تتابع تدافع الناس أمام «سناك»( الذوق الفرنسي). . -... صحن، في حجم الكف، . . قطعتان ، أو ثلاث، من نبتة طماطم/ ودوائر خيار. . - هذا عام الخيار بامتياز. . . قاطعها « ليو»، وهو يرفع جاجة اليبرة، بتحية هتليرية. -...دوائر( تتابع السيدة رودريغيز وهي تخفي ابتسامة وليدة بباطن كفها) خمس أوست.. بست أوروات... هذا كثير. . - . . وهؤلاء؟ أشار» مانويل» إلى فتى وفتاة ينبشان حاوية أزبال بجانب أحد المتاجر الكبرى. -..اسمع...السلع المطلة من هذه الحاوية منتهية الصلاحية... يتركونها عمدا.. حل ديموغرافي جديد.. سي لا بوليتيك. . - . . في أمريكا بحرقون فائض الذرة، ويركبون الطائرات نحو إفريقيا لمعاينة الجفاف. . نعم . . سي لا بوليتبك. -. هل تعرفين ، يا عزبزتي، أن « جوريس» سقط بعيدا عن هذا المكان؟ . . . . . . . . . . . -. . سقط بتلك المنطقة الراقية التي تنتشر فيها متاجر القطع الذهبية النادرة. . - وماذا كان يفعل هناك؟ -. . كان مدعوا لاجتماع.. سي لابوليتيك... - .. وتلميذه» مارسيل سامبا»... في نهاية الشارع، مازال يخوض حرب عصابات الأنفاق... في 36... وصلنا إلى قوس النصر... تنهض السيدة « رودريغيز» بتثاقل ، وتبدأ في مسد ركبتيها بحركات بطيئة. -إلى أين يا أجمل امرأة في العالم؟ -. . . إنها الواحدة بعد الزوال. . أقحوانتي تنتظرني على أحر من الجمر. في باريس ماي 2011