في ساعات الذروة ، يخصص ميترو «المدينة العجيبة» عربات خاصة للنساء لا غير، و هو القرار الذي اعتبرته نساء مدينة ريودي جانيرو اللواتي أتعبتهن «الأيادي المتجولة» للذكور نصرا كبيرا لهن. وبذلك تلتحق ريو البرازيلية بمدينتي مكسيكو وطوكيو، اللتين اختارتا قبلها الفصل بين الجنسين في وسائل النقل و لفترات معينة في اليوم، لأسباب اجتماعية و بواسطة قانون متوافق عليه، لا لأسباب دينية، خاضعة لتأويل معين للدين و مفروضة قسرا ، كما هو الحال مثلا في إيران و السعودية. و قد جاء هذا القرار، بعد الموافقة على قانون تم التصويت لفائدته في ثامن مارس 2006 باقتراح من حاكمة ولاية «ريو»، استجابة لمطلب نسوي أساسا. اليوم وبعد ست سنوات على هذه التجربة، تقوم المبعوثة الخاصة لصحيفة «ليبراسيون» الفرنسية، بإنجاز روبورتاج تستقرئ فيه آراء الكاريوكات (المنتميات لريو دي جانيرو) من مختلف الأعمار، حول هذا الفصل بين الجنسين في ميترو المدينة. حقيبة ظهر على الكتفين، و هراوة باليد اليمنى، يقوم رجل الأمن بمراقبة السكة نصف الفارغة لميترو المدينة. الساعة لا تتجاوز السادسة و الربع صباحا بمحطة الجنرال «أوسوريو» للميترو الذي يوصل إلى شاطئ «إيبانيما» الرائع في ريودي جانيرو. يرن الجرس، ينزل راكب مسرعا من السلالم محاولا الدخول إلى العربة قبل تحرك الميترو، لكن العربة كانت «خاصة بالنساء» ، فكان الرجل المسرع أول ضحية لرجل الأمن هذا الصباح. فمهمته هي منع الرجال من دخول هذه العربة «المخصصة للنساء» صباحا، من السادسة إلى التاسعة ، ثم مساء من الخامسة حتى الثامنة. خلال هاته الساعات الست، و هي ساعات الذروة، لا يمكن لغير النساء ركوب هذه العربات المعروفة باللوحات التشويرية و كذا بالإعلانات الوردية التي تغطيها. هذا «الميز» لم يتم اتخاذه من طرف «ميترو ريو» الشركة التي تُسير خطي «المدينة العجيبة» بمحطاتها الخمس و الثلاثين ، بل اتخذ بقانون، تم التصويت عليه سنة 2006، في ثامن مارس، اليوم العالمي للنساء، باقتراح من حاكمة ولاية ريو «روزينها ماتيوس» ، جاعلة من مدينة الكارنافال إحدى المدن النادرة في العالم، مثل طوكيو و مكسيكو إذا استثنينا بعض البلدان الإسلامية التي تقوم بهذا الفصل لأسباب دينية التي قررت تخصيص عربات نسائية في ميتروهاتها. فالنساء تشكلن 54 بالمائة من الركاب حسب «ميترو ريو»، و تعتبر العديد من نساء ريو، اللواتي تعبن من التحرش الجنسي اليومي و اللواتي ناضلن من أجل تخصيص عربات ميترو للنساء فقط، هاته الرحلات غير المختلطة ، نصرا لهن. «نحن ملتصقات ببعضنا جميعا» «الآن ليس هناك الكثير من الناس، فالفصل بين الرجال و النساء يبدو غير ذي فائدة، لكنك سترين بعد قليل، فما أن نقترب من وسط المدينة، حتى تمتلئ العربة عن آخرها» هكذا تحدثت محذرة «دانييل» ذات الستة و ثلاثين عاما و السكرتيرة في شركة «بيتروبراس» البرازيلية للنفط. مسارها اليومي لا يتجاوز سبع محطات، أي حوالي نصف ساعة لا غير، «لكنني سعيدة لكوني وسط نساء فقط. فما أن تصل ساعة الذروة حتى نصبح ملتصقات ببعضنا جميعا. هذا مزعج جدا، لكنه أقل إزعاجا من محاذاة الرجال و أيديهم المتجولة...إذ لا نعرف كيف نتصرف معهم، فإذا أبدينا ملاحظة ما قد تكون النتيجة وخيمة، لهذا غالبا ما نلتزم الصمت و نبقى قابضات على قلوبنا في انتظار النزول للمحطة التالية». هذا ما تردده النساء البرازيليات تقريبا: الرجال و أيديهم التي لا تتوقف عن التجول، الرجال الذين يلتصقون أكثر من اللازم، الرجال الذين لا ينظرون جيدا و لا يعرفون أين يضعوا أيديهم أو أقدامهم... الساعة الآن السابعة، مازال النوم يطوف براكبات العربة الواسعة المزينة بإشهار ملون لصابون الشعر. تلميذة مراهقة تغالب النعاس، تضع سماعات أيفون في أذنيها و حذاء «كونفرس» في القدمين. إلى جانبها تجلس شابة تستغل دخول الميترو إلى الأنفاق، حين تصبح النوافذ شبيهة بالمرايا، كي تكمل زينتها. خلال عشرين محطة تقريبا يربط الخط رقم 1 أحياء شاطئ «إيبانيما» و «كوباكابانا» بالمركز التاريخي للمدينة. يعتبر هذا الخط خطا راقيا، شبيها إلى حد ما بالخط رقم واحد لميترو باريس الذي يربط بين «فانسين» و «نيوييه سير سين» ب «لا ديفونس». تقول ميشيل 32 سنة، «زوجي الذي يأخذ الميترو كل صباح، كثيرا ما يشهد حوادث بين رجال و نساء في العربات المختلطة، يبدو أن عربة واحدة مخصصة للنساء غير كافية، إذ يحتاج الأمر أكثر...» . تواصل ميشيل، الطويلة القامة و القوية البنية، «هنا، لا يخشى الرجال أي أحد، و من المتعب ذهنيا رد أيديهم طيلة النهار». تشتغل ميشيل في مؤسسة أمنية خاصة داخل مقاولة بناء. تقود ميشيل فريقا 90 بالمائة منه رجال و هي تقول : «أواجه العقلية الذكورية كل يوم. بل إن أحد أعضاء الفريق غادر حينما تمت ترقيتي في الرتبة، لأنه لم يتحمل أن ترأسه امرأة. حقوق المرأة تتقدم و الدليل ما أنا عليه اليوم، لكن الانتصار لم يتحقق بعد، فأنا أشتغل أكثر منهم كي أحصل على المقابل نفسه». «عيناي في كل مكان حولي» نزلت ميشيل. لقد وصلنا إلى محطة «سينيلانديا» بالمركز التاريخي لمدينة ريو. هنا توجد الأوبرا و المكتبة الوطنية المشيدتان من طرف البرتغاليين. ففي هذا الحي لا تزال بعض المنازل الجميلة من الطراز الكولونيالي قائمة بين البنايات الشاهقة التي تحتضن مكاتب تشتغل فيها بشكل كبير «الطبقة ج»، و هو الإسم الذي يطلقه البرازيليون على طبقة متوسطة لا تني تتضخم، إلى درجة أنها حسب بعض الباحثين تشكل نصف السكان. ميشيل أخرى ( يبدو أن هذا الإسم قد شاع كثيرا بعد صدور أغنية البيتلز) تسافر منذ ساعة و نصف و لم تصل بعد إلى محطتها. هذه المساعدة الطبية (31 سنة) التي تضع نظارات «برادا» و حقيبة يد من قصب و سوارا لامعا، ليست متوجهة إلى الشاطئ. فهي لا تذهب إليه إلا نادرا ، لأنها لا تتوفر على الوقت لذلك «في المكان الذي أسكن فيه بشمال المدينة، أكسب نصف ما أكسبه من أجرة في الجنوب مقابل نفس العمل»، لهذا اختارت العمل في الأحياء الثرية مقابل أجرة تبلغ 1500 ريال برازيلي (600 أورو) و أربع ساعات ميترو يوميا في العربة النسوية. «أن تكوني امرأة بين النساء، يخفف عني حملا ثقيلا. في السابق حين كنت أستقل الحافلة، كان علي الانتباه الحذر طوال الوقت. كانت عيناي في كل مكان حولي. لا أدري ما إذا كنت أستطيع المحافظة على هذه الوتيرة إضافة إلى الضغط». فالصورة النمطية لريودي جانيرو المدينة التي تتجول فيها المرأة بسروال قصير جدا بالمدينة أو بلباس السباحة بالأماكن المحاذية للشواطئ، دون وجل لأنها محمية بالاحترام الذكوري، صورة انتهت و أصبحت من الماضي. الساعة الآن الثامنة و النصف صباحا، في نهاية الخط رقم 1 ،»جوسارا» ذات الستة و الأربعين عاما، بقميص أزرق و حقيبة ظهر سوداء، ركبت بالصدفة في عربة النساء، «لأنها فارغة أو أقل ازدحاما» تفسر ربة البيت هاته التي تمضي ساعتين يوميا من وقتها في الميترو «لكني عادة ما أذهب في العربات المختلطة. لم أشعر أبدا بأني غير آمنة في الميترو. آخذ لي ركنا قصيا و أحتمي بجدار العربة و كل شيء يمر على ما يرام». في سنة 2006، كانت «جوسارا» معارضة لقانون الفصل بين الجنسين في الميترو «لا أدري كيف يسمح للنساء باستخدامها و تمنع على الرجال. هذا ميز لا يليق ببلادنا». أما «فرناندو» (25 سنة) فهو لا يوافقها الرأي : «لو كانت العربة مخصصة للنساء طوال اليوم أو كن ممنوعات من ركوب العربات الأخرى، لكان هذا ميزا، لكن الحال ليس كذلك. و أنا أتفهمهن، فلهن الحق في أن يبقين هادئات، فهنا الرجال أكثر إلحاحا». « عربة النساء أكثر نظافة » الساعة حوالي الخامسة مساء. يدنو يوم العمل من نهايته. و الترمومتر لا يتحرك عن 35 درجة و مكيف الميترو لا يتمكن من تجفيف البشرة. «روزاليتا ريبيرو نافيس» 54 سنة، تركب العربة الوردية. على غرار أغلب الراكبات اللواتي يأخذن مساء الخط رقم 2، الرابط بين مركز المدينة و الأحياء الشعبية بالشمال، فهي خادمة و هذه مهنة تكتسي أهمية كبيرة في مراكز المدن الكبرى بالبرازيل. فحسب المعهد الوطني للإحصاء بالبرازيل، تضم مدينة ريو حوالي 380 ألف خادمة بيت سنة 2010 من أصل ستة ملايين نسمة هم سكان المدينة. تقول «روزاليتا» «قبل سنوات من الآن، قبل أن تخصص عربات للنساء، طفق رجل في ملامستي، فبحثت في حقيبة يدي و وجدت إبرة شككتها في يده من وراء الحقيبة» انفجرت كل النساء المتابعات للحديث بالضحك، ثم عدن للتركيز من جديد على توازنهن الهش داخل العربة. خلت العربات. الساعة السابعة مساء. تقول «لوزيا» (50 سنة) « أنا في الواقع أساند هذا الفصل بين الركاب من أجل ابنتي هاته ناظرة إلى فتاة شابة هي ابنتها و إلا كنت سأموت من الخوف و القلق عليها إذا تركتها تذهب وحيدة إلى المدينة». في هذا المساء كانت ترافق «نيفيا» ابنتها ذات 23 عاما، إلى موعدها عند الطبيب. تقول الفتاة الشابة « ما ألاحظه هو أن عربة النساء أكثر نظافة، لكن الفتيات أيضا عنيفات مع بعضهن البعض، ففي مرة من المرات كدت أتعارك مع فتاة أرادت الاستحواذ على مقعدي. أعتقد أنهن قد يكن أسوأ من الرجال» . اقتربت ساعة الذروة من نهايتها. في وسط العربة، يلقي رجل نظرات وجلة حوله ثم ركز نظراته على قدميه. كان فرنسيا ركب عن طريق الخطأ، عربة النساء دون أن ينتبه للافتة المكتوبة. و حين اكتشف ذلك نزل مسرعا ،في المحطة التالية، لا يلوي على شيء.لم تقم أي واحدة داخل العربة بردة فعل. ضحكت إحدى الراكبات قائلة : «إنه محظوظ، ففي بعض المرات يتم طرد الرجال بقوة». لكن في مرات أخرى فإن النساء يخفن و لا يقلن شيئا. فحتى هنا تكون الغلبة للرجال. «فيوليت لازار» «ليبراسيون» الفرنسية 30 أبريل 2012