يعرف المغرب في الآونة الأخيرة حراكا تشكيليا مهما يغطي جل المدن المغربية، لما أفرزته الساحة التشكيلية من معارض ولقاءات ومواسم ومهرجانات وبينالات وما شابه هذه الأسماء، مما يدل على أهمية هذا القطاع وانتعاشه المفاجئ وغير المسبوق على مدى ثلاثة عقود ولت. في خضم هذه الحمى التشكيلية، ذهبنا لطرح بعض الأسئلة المقلقة نسبيا ليس على مستوى التنظيم والترتيب والترويج فقط، ولكن أيضا على مستوى الرؤية كمشروع يلعب دورا محوريا في تحديد ملامح التشكيل المغربي مستقبلا. خصصنا هذه الورقة لدور قاعات العرض كفضاء إيجابي ومثمر وكوسيط ومساحة للتواصل بين الفنان والمتلقي حسب معايير محددة تحكمها ضوابط احترافية تسهم في نسج علاقة قانونية بين الفنان وصاحب القاعة من جهة، و كذا في بلورة وتحديد نوعية الأعمال والتجارب والارتقاء بها لطموحات المتلقي في بعدها الإيجابي. ولعل السؤال المطروح -حاليا عقب هذه التراكمات المظهرية والموغلة في السريالية والوهمية- هو: لم هذا الظهور المفاجئ وغير المسبوق لقاعات العرض التشكيلي بعدما كانت الساحة التشكيلية المغربية تفتقر وتشكو من قلتها ونوعيتها منذ زمن طويل؟ ثم السؤال المحرك والجوهري في هذا الظرف هو من يصنع الفنان، أ هي قاعة العرض أم العكس؟.. كلها أسئلة تحيينية فقط، لنقف على مواقع الضعف في تجاربنا التشكيلية، التي تحتاج إلى التحليل والتفكيك وإلى شيء من الجرأة والمواجهة دون التفكير ولو للحظة في الربح المادي. فبعد أن كانت الأروقة فضاء يستمد وجوده وكيانه بل واستمراريته من إبداعات الفنانين، أصبح الفنان عرضة للمساومة طمعا في تحقيق أهداف معنوية (الشهرة) وأخرى مادية بسرعة مفرطة، خضوعا لشروط مجحفة لا ترقى لمستوى الاحترافية في التعامل المشترك بين الفنان والرواق، ولا تستجيب للمتطلبات الابداعية الراقية، بدعوى المثل الشعبي (الجمهور عايز كده)، مما تسبب في الحريك الثقافي أو بالأحرى بلغة السياسيين: الترحال الثقافي من مجال لآخر، أي من الآداب والفلسفة والعلوم الإنسانية بصفة عامة للفنون التشكيلية، واحتكار الوضع على أسس معرفية يغيب فيها الحس والمعرفة الجمالية بآلياتها العلمية الحقيقية، بمنأى عن كل تقليد أو نحل مطابق وبدون خجل لتجارب الغرب مع استبلاد المتلقي والمقتني على أساس فرضية مغلوطة، أنهما يجهلان أو لا يطلعان على ما يجري في هذا القطاع خارج الوطن. والأمثلة على ذلك متعددة نخشى من إدراجها أن نخيب آمال من راهن ماديا على أسماء ظهرت فجأة، كان سببها الإعلام المكتوب في غالب الأحيان باللغة الفرنسية ثم السماسرة وبعض أصحاب الأروقة على كون أنها ذات أهمية في حين أنها لا تملك من التراكم المرجعي شيئا، لاعلى مستوى العرض بحكم جنينيتها ولا على مستوى الحضور التاريخي في سياق المشهد التشكيلي المغربي العام. فالمتتبع للحركة التشكيلية المغربية، سوف يلمس -في الآونة الأخيرة- هذا الاسهال من حيث الانتاج وهذه الحمى الإبداعية بوتيرة مفرطة في السرعة (كثرة المعارض لنفس الأسماء وفي نفس السنة) مع ظهور عدد كبير من القاعات وجهل أصحابها بضوابط الترويج وتاريخ الفن، بعدماكانت الساحة التشكيلية تعرف منذ السبعينات، قاعات خاصة متميزة ومحدودة بأهميتها ومصداقيتها في كل من الدارالبيضاء والرباط، ناهيك عن القاعات التابعة للمراكز الثقافية الأجنبية، ثم القاعات التابعة لوزارة الثقافة ووزارة الشبيبة والرياضة. وبما أن القاعات الخاصة بالمغرب أصبحت تساهم في صناعة وفبركة الفنانين، واتخاذ قرارات ممنهجة لتبسط سلطتها على الساحة التشكيلية، كان كذلك من الضروري البحث عن أقلام (نقدية) غير معروفة تختبىء وراء اللغة، وخاصة الفرنسية ثم شراؤها لتثمن هذه التواطؤات المغرضة، لكسب مزيد من المال، مستعملة تكتيكاً تجارياً تراهن به على بعض الفنانين المبتدئين والمغمورين، وذلك بشراء كميات كبيرة من أعمالهم (بالجملة) بأثمنة زهيدة، وعرضها والكتابة عنها والتعريف بها، ثم الرفع من سومة شرائها بأضعاف سعرها لصالحها على أنها تجارب حقيقية ومختمرة وجد مهمة، وأنها تصب في عمق الحداثة دون أن يرقى أصحابها لفهم معناها الحقيقي، معتمدين فقط على محاكاة التجارب الغربية بما لها وما عليها، فتصبح هذه الأعمال غريبة عن موطنها بمرجعياته الثقافية والحضارية، مما يسبب انفصاما أو (سْكيزوفرينيا) إبداعية عند جل هؤلاء (الفنانين) المغاربة الذين يعيشون ضمن نسق مغربي عربي إسلامي، بروح التبعية للغرب، وبمنأى عن التفكير والخلق والإبداع بقيمه الأصلية، وأسئلته الجوهرية التي عهدناها في السنوات الماضية، موازاة مع هموم المجتمع المغربي بروافده الثقافية والتراثية، في إطار نضالي ثقافي وأخلاقي، لذلك التجأ بعض الفنانين للصمت والانسياق وراء ربح زهيد بالمقارنة مع الأرباح الهائلة التي يحققها بعض الوسطاء، مباركين هذا الوضع خوفاً من فقدان مكتسباتهم التي يحققونها من خلال هذه القاعات، أو من خلال بعض المزادات العلنية التي ترجع لها الكلمة في تحديد السومة الشرائية (COTA) لكل فنان، دون الاحتكام للقواعد المتعامل بها دولياً، وفي غياب متاحف وطنية تحفظ هذا الموروث الثقافي من التسرب للخارج وتحميه من جشع المتطفلين..وتمكن المتلقي من مشاهدة ومتابعة التطورات التشكيلية بالمغرب، عوض أن تبقى حكراً على فئة ميسورة معينة. لقد أصبحت الصورة للمشهد التشكيلي بالمغرب، جراء هذه العوامل السالفة، شبيهة تماماً بالمشهد السياسي والتربوي. فعندما كان في فترة سابقة يتعرض بعض التلاميذ للطرد بالمدارس العمومية بعد إخفاقهم في الامتحانات، ويصعب عليهم مسايرة المستوى الدراسي بهذه المؤسسات، يتم إلحاقهم بالمدارس الخصوصية آنذاك لإكمال دراستهم، وقد كان هذا مخجلا، بينما انقلبت الأشياء لضدها الآن، حيث أصبح كل من يتابع دراسته بالمدارس العمومية، يعتبر في نظر بعض الفئات (الراقية) فاشلا، ولا يساير التطورات الراهنة للحداثة والمعاصرة، وهذه المقارنة واردة ويمكن إحالتها على هذا الوضع المؤسف، الذي يفضي بنا إلى فشل جل القاعات العمومية الرسمية، وإخفاقها نسبياً في مهامها التنويرية بالحجم الذي عهدناها عليه، خاصة بعد انسحاب شكلي غير مسبوق لوزارة الثقافة من الدور المنوط بها سابقا، ونجاح بعض الأروقة الخصوصية، ثم انسحاب الفنان من المشهد السياسي، بالتخلي عن المواقف الواضحة والصارمة في اتخاذ القرارات لصالح الشرائح الاجتماعية المهضومة، لينحاز فقط لمصالحه دون الانخراط في بلورة الحقل السياسي والاجتماعي والإنساني، وأشير هنا فقط لبعض الفنانين التشكيليين المستفيدين بشكل جيد ومنتظم بدون رقابة وبمنحى عن الاستحقاقات الضريبية. ولهذه الأسباب كذلك أصبح الثقافي بصفة عامة تابعا للسياسي، حيث يتم استغلال هذا الاخير (تحت وطأة الصمت والتكتم لدى عدد كبير من المبدعين والمثقفين المغاربة) لكل ما هو ثقافي من أجل تحديد مآرب وأهداف ذاتية عند البعض. وقد ورد في مقال للكاتب والشاعر العراقي (فاروق يوسف) بجريدة القدس العربي تحت عنوان (الفن العربي في خطر قوله: «لقد استعمل السياسيون العرب الثروات كلها في عملية ثقافية، كان القصد منها نزع الثقة بالفن وتجريده من قوته في التأثر،... الطبقات الثرية الصاعدة ليس لديها أي استعداد لتلقي الفن الراقي.رجال الأعمال الأوربيون يعرفون ذلك جيدا، لذلك صاروا متخصصين في اقتناص الأعمال الفنية الرديئة ليتماهوا من خلالها مع ذائقة المشتري««. لذلك أقول: إننا لسنا محتاجين لأموال طائلة في هذا الظرف بالذات لصرفها في تنظيم الملتقيات وعقد الصفقات مع الأروقة الأجنبية لانتزاع اعتراف ضمني بكياننا نحن من خلالها، بقدر ما نحتاج لهذه الأموال والإمكانيات لتشجيع طاقاتنا وترتيب بنياتنا الثقافية أولا وبشكل جيد وسليم، يخول لنا إمكانية التنافس على المستوى العربي والدولي، ثم إصلاح تعليمنا ومدارسنا الفنية بالمغرب وطرق التدريس بها، وإعادة النظر في عدد من النقابات التشكيلية وفي طرق تسييرها بعيدا عن النزاعات الضيقة، لنحافظ ولو قليلا على بعض ا لمكتسبات كالتأمين الاجتماعي، ثم بطاقة الفنان التي تم تجميدها مؤخرا في أفق انتظار مجهول، دون تفعيل مميزاتها، وإعادة النظر في بعض المزادات العلنية التي أصبحت الممثل (الشرعي) مؤقتا، في تحديد القيمة الفنية والمادية للفنان دون أية مرجعية معرفية سليمة تخلو من العلاقات الزبونية، وذلك برفع الأثمنة لأعمال لا ترقى لمستوى القيمة المحددة، ثم المراقبة من أجل الحد من الاتجار في بعض الأعمال المزيفة التي تحمل أسماء لفنانين مغاربة وافتهم المنية، ثم في الأخيرالإسراع في إحداث متحف وطني للفنون المعاصرة بمواصفات علمية دقيقة وكرونولوجية، لجميع الاتجاهات التشكيلية المغربية بعيدا عن المزاجية والزبونية، للحفاظ على موروثنا الثقافي والحضاري المغربي. فالينسيا - إسبانيا 2011/12/30