تستمد عملية تغيير المنهاج أسسها من دراسة وتحليل عميقين للحاجيات والرهانات المطروحة على النظام التعليمي في كافة المستويات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وما إلى ذلك، لهذا فالوضع الحالي للمدرسة المغربية يقتضي إرساء أسس منهاج مندمج قادر على إحداث التحولات المطلوبة في عمق النظام التعليمي. فما هي أهم نقائص المنهاج الحالي؟ وما هي المداخل الممكنة لمجاوزتها ؟ وإلى أي حد تنسجم قيم العقيدة الإسلامية مثلا مع قيم أخرى مثل حقوق الإنسان، الديموقراطية، المواطنة...الخ، وهي مفاهيم ترتبط أساسا بنموذج الدولة العلمانية ؟ إسهاما منا في النقاش الدائر حول التعليم وقضاياه بالمغرب نتناول اليوم قضية المنهاج والحاجة الماسة إلى تغييره في ظل إصلاحات متتالية يعرفها نظامنا التعليمي. وتعزى أهمية طرح هذا الموضوع إلى كون المنهاج أحد أهم أركان النظام التربوي، فمن خلاله يتم التعرف على طبيعة السياسة التربوية القائمة (politique éducative ) وعلى مواصفات (profil) الفرد والمجتمع والمدرسة التي نريد وفقا لتصور معين للتعليم والتعلم. في البداية، نود أن نشير إلى وجود نوعين من المقاربات في النظرة إلى المنهاج: مقاربة تخصصية ضيقة (approche disciplinaire) ومقاربة منظوماتية أعم وأشمل (approche systémique) وسنصطف في مقالنا هذا إلى جانب المقاربة الأوسع والأكثر شمولا لأنها ستسعفنا في تسليط الضوء على الموضوع من زوايا مختلفة. على الرغم من كون مصطلح المنهاج (Curriculum) حسب معجم اكسفوردOxford Dictionary, Legendre (2005) يرجع إلى القرن السابع عشر فإنه إلى غاية النصف الثاني من القرن العشرين لا يزال يستعمل في كثير من الأنظمة التعليمية للإشارة إلى البرامج الدراسية (programmes) قبل أن تصبح هذه الأخيرة فيما بعد مكونا من بين مكونات المنهاج. وتعود التنظيرات الأولى في هذا المجال إلى كتابات الرواد من أمثال: Bobbitt (1918, 1924), Tyler (1950), Lewy (1977), D?Hainault (1979, 1981, 1988). وقد ظهر المفهوم حسب بعض المصادر في انجلترا حيث استعمل لأول مرة لتسليط الضوء على طبيعة الثقافة التي تمررها المدرسة (Fourquin, 2008). بعد ذلك اتسع نطاق استعمال المفهوم في المرجعية الأنكلوساكسونية ليشمل معالم السياسة التربوية ومقومات الفلسفة التربوية التي وقع عليها الاختيار وطبيعة القيم المتبناة ضمن المشروع المجتمعي القائم، بالإضافة إلى المكونات الأخرى كالبرامج وطرق التعليم والتعلم وطبيعة المعارف والكفايات المستهدفة و التقويم ومواصفات المتعلمين وما إلى ذلك. أما الاتجاه الفرنكفوني فما يزال في أغلب أدبياته يوازي بين المنهاج و المقرر الدراسي إلى درجة الخلط بينهما. ظل المنهاج منذ ظهوره إلى اليوم محط جدال و نقاش من قبل مهتمين من مشارب مختلفة، نشير هنا إلى إسهامات: - علماء الاجتماع: الذين اهتموا بالعلاقة بين المدرسة والمجتمع، سنذكر هنا بكل من: و Bourdieu Passeron و Establet ثم Crahay ويمثلون اتجاها يعتبر المدرسة مجالا لصراع القوى الاجتماعية و هناك في نفس الاتجاه أراء تعتبر المعارف التي تلقنها المدرسة غير محايدة (Godston, 2008). - الديداكتيكيون: حيث ينصب اهتمامهم على كيفية تحويل المعرفة العالمة إلى معرفة مدرسية وهو ما يعرف عند Chevallard بالنقل الديداكتيكي (Transposition didactique) بينما اهتم آخرون بالوضعيات الديداكتيكية (situations didactiques, Brousseau) - المؤرخون: فيما يتصل بالاهتمام بمحتويات التعليم لاستجلاء ظروف وملابسات نشأتها والتركيز على شروط التعلم الجديدة (Audigier 2010). بالإضافة إلى هؤلاء تتعدد الجهات المؤثرة والفاعلة في المنهاج سواء داخل أو خارج النظام التعليمي ويمكن أن نشير هنا إلى كبار علماء النفس والتربية والخبراء الأكاديميين، القادة السياسيين، جماعات الضغط المختلفة، رجال الدين، أرباب المقاولات، دون أن نغفل تأثير المؤسسات الدولية: صندوق النقد الدولي، المؤتمرات العالمية حول التعليم، اليونسكو، اليونسيف...الخ. هذا التعدد يفضي إلى نتيجة مؤداها أن النقاش حول المنهاج يتسم دائما بالتوتر والمقاومات بسبب التجاذب القائم أصلا بين مختلف الحساسيات، مما يتطلب في الكثير من الأحيان اعتماد نهج التفاوض) négociation ( أو اعتماد المقاربة التشاركية(approche participative) في بلورة المنهاج وصياغته شكلا ومضمونا. في سياق حديثنا عن المدرسة المغربية ، نشير إلى أن المنهاج التعليمي المعمول به حاليا لم يستدمج بما فيه الكفاية التحولات الحاصلة في شتى الميادين خصوصا في مجال التربية والمعرفة عموما. فإذا شئنا أن نركز مثلا على الأسس التربوية، سنجد انه لم يتخلص بعد من ثقل التصورات التقليدية للتربية حيث يتأرجح بين النموذج المتمركز حول نقل المحتوى (transmissif-instructiviste) والنموذج السلوكي (behavioriste)القائم على رسم أهداف محددة للتعلم، في حين لم يجد بعد النموذج البنائيconstructiviste والسوسيوبنائي (socioconstructiviste) طريقهما إلى الفصول الدراسية. أما فيما يتصل بالعناصر الأخرى، فسنكتفي فيما يلي بإشارات مقتضبة إلى بعض النقائص في المنهاج الحالي: - عدم وضوح معالم الفلسفة التربوية التي من المفروض أن يكون قد استرشد بها واضعو هذا المنهاج. - غياب الانسجام على مستوى المرجعيات والأدبيات التي تؤطره: فإلى أي حد تنسجم قيم العقيدة الإسلامية مثلا مع قيم أخرى مثل حقوق الإنسان، الديموقراطية، المواطنة...الخ، وهي مفاهيم ترتبط أساسا بنموذج الدولة العلمانية ؟ - صعوبة التأكد نظريا وعمليا من طبيعة المشروع المجتمعي الذي يفترض أن المنهاج الحالي يقوم بتصريفه : كيف يتمظهر لنا هذا المشروع على مستوى السياسة التعليمية والتدبير والتسيير؟ وما هي بالضبط مدخلاته ومخرجاته؟ - تكريس الانغلاق بين التخصصات والفصل بين المعارف القادمة منها. - انعدام إمكانية تنسيق الجهود بين المدرسين لتطوير الممارسة التدريسية. - تشتت التعلمات بسبب النظرة التجزيئية إليها (fragmentation). - غياب إمكانية إرساء روابط بين التخصصات وإذا كانت التربية رهانا مجتمعيا ودولتيا، فان أي تصور للمنهاج يجب أن يستحضر علاقة المدرسة بالمحيط والتحولات الجارية فيه، ووفقا لهذا التصور لم تعد التعلمات هدفا في حد ذاتها كما في السابق بل ستتحول إلى مفاتيح في يد المتعلم يواجه بها قضايا ووضعيات مختلفة وتساعده على اتخاذ المواقف والقرارات الصائبة إزاءها . لذلك يسترشد منظرو المنهاج المندمج بفكرة الحكامة الجيدة (la qualité de la gouvernance) و يستندون إلى مقولة ضبط الحاجيات (Maslow, 1954) وفلسفة الاختيار واتخاذ القرار و ثقافة المشروع وما إلى ذلك من أفكار مرتبطة بالبيداغوجيات الحديثة ) . (Learning by doing, Dewey Jكما يقولون بفكرة تعبئة الموارد والتكامل بين المدرسة والمحيط السياسي والسوسيواقتصادي والثقافي. واذا تأملنا جيدا كل هذه المفاهيم سنجد أنها ترتبط بشكل وثيق بمفاهيم التنمية المستديمة والحكامة إذ لا تخفي هذه الأدبيات ميولاتها الاقتصادية ودفاعها عن قيم تكافؤ الفرص والديموقراطية وحقوق الإنسان وتأثرها بالثورة الرقمية وبتكنولوجيا الإعلام والاتصال. هذه الاتجاهات الحديثة في النظرة إلى المنهاج تسعى إلى إدماج مختلف عناصر النظام التعليمي كما تؤكد على فكرة تنظيم التعلمات وفق خطة متجانسة للتعليم والتعلم كي تحدث الأثر المطلوب في الواقع العملي. لهذا يتزايد الاعتراف بهذ الاتجاه التنموي للمنهاج (Braslavzky 2001, Bisaillon 2007) على حساب التصورات الأخرى لكونه منفتحا على التغييرات الحاصلة في المجتمع (Perrenoud, 2008). باختصار لم تكن فكرة المنهاج المندمج وليدة اليوم بل تعود بداياتها إلى سنة 1890 مع باحثين أمثال: Gordon و Susan Drake الذين يعتبران المنهاج المندمج كفيل بتمكين المتعلم من نسج ارتباطات (connections) بين مختلف التعلمات لضمان تعبئة فعالة للموارد في وضعيات دالة وهذا ما ذهب إليه (Roegiers 2000) في اجتهاداته المرتبطة ببيداغوجيا الإدماج. وتتميز مراجعة المنهاج ضمن المقاربة المندمجة بإشراك خبرات من خارج النظام التربوي وبتوسيع الانخراط في هذه العملية داخل المنظومة لتشمل جميع المعنيين، بالإضافة إلى تخصيص محطات استشارية لقياس أثر المناهج المرحلية المتوصل إليها ولا تتردد في اللجوء إلى تجريب المنهاج النهائي و تقويمه. أهمية المنهاج المندمج تكمن في العناصر التالية: - بروز الذات المتعلمة ودورها في اتخاذ القرار - المرونة وتعدد الموارد - ربط المعرفة بالتجربة والحياة العملية - توحيد النظرة إلى التعلمات بين المدرسين - التنظيم والتنسيق إذا انتقلنا الآن إلى الجانب الديداكتيكي سنرى أن أهم مزايا المنهاج المندمج تكمن في فكرة التكامل بين مختلف التعلمات، فبالرغم من تنوع مصادر التعلم وما تتطلبه من قدرات ومهارات وقيم ومواقف إلا أن إمكانية دمجها واردة والرهان على ذلك أمر مشروع وسيصبح من مهام المنهاج المندمج تنظيم تلك التعلمات وتنسيق العلاقات فيما بينها بما يفيد التكامل و التجانس. في المنهاج المندمج تعتبر التعلمات وليدة لحاجة عملية ملحة يستشعرها المتعلم أثناء مجابهته لوضعية مركبة تتطلب إرساء روابط بين موارد قادمة من مصادر مختلفة يستعين بها لاتخاذ القرار المناسب. هذا المنهاج ينظم كل شيء حول المتعلم في علاقته بالحياة العملية. وسنحاول فيما يلي أن نبلور من خلال اجتهادات (Roeigiers X.) بعض أشكال تصور التعلمات ضمن المنهاج المندمج حيث سنورد هنا ثلاثة أشكال : - الشكل الأول: انصهار التعلمات (fusion des apprentissages) في نفس الوضعية ذات الصبغة المركبة (situations complexes) بالرغم من كون تلك التعلمات قادمة من موارد و تخصصات ومواد مختلفة. إن المتعلم مطالب حسب هذا النموذج باستنفار كافة الموارد المتاحة و منحها معنى في وضعية دالة. - الشكل الثاني: الإدماج من خلال التيمات والقضايا المركبة (Thèmes intégrateurs) حيث يمكن للمتعلم أن يعتمد على أكثر من وجهة نظر واحدة أو طريقة واحدة في التعامل مع القضايا المطروحة وذلك دون أن تفقد الموارد والمواد والتخصصات المجندة هويتها واستقلاليتها أثناء التعامل مع قضية من القضايا. إن هذا النموذج يمكن المتعلم من اكتساب رؤية متعددة الأبعاد (vision multidimensionnelle). إن الذي يهم هنا ليس هو وجهة النظر في حد ذاتها بل امتلاك الآليات التي ستمكن المتعلم من فرز وجهة النظر المناسبة، بالإضافة إلى مساهمة هذا النموذج في التربية على الاختيار وتمكين المتعلم من اتخاذ القرار المناسب في المكان والزمان المناسبين. سيمكن هذا النموذج المتعلم من نقل كفاية الاختيار إلى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك. - الشكل الثالث: إدماج الكفايات: إن كل كفاية تتحقق لدى المتعلم تعتبر قابلة للاندماج مع كفايات أخرى متراكمة لديه سواء بشكل منفرد أو داخل مجموعة، لكن هذا الأمر سيتطلب منه تنظيمها وتنسيقها ونسج علاقات فيما بينها لتعبئتها حسب ما تقتضيه الوضعية والوضعيات المركبة الماثلة أمامه، و هذا سيحيلنا إلى مثال الأوركسترا الذي يعزف نفس المعزوفة الموسيقية ولكن بأدوات مختلفة. هذا النموذج سيساعد جماعة المتعلمين من بلورة مشروع للقسم مثلا وذلك اعتمادا على كفايات متعددة وموارد مختلفة يتم استنفارها بشكل متناغم لخدمة نفس المشروع إن أهم الأدوار الحاسمة للمنهاج بصفة عامة هو إحداث تحولات عميقة داخل النظام التربوي، لهذا حاولنا أن نضع المنهاج التعليمي في عمق النقاش المستفيض حول المدرسة المغربية ورهاناتها. لن يكون من الضروري التذكير في خاتمة هذا المقال بأن مدى قوة و ضعف نظام تعليمي معين تقاس بمستوى المنهاج التعليمي المتبع. وفقا لهذا المنظور اعتبرنا أن تغيير المنهاج مطلب مجتمعي مشروع لكون تحسين شروط التعليم والتعلم الأساس الحقيقي لنجاح المدرسة في أداء مهامها. وهو ليس ترفا فكريا بل ضرورة حيوية لملاءمة التعلمات مع التطورات التي يعرفها مجتمع المعرفة و مع رهانات التنمية المستديمة. هذا لن يتأتى في اعتقادنا إلا عبر قيام المدرسة بتطوير خطاب نقدي حول نفسها لتتمكن من استشراف المستقبل. * مفتش تربوي الملف من إعداد: إبراهيم الباعمراني - منير الشرقي