دعِ البابَ يعانقْ هدأة الليلِ. أَسْلمْ رأسك إلى وِسادة بلا عطرٍ، ورتِّبْ أحلامك لوناً بوناً: ضَعِ البنفسجَ خلفَ الأزرق الشاحبِ ضَعْهُ خلفَ صورةِ امرأةٍ خانَتْ نفسَها.. أطلقْ صراخَ القلبِ وراءها وهي تئنُّ في سريرٍ بعيدٍ. أطلقْ براءةَ الياسمينِ خلفَ عرائها وهي تُعاشر مُومساً من رماد. أطلقْ عُواءَكَ عميقاً باكياً في غابةٍ حمراء. .................. ................... رتِّبْ كوابيسَكَ على مَهَلٍ فثمَّةَ بابٌ يهذي في هَدْأَةِ الليل. قبل بضعة أسابيع، أصدر الناقد والمترجم رشيد بنحدو كتابا نقديا مهما تحت عنوان :»جمالية البين-بين في الرواية العربية «(منشورات مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب،فاس 2011،418صفحة ).وقد جاء في تعريف الناشر بالكتاب مايأتي: من من الروائيين لا يجد نفسه، في الكتابة كما في الحياة، وجها لوجه مع تجربة البين- بين بين النص واللانص، بين من أنا ومن غيرأنا، بين الماضي والمضارع، بين الاستلاحة والخيال المؤمثل بين تفضية الوهم وتوهيم الفضاء، بين النص والمناص، بين الكتابة وقراءة الكتابة في الكتابة، بين الطرس كتابة و الطرس محوا، بين كابوس وكاووس، بين اللارواية والرواية... استثنائية هي إذن تجربة البين- بين هذه التي يكون فيها الروائي، بلا وعي منه في الغالب ،عرضة لنوسان عسير وممتع في آن واحد، بين أشكال وأساليب وشفرات وانتحاءات وجودية ورؤى للعالم متنابذة- قد تصبح متنافذة- وتسعى هذه الدراسة الطريفة ( بالاستناد ،عند الاقتضاء، إلى بعض من بارث وجنيت وباختين وديريدا وجويس وبروست وبورخيص وسيبوني وكونديرا وروب-غريي وفوكوإلخ.)إلى افتحاصها وتحليلها ،قبل تأويلها، من خلال روايات عبد الكريم غلاب ومحمد برادة ومحمد شكري والطاهر بنجلون ومحمد عز الدين التازي وإيدمون عمران المليح ويوسف القعيد وأحمد المديني وفاصل العزاوي ومحمد خير الدين وإدوار الخراط. وقد ذيل المؤلف كتابه بدراسة عنوانها: « البين- بين قدرا للرواية « وصفها بأنها « بمثابة خاتمة «. وفيها استعاد أهم الحصائل التي تمخض عنها تحليله للمتن الروائي المدروس في ضوء مفهوم «البين- بين» المركزي. كما قام فيها بتأويل للرهانات الجمالية والأنطولوجية لاستراتيجية البين- بين في أصعدتها الأسلوبية والخطابية والإيديولوجية، وذلك قبل أن يبسط في الأخير تصوره الشخصي لممارسة النقد. في ما يلي نص الدراسة الذي ننشره باتفاق مع الكاتب : يبدو أنّ لجدار برلين النحِس الذي كان، قبل أن يتمّ هدمه في 1989، يقسّم عاصمة ألمانيا إلى هوّيتين، اشتراكية و رأسمالية شحنة رمزية توحي، أكثر من أيّ حدّ فاصل آخر، باستعارة «البين بين». لذلك، أرى ألاّ شيء أحسن منه يصلح لإنهاء هذا الكتاب، مثلما أنني لم أجد أفضل منه لاستهلاله. للمؤلفة الدرامية الفرنسية / مادونا ديبازيل / مسرحية بعنوان «L?Entre deux» (1) («البين بين») تمثل أدوارَها خمسُ شخصيات : إيلغا و زوجها يوهان و ابنتهما أنّا، و يعيشون في وئام ببرلينالشرقية، ثم ماتياس المطلّق الذي يعيش سعيداً مع ابنته غودرون ببرلينالغربية. بعد انهيار الجدار الفارق، عزمت إيلغا على الذهاب إلى «هناك» لترى بعينيها لأول مرة كيف تسير الأشياء في «الجهة الأخرى». و في هذه الجهة، ستتعرّف على ماتياس لتنشأ بينهما علاقة حبٍّ مستحيل جرّاء هذا الإحراج : هل يمكن حقّاً تخطّي الجدار حتى و هو صائر في خبر كان إلى أي حدّ يستطيع المرء أن يجتاز حدّاً عازلاً بين كذا ... و كذا ... هل يكون هذا التخم، في آن واحد، ذريعة فَصْلٍ من حيث كونه، تبعاً لمبدإ التنافي و التنابذ، خطّاً صارماً يفرّق بين ما هو في جانب و ما هو في جانب آخر، و ذريعة وَصْلٍ من حيث هو فضاء وسيط منذور، تبعاً لمبدإ الامتداد و التنافذ، للعبور و التبادل ؟ إنها نفس الوضعية الارتجاحية التي لاحظنا أنّ نصوص المتن التطبيقي تكون فيها و هي تلقاء انتحاءين أو شكلين أو جنسين متمايزين، يتعيّن عليها النوسان بينهما أو اختيار أحدهما أو التوفيق بينهما. لكنْ مع فارق أساس غير هيّن لابدّ لي من التنويه به. «إيلغا : هذه أول مرة تطأ فيها رِجلاي هذه الأرض ! ماتياس : ثمة أمر مؤكد، و هو أنّ الأشياء لا يمكن لها أن ترجع إلى سابق عهدها. لكنّ الجدار سيظل بعض الوقت منتصباً في رؤوسنا ... ألا تعتقدين هذا ؟ - كل شيء ممكن، و ما علينا إلاّ أن ندفع الأشياء إلى التحرك. - ها هي ذي الأسئلة الصعبة بدأت الآن تطرح نفسها ! - ليس سهلاً أن نردم الحُفر. الشواش و الهباء يهيمنان على كلا الجهتين !» )2( فلئن كان البين بين في المسرحية عالم هباء و شواش يبعثان على التحيّر و القلق، فإنه إذا استثنينا روايات محمد خير الدين ذات الصبغة الكاووسية، و رواية أحمد المديني، ذات الخاصية الكارثية عاملُ تجريب و افتتان و متعة في باقي الروايات التي قمت بتحليلها لكتّاب آخرين. بالفعل، تكاد نصوص كلّ مِنْ خير الدين و المديني تشترك في صدورها عن تصور فجائعيّ للعالم، لكنْ مِنْ غير أن تنفي هذه عنهما كونهما يستعذبان البين بين، عذاباً و عذوبة. فسواء أكان هذا البين بين، في حال مؤلف «Agadir»، تذبذباً مأساويّاً بين فضاءيْ الأمل و الغربة أم تنازعاً بين نثرية الرؤية الواقعية و شعرية الرؤيا الهيرميسية أم تردداً بين الانتكاص إلى الماضي و الارتداد إلى الحاضر أم سوى ذلك، و سواء أ كان، في حال مؤلف «مدينة براقش»، مراوحة سيزيفية بين بناء النص بتقنيات السرد الكلاسيكي من جانب، و نسفِه بالطمس و التحريف و الطرس و التمويه أم غير ذلك مِن جانب آخر فإنه، أي البين بين، آية نزوعٍ أونطولوجيّ و جماليّ مكين لديهما، فوضويّ و عدميّ، ليس سوى أثرٍ مِن آثار سديمية الكون التي تلهج بها كذلك شخصيات مسرحية «L?Entre deux» ! و على نقيض روايات خير الدين و المديني، فإنّ باقي الروايات الأخرى التي حللتها تصدر عن تصور مانويّ يزدوج فيه الشيء بضده. فبالنسبة لعبد الكريم غلاب، رأينا أنّ مَطالع رواياته هي مرتع لتجاذب بين بينيّ ذي ثراء دلاليّ قوي. أليست هي الفضاء العصيّ الذي يصارع فيه النصُّ العدمَ ليرى نور الوجود ؟ أليست هي ذلك الحيّز الشكِس الذي يجد فيه المؤلف نفسه وجهاً لوجهٍ مع عدة بدايات ممكنة لنصه فلا يهتدي لواحدة منها إلاّ بعد لأيٍ و عنتٍ أليست هي ذلك الجسر الرجراج الذي يشرع فيه القارئ نفسُه في الوجود الفعليّ بعد أن كان وجوده افتراضيّاً ؟ ينضاف إلى كل هذه الحيثيات أنّ المطلع الروائيّ هو عتبة متشنجة تنبض بتجاذب ما بينيّ قوامه قوتان متنافيتان، إحداهما تحيل على مقول العالم و الأخرى تحيل على مقول النص، بحيث يكون الرهان الجماليّ هو صيرورة المقولين إلى الانصهار في جوهر واحد غير قابل للبينونة. و باعتبار أنّ أيّ نص أدبيّ يكون عرضة لتوتر بين بينيّ أزليّ، طرفاه هما الوفاء بالواقع و مفارقته، فلعل أحسن الأنماط النصية تمثيلاً لهذه الثنائية التضادية هي المحكيّ السيرذاتي و المحكيّ الروائيّ بحصر المعنى، لاسيما أنهما يوحيان بالتعارض. فلقد أبان التحليل أنّ محمد برّادة ربح فعلاً هذا الرهان في «مثل صيف يتكرر»، حيث أمكن له، بوسائط فنية و بلاغية متنوعة، أن يوفق بين انتحاءيْ «الاستيقاع» و «الاستخيال»، و ذلك على نحو أفضى به إلى تصوّر نمط نصّيّ لا تربطه بالمرجعيّ علاقة إحالية، بل علاقة استعارية، و هو «المتخيل السيرذاتي»، الذي يحتل منزلة بين منزلتيْ الحقيقة و الخيال، منزلة لا يكون فيها الخيال بالضرورة نقيضاً للحقيقة. أما محمد شكري، فالراجح أنه لم يوفق كثيراً إلى كسب ذلك الرهان، رغماً عن ادّعائه أنّ «الخبز الحافي» هو «سيرة ذاتية روائية». فعلى رغم تعمّده، بين فينة و أخرى، تصعيد الأحداث و تمويه حقيقتها على القارئ، فإنّ نسبة تخييلها تبقى باهتة، و هو ما لا ينفي عن النص مع ذلك نوسانه بين أشكال أخرى للبين بين عجيبة بوّأته منزلة بين المضارع زمناً للكتابة و الماضي زمناً للأحداث المحكية، بين تفصيح اللغة و تشفيهها، بين السرد العفيف المحتشم و البوح الداعر «المخلّ بالآداب» كما قيل في تبرير قرار منع السلطات «الخبز الحافي» بإفتاءٍ من الدوسكا الأخلاقية. لكنّ بإمكان إشكالية الواقع / الخيال ألاّ تختصّ بالبنية الشاملة للنص وحدها. فقد تطول كذلك أحد عناصر هذه البنية كالشخصية الروائية. فهذه حرّودة مثلاً، في رواية «Harrouda « للطاهر بنجلون، تلاعب «أطفالها» و من خلالهم القرّاء كذلك، لعبة الظهور و الاختفاء، باعتبار هذه تجسيداً لبين بين فريد يعرّض شخصية حرّودة، هيئة بدنية و أدواراً درامية، لتحولات لن تنتهي إلاّ بنهاية الرواية. فهي تراوح بين كونها كائناً آدميّاً حقيقيّاً إذ تعلن عن نفسها نهاراً في أماكن واقعية مألوفة في فاس و الدارالبيضاء و طنجة، و في أوقات ذات صلة بأحداث حاسمة في تاريخ المغرب المعاصر، و كونها من جهة ثانية كائناً خرافيّاً إذ تتوارى فجأة عن الأنظار و تعاني تحولاتها العجيبة مِن طائر إلى جنية بحر إلى نجمة إلى نهد إلى بومة إلى عنكبوتة، تبعاً لتنوّع الأحداث التاريخية التي تستدعي تدخلها العاجل. كما أنّ فضائية النص الروائي لا تعدم التلاؤم مع إشكالية الواقع / الخيال تلك، مثلما تبيّن هذا في رواية محمد عز الدين التازي «مغارات»، التي تؤدي دورَ البطولة فيها «عينٌ» ضخمة لا تني تخضع لنوسان ما بينيّ قويّ يجعلها تارة تنكفئ إلى ذاتها داخل حيّز ضيق (غرفة) لتجترّ إحباطاتها و انتكاساتها، و تارة أخرى تفرقع الجدران، فتخرج إلى فضاء رحب (طنجة) رحابةَ مآسي الوطن، و ذلك لتقول على رؤوس الأشهاد « «أنا أتّهم !»، ممزقة الأقنعة، كاشطة الحقائق، فاضحة قوى البغي و الجبروت. وهو النوسان الذي يؤدي إلى تفضية الوهم و توهيم الفضاء. بيد أنّ ما يعرّف «خيالية» النص الروائي ليس هو فحسب مناقضته لِ «واقعيته»، بل هو أيضاً ما يجعله لا مستقلاًّ بذاته أو مكتفياً بها، بل مأخوذاً في دوّامة مدوّخة من النصوص توحي بأنه أقوى صلة بالافتراض منه بالحقيقة، و هي ما يُعرف ب «التناصّ». فلقد أمكن لي أن أثبت أنّ رواية إدمون عمران المليح «Mille ans, un jour» هي ربيكة نصية بين بينية عجيبة تتركب من رواية «Ulysses» لِ / جيمس جويس / التي هي نفسها، و بوجه من الأوجه، رَجْعُ صَدًى باروديٌّ خفيّ لملحمتي «الإلياذة» و «الأوديسا» لِ / هوميروس /. و هو ما أغراني بأن أغامر بالقول، على أثر / بورخيص /، إنّ جميع نصوص العالم ما هي سوى تسكّعٍ استعاريّ في ما بين نصوص لا حصر و لا حدّ لها هي ما يدعوه ب «مكتبة بابل». كما أنّ مِن أكثر مَجالي البين بين بروزاً في نوع من الرواية العربية ? أقصد ذلك الذي يبدو أنه يستوحي من نصوص الرواية الجديدة في فرنسا بعضاً من تقنياتها السردية هو أنْ يحرّض المؤلفُ نَصَّ الرواية على التفكير في نفسه و هو ينكتب، و ذلك بإنتاج خطاب ميطاحكائيّ يتمرس بالخطاب الحكائي في حد ذاته، فينعكس ذاتيّاً على ذاته بانكفاء الكتابة المتحررة من أوهامها الواقعية، على ذاتها. و حيث إنّ بإمكان الرواية أن تتأمل ذاتها نقديّاً بأكثر من طريقة واحدة، فقد عمدتُ إلى تنويع المستند النصيّ التحليليّ ليشمل كلاًّ مِن «يحدث في مصر الآن» ليوسف القعيد، و «وردة للوقت المغربيّ» لأحمد المديني، و«الديناصور الأخير» لفاضل العزاوي، و «رحيل البحر» لمحمد عز الدين التازي.