لقد تم استحضار هذا العنوان من خلال ما غدا يلاحظه المتتبع للشأن اللغوي من حرب لغوية موجهة للعربية من طرف العديد من الفاعلين في حقول متعددة، سواء في المجال الثقافي أو الاقتصادي أو الإعلامي أو الاشهاري...، وكذا من لدن أقلام تتحرك بمداد أجنبي، وهي حرب لغوية يوظف أصحابها متونا معادية للعربية، ويقاربون الظاهرة اللغوية وفق ثنائية تصارعية، واستنادا إلى معجم الاستشراق الجديد. وأمام هذه الظاهرة، يغدو المتتبع والمتلقي متجاذبا بين مجموعة من الأسئلة حول تناول هذا الطارئ، وكيفية نصرة اللغة العربية. إذاك يتبادر سؤال أولي: لماذا الدفاع عن اللغة العربية ونصرتها؟ وتتولد عن هذا السؤال أسئلة من قبيل: - هل الغرض من الحماية الدفاع والتقوقع والمحافظة...، أم المقصود منها الاستباق والاستشراف والتجديد والحداثة والعصرنة؟ - هل تعاني اللغة العربية من تهديد الاندثار والموت، أم تستوجب إعادة التنشيط والتأهيل؟ - هل المقصود من النصرة وضع العربية في محمية لغوية والمحافظة عليها من التهديد، أم تطبيعها وتوطينها وتمكينها؟ - هل مفردة نصرة تحيل إلى الصراع والمنافسة، أم تقتضي ضرورة اليقظة والحركة ضمن مسار السوق اللغوية؟ تستحضر هذه الأسئلة نصرة اللغة العربية داخل نسقها الثقافي وخارجه نتيجة المنافسة التي تواجهها من طرف اللغات المحلية واللغات الأجنبية، على اعتبار أن وجود اللغات يرتبط بالاستعمال والممارسة، ويتم تجديدها وتغييرها عبر التفاعل والكلام ... وتجدر الإشارة، إلى أننا نميل إلى الشطر الثاني من الأسئلة، والتي سنقاربها عبر وضع اللغة العربية في علاقتها باللغات الأخرى وبالمجتمع ضمن استراتيجية تنزع نحو تطبيعها وتمكينها وتوطينها في سياق سيناريوهين متكاملين: * سيناريو تطبيع الوضع والمتن، * وسيناريو العمل في التمثلات والفعل فيها. إن الإطار الذي نحاول توظيفه في مقاربة حماية اللغة، هو إطار التطبيع والتوطين والفعل في التمثلات في سياق الإيكولوجية اللسانية التي تدرس العلاقات بين الألسن ومحيطها، أي العلاقات بين اللغات نفسها، ثم بين اللغات هذه والمجتمع. إن الحماية بالمعنى الموجب قد يتحقق ضمن سيناريو التطبيع اللغوي الذي يهم: -أولا: تطبيع الوضع الذي يختص به المسؤولون الرسميون، والمتمثل في تفعيل النصوص القانونية والتشريعية بالاستناد إلى مقتضيات الدستور، ومواد الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وروح ظهير أكاديمية محمد السادس للغة العربية... - ثانيا: تطبيع المتن الذي يهتم به الحرفيون اللغويون، والمتجلي في: تحديث العربية، وإدماجها في مجتمع المعلومة، وتبيئتها في الحقول الإنتاجية وتمكينها... -ثالثا: تطبيع إعادة الاعتبار الذي يستدعي التدخل في الفضاء العام عبر العمل في التمثلات- تمثل المواطنين أو الفاعلين اللغويين- والفعل فيها من لدن المجتمع المدني[جمعيات، وهيئات ثقافية، وأفراد ملتزمون بهذه المسألة...] في سياق استهداف التمثلات من أجل إعادة الاعتبار للعربية والدفاع عن مكتسباتها، و تحسيس الشباب بأهمية الرهان اللغوي ماديا ورمزيا على المستوى الوطني والجهوي والجيوسياسي...، على اعتبار أن تغيير وضع اللغة العربية من حيث الممارسة يستلزم الابتداء بإعادة الاعتبار لها على المستوى الذهني لدى المستعملين اللغويين، وانتهاج سياسة القرب اللغوي، وربطها بالمحيط السوسيواقتصادي في سياق العمل على جعل المنتوج اللغوي يرضي متطلبات السوق اللغوية. إن طرحنا يؤكد على العلاقة التفاعلية والمركبية بين عناصر التطبيع الثلاثة المقترحة [ تطبيع الوضع، وتطبيع المتن، وتطبيع إعادة الاعتبار المستند إلى الفعل في تمثلات الفاعل اللغوي]، حيث إن كل عنصر بمثابة جزء مرتبط بالآخر ضمن سيناريو الكل، وهو: التطبيع الذي يخدم استراتيجية تمكين الثقافة العربية في مجتمع المعلومة وعصر العولمة عبر تحديثها وتوطينها قصد الفعل والتفاعل. تطبيع الوضع يهم تطبيع اللغة العربية من حيث الوضع، وذلك من خلال: تفعيل النصوص القانونية حولها من حيث الممارسة، والتفكير في إحداث مرصد وطني للغة العربية يقوم بإغناء التفكير حول استعمالها انطلاقا من معطيات واضحة ودقيقة، وبتقديم أدوات للتقييم، وباقتراح توجهات جديدة. ثم العمل على تصريف السياسة اللغوية عمليا في التظاهرات الوطنية، وفي الصناعات الثقافية، وفي المرافق العامة، وفي الطرق الجديدة للتواصل، بالإضافة إلى توطين استعمال العربية في الملك العمومي، وضبط تهيئة المدينة لسانيا، عبر تجاوز الفوضى اللغوية الموجودة فيها والحد منها... تطبيع المتن يهم تطبيع اللغة العربية من حيث المتن، إغناؤها بمفردات العصر، والاستعمال اليومي، ومحاولة تبيئتها في مجتمع المعلومة، والعمل على جعلها لغة الخدمات اليومية...، مع تشجيع استعمالها في المهرجانات والمناظرات والندوات الوطنية، ثم الاهتمام بقطاعات: التظاهرات الدولية، ووسائل التواصل الحديثة، دون نسيان مسألة تحديث معجمها، وخاصة مصطلحاتها وتطوير أعمال المصطلحات ذات التعدد اللغوي، استجابة للحاجة الاجتماعية، وسدا للفراغ الاصطلاحي، وكذا العمل على تشجيع الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، وإنعاش العربية وإغنائها حتى تظل حاضرة في المجالات الاقتصادية والعلمية والتقنية، وتشجيع الكتابة والكتاب، وتنشيط أوراش القراءة والكتابة، والقيام بمسابقات لتنمية لغة الأعمال واللسانيات القطاعية...، وتحديد موقع العربية في الوسائل الحديثة للاتصال، وخاصة في مجال الأنترنيت... تطبيع العربية من حيث الفعل في التمثلات: إذا كنا نعتبر كون التمثلات تلعب دورا ما في تطور الحالات اللغوية، فإننا سنخلص إلى صعوبة نجاح سياسة لغوية مناقضة لرأي الناس، ومضادة لتطلعاتهم المادية والرمزية. ويستلزم هذا الاشتغال على التمثلات قصد إعطاء صورة إيجابية وموجبة عن اللغة العربية، والحماية القانونية للأمن اللغوي لمستعمليها، والعمل على توسيع فضاء استعمالها الاقتصادي والحيوي، والقيام باختراق فضاءات لم تبلغها بعد... ويستدعي الفعل في التمثلات معرفة المحيط الاجتماعي ومواقف الناس عن المنتوج اللغوي، حتى نستطيع العمل فيها عبر حملات ثقافية... من جهة، وتكييف المنتوج اللغوي العربي مع المواقف والمقتضيات السوسيواقتصادية ، ثم معرفة كيفية تسويق المنتوج اللغوي العربي، وتحديد القطع المزمع استهدافها عبر التساؤل عن: ماهية المنتوج، وطبيعة كلفته، وكيفية ترويجه، وتموقعه، وكذا العمل على ربط اللغة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية وبالتعبير عن اليومي من جهة أخرى. وقد يتأتى تطبيع اللغة عبر الفعل في التمثلات في إطار: التفكير مثلا في تنظيم أسبوع وطني للغة العربية، ومسابقات جهوية حولها، فصليا أو شهريا، وتشجيع إنشاء جمعيات ومنتديات وطنية وجهوية تهتم بالثقافة العربية وبترقيتها، والعمل على توطين العربية في الحقول الإنتاجية: الاقتصاد، والإشهار، والإعلام، والتجارة ، والتلفزة...، وتحسيس الشباب بأهمية اللغة العربية ورهانات استعمالها وتطبيعها... من خلال الاعتماد على أبعاد جديدة وعصرية وحداثية في عملية التحسيس هذه، والتفكير في تنظيم مسابقات حول الكتابة والقراءة بالعربية، وتوظيف أدوات تحسيسية: عروض، أقراص مدمجة، ملفات بيداغوجية، بطاقات، وكراسات...، مع ضرورة تطوير الخدمات بالعربية وتنميتها في الشبكات الإلكترونية: الأنترنيت، والهاتف المحمول، والأقراص المدمجة...، والتوطين والتموقع في مجتمع المعلومة بوصفه فرصة جديدة لهذه اللغة، وتطوير العرض والخدمات بلغات متعددة تكون العربية حاضرة فيها، حتى يكون إرضاء طلب المستهلك طلبا متميزا، وتشجيع التعاون العربي حول اللغة في شبكات المعلومة، وخلق مواقع ذات وثائق بالعربية تمتاز بالفعالية والجودة المعرفية، وتسهيل ولوج المعلومة العربية في الحاسوب و الأنترنيت عبر محاربة الأمية التقانية باللغة العربية، وتنظيم ندوات ومسابقات حول محاور راهنة بهذه اللغة: المواطنة، وحقوق الإنسان، والتسامح، والتعدد الثقافي، والعولمة... سياسة التحسيس بفعالية اللغة العربية إن سياسة ترويج اللغة ونشرها لا يمكن أن تنجح إذا لم تعرف انخراط الجميع ودعمهم. لهذا، نشدد على أهمية الأنشطة التحسيسية التي تعمل في التمثلات، والتي نعتبرها عنصرا ضروريا للتطبيق الجيد لكل تشريع لغوي أو سياسة لغوية ما أو تخطيط لساني معين. وتقوم هذه الاستراتيجية على: جمع المعلومات والمعطيات حول استعمال العربية، وبناء أدوات التحليل والتقييم، والتفكير في إحداث مرصد وطني للغة العربية كما أشرنا سابقا. وتكوين مجموعات عمل حول نوعية العربية في الإعلام وإتقانها في المدرسة. والتفكير في أسبوع اللغة العربية تحت عنوان ما، والمدعوم من لدن الإعلام، والذي يوضح: بيان « غنى» و»حيوية» و»تنوع» العربية، وأهمية الرأسمال اللساني والثقافي والاقتصادي الذي تمثله هذه اللغة. فضاء اللغة العربية الخاص/الذاتي والموضوعي/العام إن تحسيس المستعمل بالتحديات التي تواجه العربية يستوجب: أولا: تحسيس العموم وخاصة الشباب بأن العربية لغة التربية على المواطنة والحداثة، ولغة الفدرلة، وصانعة للتوازن، ومتعالية عن أي انتماء إثنو-ثقافي، وأنها لغة التداول الشامل أفقيا وعموديا بمقتضى حيادها الإيجابي، وإرث ثقافي وحضاري يحتاج إلى التأهيل والتحديث المتواصلين... ثانيا: تحسيس العناصر الموجودة في المحيط الاجتماعي بأنهم فاعلون ومسؤولون عن وجود العربية وحياتها في التراب الوطني والقومي والعالمي. وأن للعربية موقعا مشرفا على المستوى الدولي، مما يستلزم العمل على حماية هذا المكتسب أولا في فضائها الذاتي الخاص [الفضاء الجيولساني العربي والإسلامي]، وفضائها الموضوعي[المحيط الدولي والقاري ]، والعمل على ولوج فضاءات جديدة. ثالثا: تحسيس المسؤولين في المصالح العمومية، وفي التربية والتعليم، والبحث العلمي، والإعلام، والاقتصاد... بأهمية رهان تطبيع العربية وترقية استعمالها وتمكينها في الحقول العامة والخاصة... خلاصة لقد تطرقنا في هذه الورقة إلى معالجة فكرة تطبيع اللغة العربية عبر الاعتماد على سيناريوهات ثلاث [ تطبيع الوضع، وتطبيع المتن، وتطبيع إعادة الاعتبار للعربية عبر الفعل في التمثلات] بغية خدمة استراتيجية تمكين الثقافة العربية في حقل الحداثة المعرفية الراهنة من أجل الفعل والتفاعل، مما يدفعنا إلى التساؤل: هل ثمة تهيؤ نفسي وعقلي لعملية إعادة تنشيط اللغة العربية وتطبيعها . وكيف نعمل على الانتقال إلى مرحلة نقوم فيها بجعل الأشخاص الذين يعرفون العربية أشخاصا يستعملونها في الحياة والحاجيات اليومية . وماذا عن تحديث اللغة العربية عبر توظيف الامتياز الذي تقدمه العناصر التالية: القنوات الفضائية العربية، والترجمة، ووسائل الإعلام، والأفلام المدبلجة، والمنظمات غير الحكومية، والمجتمع المدني، والمعلوميات... في ظل العولمة الراهنة.ثم كيف يمكن جعل العربية لغة تواصل ولغة تعبير عن الفكر في إطار المجالات التي لم تخترقها بعد في الألفية الثالثة هذه؟ وماذا عن إمكانية جعلها لغة التعايش والشراكة في المحيط المحلي المغربي, والجهوي [المغرب العربي ] والثقافي العربي والإسلامي. المطبوع بالتعدد اللساني، خاصة وأنها لغة متعالية عن أي انتماء اثنو-ثقافي معين. إن فعل إعادة تنشيط اللغة العربية وتمكينها وتطبيعها مشروع غير منته، بل متواصل ومستمر مع أجيال العصر الراهن والمستقبل، ضمن إيكولوجية لغوية تدرس التفاعلات بين اللغة والبيئة أو المحيط، ومحيط اللغة العربية هو المجتمع الذي يستعملها باعتبارها شفرة من شفراته، ووسيلة تواصلية، وأداة للتعبير عن فكره./. * باحث في اللسانيات، الدارالبيضاء.