لعل حكومة بنكيران ، و هي توهم الشعب المغربي، مباشرة بعد تنصيبها ، بأنها تنطلق في عملها من الصفر ، كانت تدرك منذ البدء بأن حصيلة خمس سنوات من ولايتها ستكون موشومة بفراغ الحصيلة و سوء التعاطي الواقعي مع إشكالات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية ببلادنا . إذ بالرجوع إلى مختلف الفقاعات الإعلامية المرتبطة بتصريحات عدد من الوزراء المنتمين خصوصا لحزب العدالة و التنمية ، سواء في شقها المرتبط بالحديث عن محاربة الفساد ، أو جانبها الأسود المتمثل في التشهير بالعديد من المواطنات و المواطنين ممن كانت تحوم حولهم شبهة اقترافهم لأفعال مخالفة للقانون من موقع المسؤولية الادارية التي كانوا يتحملونها ، يقف المرء عند ما يمكن تسميته بالأنا الحزبية في تمثل المسؤولية لدى أعضاء حكومة بنكيران ، و احتراف هؤلاء ، من باب البحث عن الغنيمة الانتخابية ، دغدغة مشاعر المواطنات و المواطنين بعيدا عن أي تصور إستراتيجي يروم إنزال وعودهم و برنامجهم الحكومي على أرض الواقع ... من هذا المنطلق ، لا شك يتذكر القارئ الكريم حجم النوايا المعبر عنها من قبل هذه الحكومة بخصوص محاربة الفساد ، و زوبعة الحديث عن مأذونيات و رخص النقل و المقالع و مختلف أوجه اقتصاد الريع ، مثلما لا شك يتذكر كل واحد منا كيف وظفت العديد من الملفات بشكل انتهازي صارخ من قبل مريدي حزب العدالة و التنمية للنيل من خصومهم و التشهير بهم في تجاوز ملتبس للمبدأ القانوني المتمثل في البراءة كأصل .. سيكون من اللازم إذن أن نطرح سؤالا في علاقة بما سبق ذكره : ما الذي تحقق فعليا و عمليا خارج دائرة الصراخ و الوعيد و التباكي و التشهير المتسمة بها حكومة التراجعات هذه ؟ على سبيل المقارنة ، و بالعودة إلى حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمن اليوسفي ، و حصيلة ما أنجزته على مستويات متعددة ، سيقف المرء عند ملاحظات جوهرية لصيقة بكافة الاصلاحات البنيوية التي اعتمدتها الأخيرة من أجل الخروج بالبلاد من وضع السكتة القلبية بوضع قاطرة التنمية الاقتصادية و الاجتماعية على سكة الإصلاح ، و تجاوز أخطاء الماضي على كافة المستويات ، و بالاخص منها السياسية و الحقوقية ، عبر سن مجموعة من القوانين و تعديل اخرى من خلال رؤية بعدية تتجاوز حسابات المصلحة الحزبية الضيقة .. لقد كان العمل عنوان مرحلة بأكملها رغم العديد من العراقيل و الطعنات ، بحيث انكبت الحكومة حينها على سن و وضع مجموعة كبيرة من القوانين الداعمة لإرادة الاصلاح بعيدا عن منطق تصفية الخصوم أو الانتقام ممن تسببوا بشكل أو بآخر في الوضعية الاقتصادية و الاجتماعية الكارثية التي كانت عليها البلاد حينها . إذ في مجال حقوق الانسان تم تنصيب الهيئة المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري و الاعتقال التعسفي بما واكبها من عمل على مستوى تسوية الوضعية الادارية و المالية للمطرودين و الموقوفين لأسباب سياسية و نقابية من موظفي الدولة او المؤسسات العمومية ، و سهرت الحكومة حينها على توسيع فضاء الحريات العامة بما واكب ذلك من تعديلات هامة طبعت العديد من النصوص القانونية المتعلقة بالصحافة و الجمعيات و غيرها ، و عملت في صمت على إنقاذ العديد من المؤسسات المالية الاستراتيجية التي طالها الافلاس أو كانت على وشك السقوط فيه كالقرض الفلاحي ، و القرض العقاري والسياحي والبنك الشعبي المركزي والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي و غيرها ، و اعتمدت لجان تقصي الحقائق من أجل إحاطة قانونية عقلانية بوضع بعض المؤسسات دون أي تشهير بمن تحوم حولهم شبهة الفساد أو الحكم مسبقا عليهم ، و نجحت في التعاطي بحكمة مع ظرفية اقتصادية صعبة متسمة بالجفاف و الارتفاع الكبير لأسعار النفط ، و خففت بشكل كبير من ثقل المديونية الخارجية و غير ذلك من الاصلاحات الاقتصادية و الاجتماعية البنيوية التي لا يتسع المجال لذكرها ، بقدر ما يتسع لوضع اليد على مفتاح عمل حكومة التناوب الغائب في تجربة بنكيران و المتمثل في التشريعات و النصوص القانونية المؤسسة و المواكبة للإصلاح . إذ بقدر ما راهنت حكومة المجاهد عبد الرحمان اليوسفي على النص القانوني في تثبيت إرادة الاصلاح و التغيير ، بقدر ما يلاحظ المرء كيف ان حكومة بنكيران عانت و تعاني من عقدة النص القانوني ، فيما يشبه نوعا من الاشتغال الظرفي المؤقت الذي لا شك ستكشف الايام خباياه المستترة وراء خطابات التشهير و التباكي المميزتين لمرحلة بأكملها .. لقد تعاطت حكومة بنكيران ، للأسف الشديدة ، بحساسية كبيرة مع أي مقترح قانون يروم ملامسة و إصلاح جوانب اقتصادية ، اجتماعية أو سياسية ببلادنا ، خاصة إذا كان قادما من اجتهاد و عمل المعارضة الاتحادية ، بل و عملت في مرات متكررة على ترك العديد من النصوص في ثلاجة الانتظار بقصد العودة إليها بعد مدة و تعديل جزء من مضمونها بنية نسبتها لحصيلتها كحكومة ، او كحزب محكوم بمنطق الأنا إذا صح التعبير ، فيما يشبه ، حد التطابق نوعا من السرقة الموصوفة . بحيث بالإضافة إلى عجزها عن مواكبة زوابعها الكلامية عن محاربة الفساد و إصلاح حال البلاد و العباد بنصوص و تشريعات قانونية ، عملت على تعطيل عمل و اجتهاد المعارضة ، و بالاخص الاتحادية منها ، لكي لا يحسب للأخيرة كحصيلة تؤكد حجم الوفاء بالالتزام بالوعود و القيام بالواجب كما تقتضي مصلحة البلاد ذلك .. لقد عاش المغرب سنواته الخمس الأخيرة تحت وطأة حكومة تعاني عقدة النص القانوني ، و لا شك ستكون لذلك آثار سلبية عميقة على مسارات الاصلاح و التنمية ببلادنا ، خاصة في ظل ما صاحب ذلك من العمل بمنطق الامتار الاخيرة حيث سارعت الحكومة إلى سن مجموعة من القوانين بشكل ارتجالي و في وقت قياسي لحفظ ماء الوجه ، بالرغم من خطورة ذلك ، و بالرغم من ان الامر كان يتعلق في مناسبات متكررة بنصوص تنظيمية متعلقة بدستور 2011 الذي إلى يومنا هذا لا تزال حكومة بنكيران تعيش زمنا سابقا له بعقود .. هو أمر سنعود ليه في مقال لاحق إن شاء الله بالتفصيل .