في كل الأحوال إن تقديم كتاب « التشكيل وخطاباته « لعزيز أزغاي أكاديميا يتطلب خطة ممنهجة تعتمد الوصف وتفصيل الكتاب إلى أبوابه أو فصوله أو وحداته والبحث عن انسجام مكوناته وربط مداخله بخلاصاته .. والانتباه إلى ملاحقه وصوره وإلى بيبيليوغرافيته و غناها من عدمه ثم التعليق عليه أو نقده و فحصه و التنبيه إلى مضّان التباسه أو ضعفه أو ثغراته. لكن بهذا الصنيع سنعيد مناقشته كأطروحة جامعية وهذا ما تم انجازه بنجاح مائز في جامعة محمد الخامس بالرباط. لذا أجدني ملزما بالبحث عن قراءة أخرى.. عن عناية متميزة بالكتاب لسببين: الأول هو شغفي بالنقد الجمالي (شعرا و تشكيلا) والثاني هو أن صاحب الكتاب شاعر وفنان تشكيلي و مؤرخ. بهذه الصفة الأخيرة أطر موضوعه ورسم حدوده. كما يظهر ذلك من المدخل العام و الفصل الأول. وستبقى هذه الصفة التأريخية لازمة له طيلة الكتاب برمته. من التأريخ للمغرب إلى التأريخ للفن والتشكيل بالمغرب إلى التأريخ للخطابات حول التشكيل إلى النقد كخطاب جمالي والدليل على قولنا في هذا الزعم الأخير العنوان الهامشي أو الأصح الثاني للكتاب « تطور الخطاب النقدي حول الفن التشكيلي بالمغرب « بمعنى التأريخ الذي يقصد هدفا ما.. من الإشكالات الكبرى لمفهوم التأريخ للفن المغربي عامة إشكالية « الفن إبداع أم بدعة ؟ « بلغة القفهاء « هل الفن حلال أم حرام ؟» إذا بادرنا إلى التفاعل مع هذه الإشكالية نقول إنها باتت عمليا متجاوزة في الفن بحكم وجود المعاهد والمدارس الفنية والمراسم والمعارض. لكننا لم نقطع دابر هذا الحكم اللاهوتي على الظاهرة الفنية وغيرها من الجذر. لذا بقينا في وضع ملتبس : هناك ممارسة فنية مسموح بها لكن هناك الحكم الجاهز المناهض والمتربص. مثلما هو الأمر في العديد من الأمور كإشكالية الربا ومعاقرة الخمر.. ودوما في إطار التأريخ و التطور لا يمكن الحديث عن الفن التشكيلي ( و فنون أخرى ) دون الوقوف عند الاستعمار. مع الفنانين الغربيين من أمثال دي لا كروى وماتيس كان الفن الحديث بالمغرب . ولإن بدأ الفن المغربي ساذجا ( محمد علي الرباطي / مولاي أحمد الادريسي / محمد بن علال ..) واهتم بالتيمات المغربية التقليدية (المساجد والصومعات والأسواق .. ) فإن الأدوات المستعملة فيه كانت حديثة: القماش، الأصباغ والسند.. فيما بعد وفي إطار آخر.. ستتم العودة إلى مواد وأصباغ مغربية كالحناء والرمل والتوابل والجلد.. فما عيب هذه البداية ؟ عيب السذاجة فيما يبدو وبالتالي الفولكلورية والغرائبية في الفن التشكيلي المغربي هو خلوه من المعنى ومن الدلالة، يرسم الفنان الساذج لانبهاره من انعكاسية اللوحة وذهوله من نصاعة الألوان ولا يرى إلا ما تراه عينه.. أما الأجنبي فلا تروقه سوى الغرائبية في حد ذاتها ويسحره النور والضياء لمّا ينعكس في الألوان ولا تهمه الدلالة الفكرية لذا لا ينتسب النقاد الجماليون المغاربة إلى هذا النوع من الفن ولا يعتبرونه رافدا من روافد التأسيس. و لربما في موقفهم بعض من مجانبة الصواب. كما كان دور الاستعمار بارزا في نشأة الفن التشكيلي بالمغرب من خلال المدرستين : مدرسة الفنون الجميلة بتطوان سنة 1945 على يد الفنان الإسباني ماريانو بيرتوتشي مدرسة الفنون الجميلة بالبيضاء سنة 1952. من هذين المدرستين تخرجت جماعة الشمال ( إذا جاز القول) وجماعة 65 بالبيضاء . وبهؤلاء المؤسسين تأسس الفن التشكيلي المغربي . كوكبة من المؤسسين من الأجيال تلو الأجيال دون أن ننسى ثلة من الفنانين العصاميين. بعد مغربة المدرستين ظهرت خميرة حداثية في تدريس الفن وممارسته .. بحيث يمكن التأريخ لهذا الوجه الحداثي مع الثنائي الغرباوي / الشرقاوي ومع فريد بلكاهية (كمربي ومدرس و فنان) وبالتالي مجموعة 65 . إن « الوعي الفني الشقي « الذي سيسبغه عزيز أزغاي على تجربة هؤلاء ( سواء في المجلات المختلفة كمجلة أنفاس أو في المعارض كمعرض مراكش 1969 أو في الكتابات النقدية منها كتابات الخطيبي مثلا .. سيشكل الأساس الحداثي الحقيقي للفن التشكيلي بالمغرب وما الاستشهاد بعبد الله العروي في هذا السياق ( ص 103 / 104 ) إلا دليل قاطع على القطيعة التي أحدثت في الفن بالمغرب .. فالعودة إلى الحناء والجلد والتوابل في تجربة بلكاهية لا علاقة لها بالسذاجة والتقليد ولا علاقة لها بحداثة الغرب .. إنها معالم الطريق الثالث والشخصية الثالثة التي نادى بها العروي . ألا يجوز القول أن الوجه الأمثل الذي ارتبطت نشأته في الثقافة المغربية بالحداثة هو الفن التشكيلي بالمغرب ؟ لهذا السبب لا يمكن للخطابات النظرية والتأملية تقريضية كانت أم نقدية أن تكون مطابقة وطلائعية إذا لم تدرك هذه اللحظة المفصلية وأهميتها . سيستمر الباحث عزيز أزغاي في التأريخ للخطاب النقدي حول الفن من الارهاصات إلى استقامة العود والمتن إلى التفرعات والروافد. طبيعي أن يكون هذا الجزء هو الأكبر في هذا الكتاب من ص 105 إلى ص 300 إذا لم نحتسب ملحق الصور والنصوص رغم أنه جزء من المتن. وهذا اختيار منهجي لأجل توازن الكتاب وانسجامه مع موضوعه وتركيزه. وفيه تصنيف للقراءات النقدية وتبويبها وتفصيل الحديث فيها تحليلا وشرحا وتلخيصا وتعليقا ونقدا .. ليس المجال هنا مجال مناقشتها ولا تقويمها إنما المجال هنا هو الإشادة بها وبمن وفرها ذاكرة منظمة ميسرة بمراجعها ودعائمها للخطاب النقدي التشكيلي بالمغرب. إن كانت هناك من ميزة هنا للبحث الأكاديمي فهي ميزة إجبار الباحث على القيام بعمل مضني لكنه فعال في المستقبل يوفر مراجع الخطاب النقدي الفني ويبوبها ويصنفها ويقدمها للقارئ والباحث. لكن لا مناص في الأخير من الإشارة الخفيفة إلى كون الخطاب النقدي التشكيلي خطاب دينامي متحرك دون كلل .. وهذا شأن في حقيقة الأمر لم يغب عن فطنة وبديهة عزيز أزغاي لذا يمكن اعتبار هذا الكتاب كتابا مفتوحا وسيظل كذلك بالنظر إلى ما تم إغفاله في زحمة البحث وضغط الوقت من خطابات نقدية فلسفية أساسا وذاتية فنية أيضا كمحمد السرغيني الشاعر وبنيونس عميروش ومحمد الشيكر وغيرهم كثير.