إن الاشتغال حول موضوعة الجسد، كما في الفكر والفلسفة ومختلف مجالات العلوم الإنسانية، عرف اهتماما ملحوظا في مسار الفن المعاصر من خلال تمظهراته المتنوعة، وعبر مختلف الاتجاهات والأساليب المتباينة. وبعد أن بات الفن متمثلا في صيغته التجريدية القائمة على التركيب والتحليل والبناء ومعالجة المفاهيم التشكيلية بتعدد أبعادها الدلالية والجمالية، مقيما بذلك قطيعته القصوى مع الموضوع/ النموذج (Sujet / model)، عرفت ثيمة الجسد استفاقة حادة في التجارب التشكيلية المعاصرة على امتداد أواخر القرن العشرين، بوصف الجسد كيانا رمزيا. ففي مقابل «التمثيل» Représentation المتعلق بمادية الجسد الفيزيقية وأبعاده الحَجْمِية داخل مختلف العلائق والتوازنات الفضائية، تم البحث عن صياغات الاختزالات والتكثيفات الممكنة لتشديد رمزية الجسد، ومعالجة التحولات المحْتَملة لتأكيد تعبيريته، ثم معالجة التوليفات الممكنة لإفراغه من أبعاده المادية والعضوية والجنسية، ومن ثمة تذويبه لكشف صفة الكيمياء فيه. إذا كانت بوادر اعتماد الجسد كموضوع أساس في اللوحة قد بدت في بعض الإنجازات المحدودة في سبعينيات القرن المنصرم، كأعمال الفانة لطيفة التوجاني (الجسد المنطوي على ذاته)، فإن سنوات الثمانينيات والتسعينيات وما بعدهما، ستعرف انبثاق الجسد في لوحات العديد من المصَوِّرين Les pientres المغاربة المعاصرين بشكل ملفت، حيث بقي الجسد المسلوخ وفيا لفضائه وانتمائه عبر التشظي والتشتت إلى أن يتداخل مع الخلفية عند عزيز السيد، وأضحي جسدا هوائيا، مُعَلَّقا، عائما في فضاء اللوحة عند محمد القاسمي، وتفرد بتعبيرية ماسحة عند سعد حساني، وتكرر بقوالب أنثوية عند عبد الغني أوبلحاج (الثمانينيات) كما عند عبد الباسط بندحمان. في حين، يقدم وِضْعته الجانبية Profil لدى بوشتى الحياني، ويُبرز ماديته اللَّحْمِية عند البُحتري، وينمسخ عند صلادي، ويندمج في زوبعة لونية عند خاصيف، فيتكثف وهو يمارس الرقابة والاستفزاز والتحريض بقفزه الزئبقي من مربع إلى آخر عند الأزهر، فيما يكشف قوته العَضَلية بتمظهر فرداني ومثير عند الزكاري وماحي بينْبين، ويتشكل بتمفصلات لحمية لدى مريم لعلج، بينما ينصاع لتعبيرية خطوطه عند محمد الدريسي الذي يرسم صورته المحَطَّمة والمفجوعة (1). من بين هذه التجارب التي تراكم صور إلباس «الجسد العاري»، تنبثق أجسام الزبير الناجب بأشكال مُنْفلِتة، تَسْتَشِفّ حركيتها الهاربة من خلال تَراتُب وتَجاوُر ضربات الفرشاة السريعة التي تبْصِم إيقاع اللمسات التي ما تنفك تمارس فِعل الطَّمْس، وتخلق العلائق التي تُلَحِّم المساحات والأشكال ومختلف العناصر المُتَرَجْرِجة. عبر التسويد والتلطيخ والتغطية الحركية، تستقيم عملية المسْح، فلا يتَبَقّى من الجسد غير خطوط منفلتة، طائشة، تُحيل على بعض ملامِحه، ليغدو في حالة تنكُّر، كما هو الشأن بالنسبة للجسد الكرنفالي الذي يجعل نفسه في حالة «عرض» فيما وراء الجسد، بحيث يعمل داخل العلاقات بعد أن ينتهك حدود الجسد ويخترقها. إن هذا النسق الذي ينحصر في تجاوز الحدود، هو ما يسميه سفيرو سردي Svero Sarduy «فنا متضخم الأعضاء»، لأن فعل «الانمحاء» عبر الاختلاط باللوحة الخلفية هو أسلوب المتنكر، كما يوضح أندريه كلافل، مؤكدا على أن هذا الأسلوب »يعد شكلا من أشكال المحاكاة التي لا تتجلى في المقنع، إذ ما أن تنصاع الذات إلى دوارة الأقنعة، وما أن تعطي لهذه الأخيرة أشكال وألوان الفضاء المحيط، فإن الأمر ينحصر في إزعاج الذات وتذويبها كالفراشة التي تأخذ شكل الورقة التي تحط فوقها، وعليه فإن الجسد الغروتسكي هو أولا جسد محلول يتلاشى في الفضاء «(2). من هذا المنظور، يمكن استعارة الجسد الغروتسكي لتوصيف أجسام الزبير التي لا تفتأ تخضع للذوبان، لتمسي محلولا منسابا يتلاشى مع الخلفية، ويتداخل مع الأشكال التي تؤثث فضاء اللوحة. الجسد، أو شبه الجسد، القريب من صورة الشبح Silhouette، يتبخر، يتأرجح بين الحضور والغياب، يتذبذب إلى أن يتضاعف شكله في لوحة أخرى، يرتسم من جديد في قالب إزدواجية جسدية، ازدواجية تَحْفَظُ نفس مقاييس الأعضاء (الأعضاء السفلى الواضحة المعالم)، ونفس الوضعية بنفس الحجم. لعلها الازدواجية التي تروم ترسيم صفة التوأم، صفة القرين، وتُحيل في الحين ذاته على صفة التكامل بين الذكوري والأنثوي، مادامت الرؤوس والوجوه مطموسة، مُقَنَّعَة بفعل المحْو، مًغَلَّفَة بحُمرة المادة السائلة، باعتبارها المادة التي تترجم طبيعة المحلول الذي يفعل في تحويل الجسد وتذويبه، ليوزع شظاياه بحسبان مؤكد في اتجاه الأسفل، لترسيخ انتمائه وتفاعلاته المثيرة، ويفصح عن سطوته في احتواء الجسد، عبر الرشم الذي يوقعه في مناطق معينة، محددا بذلك نقط التَّمفْصُلات الأساسية التي ينبني عليها قِوام الجسد وهيكله. إن هذا التذبذب، وهذه الحركية الصارخة التي تمتص لحمة الجسد، ولا تُبقى منه غير الآثار التي ترسم الشبح، إنما وصفة تعبيرية عن شخوص مُفْرَغَة من الداخل، مُحَمَّلة بحدة القلق الذي يجعلها مُغرقة في ديمومة حالات الشطح، الشطح المنذور لدَوار مُسترسَل، والموصول بالانفلات الذي يمتد إلى حدود الانمحاء. كيف ترتسم حالة الدَّوار التعبيري هذه؟ بين اللَّمسة التي تسجل أثر المسْح (الغياب)، وبين اللمسة التي تطبع حركية الخط ورقصه (الحضور)، يتمظهر البُعد الحَركي القائم على التلقائية التي تَستَشِفّ مِصْداقيتها من سرعة التنفيذ التطبيقي، وسرعة الإنجاز الذي يعتمد التدخلات الفورية والمتواصلة بحَزْم موثوق. وذلك فضلا عن الاختيار اللوني الذي يمكن أن يخلق الجو المراد بلوغه. ففي الطريقة التي تبناها الفنان لتغليف الجسد وطمسه، تَمَّ خنق عنصر الضوء بشكل مقصود بناء على توظيف الألوان التي تمتص النور: الأحمر، الأزرق، الأسود. وبين التضاد والتكامل الكامِن بين الأحمر والأزرق، يتمثل الجسد في فضاء قاتم، ليزحف الأسود على أطرافه، كأنه يُعيد رسْم إحاطته المضْمَرَة. بينما داخل هذه الأجواء القاتمة تتدخل اللمسات المحَمَّلَة بالضوء الخافت لتُمارِس المحْو، وتثير الشفافية الماسِحَة (الأوكر)، لينْبجِس الأبيض بدرجة محسوبة، وبحركية أوتوماتيكية تعلن عن طاقة التلقائية فيها، فتعكسها على الفور عبر التخطيط التلقائي الموجَّه، لتشديد بعض ملامح الجسد، وزرع الانقشاعات البَرْقِية المعينة عبر حدود جِسمانيته المتَخَفِّية. إن الفنان الزبير الناجب في هذه الأعمال ( قاعة «أرتوتيك» بالدارالبيضاء، ماي 2016 ) كما في السابقة التي تناول فيها «العري» ضمن الذهاب والإياب عبر ثيمة الجسد («انعكاس»، الديباجي- الأزهر- الناجب، باب دكالة، مراكش،1999)، يدعونا لنتقاسم وإياه تلك الفرجة المنفلتة التي تثير العين، وتدفع بنا إلى كشف واستكناه ما وراء الأجسام «الغروتسكية» المتحولة، الآيلة للتمثل والذوبان في آن، داخل الأجواء الكرنفالية، الحيوية، التي لا تفتأ تصنع تداعياتها وأعماقها الخاصة، والمطروزة بالعفوية والحركة والدَّلالات الرمزية، استنادا إلى تصَوُّر يرمي إلى استنباط واستكشاف مختلف التحويرات التشكيلية القابلة للتجريب باستمرار. هوامش في مقابل ذلك، ومع تصاعد الانفتاح، صار بالإمكان رصد الجسد الخالي من كل إلباس، لنشير إلى أعمال هشام بنوحود الذي انتقل من التصوير الصباغي إلى الفوتوغرافيا، باعتماد جسمه العاري كنموذج Model، في هذا الصدد، أنظر: -Mohamed Rachdi, Interférences-Références marocaines de l'art contemporain, Ed Le-RARE, Amiens, 2005, P 41-51 في نفس السياق، على المستوى العربي، أشير إلى السورية نينار إسبر التي تتخذ من جسدها العاري موديلها الأساس باعتماد الفوتوغرافيا، للإطلاع أنظر: -بنيونس عميروش، «التشكيلية نينار إسبر: جسد مطواع لاكتشاف الذات والعالم»، أصدقاء ديونيزوس (مجلة/مطبوعة إلكترونية)، حلقة أصدقاء ديونيزوس الأدبية والفنية، الدارالبيضاء، ع 02، ص 28-30 2- حسن المنيعي، الجسد في المسرح، مطبعة سندي، مكناس، ط1، 1996، ص 33