تحتوي كلمة جلالة الملك محمد السادس في القمة الخليجية المغربية بالرياض أهم المواصفات الخطابية التي ترتقي بها إلى مصاف الخطابات التاريخية المؤسسة، فهو خطاب مطبوع بنفس استراتيجي قوي ومرجعية قيمية ثابتة وأفكار دقيقة لامعة وقصدية واضحة طموحة، وهو فضلا عن ذلك خطاب يجمع ضمن رؤية نسقية متماسكة ما بين أخلاق القناعة وأخلاق المسؤولية كما حددها ماكس فيبر وفصل بين حدودها. سأنطلق من الفرضية التي تعتبر أن الخطاب السياسي لا معنى له خارج الفعل، وأن ممارسة القوة بالنسبة للذات السياسية لا تتم إلا في نطاق هذا الفعل، وذلك في أفق ضبط العلاقة الثلاثية ما بين الخطاب) الملكي( والفعل والقوة، وذلك على اعتبار أن كل خطاب لابد وأن يندرج ضمن إطار عملياتي تتحدد فيه الهويات والأهداف والأدوار المفترضة للشركاء المعنيين بالتواصل الخطابي، إنه بالضبط الإطار الوضعياتي situationnel و التواصلي الذي يشمل عددا من الاكراهات المحددة للسلوك الخطابي والمفسرة لدلالاته سيكون إذن من المفيد لفهم الدلالات الفجائية والقوية لخطاب الملك محمد السادس في افتتاح القمة المغربية الخليجية وضع هذا الخطاب في سياق عملياتي actionnel يتمثل في الصعود المتنامي للمملكة المغربية كقوة إقليمية وازنة ، فهو ثاني خطاب ملكي يشكل مؤشرا قويا على هذا الصعود، ويبرز الرؤية الاستراتيجية للمغرب وتموقعة في الساحة الإقليمية والدولية، الخطاب الأول وجهه الملك محمد السادس إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 شتنبر 2014،وفاجأ المراقبين عندما اعتبر أن الغرب وسياسته تجاه البلدان النامية، خاصة دول القارة الإفريقية "لا يعرف سوى إعطاء الدروس"، وأنه يُكثر من الوعود الكاذبة، وفي أحسن الأحوال يقدم بعض النصائح، لكن دون أفعال حقيقية على أرض الواقع. ولم يتردد الملك محمد السادس في اتهام الاستعمار الغربي بكونه خلف "أضرارا كبيرة للدول التي كانت تخضع لحكمه"، مشددا على أنه "ليس من حق الغرب أن يطالب بلدان الجنوب بتغيير جذري وسريع، وفق منظومة غريبة عن ثقافتها ومبادئها ومقوماتها". خطاب بهذه المفردات والقصديات القاطعة مع لغة الخشب وبلاغة الدبلوماسية المائعة، لا يمكن أن يصدر إلا عن ذات سياسية تعي قوتها الناشئة وتتحمل مسؤولية فعلها، ذات سياسية تنشد القوة وتنخرط في العمل. تنصهر العلاقة الجدلية في المنطوق الملكي هنا ما بين الخطاب والفعل والقوة، لتفرز وضعا زعامتيا مستحقا، أو بالأحرى لتخرج هذا الوضع من سياق الوجود بالقوة إلى سياق الوجود بالفعل، أقصد الزعامة الفعلية المعززة باعتراف دولي واسع يشهد بنجاح المقاربة المغربية في التعامل مع قضايا الديمقراطية والتنمية الداخلية، وتفاعله الإيجابي مع محيطه الجيو استراتيجي الأورو-متوسطي والساحلي جنوب الصحراء والعربي الإسلامي ، وتعاونه الدولي والإقليمي في مجال محاربة الإرهاب والهجرة السرية، وتفعيله الذكي لإرادة الانخراط الإيجابي في الحداثة الكونية . الخطاب الملكي بقصر الدرعية بالرياض لا يمكن فهمه جيدا ومقاربته موضوعيا إلا ضمن الأفق الذي فتحه خطاب الملك في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بنيويورك، أقصد الأفق المنفتح أمام المملكة المغربية كدولة صاعدة وقوة إقليمية ناشئة، إذ ليس من الصدفة أن يلقي ملك المغرب خطابه المزلزل أمام قادة دول مجلس التعاون الخليجي التي تتربع على نحو 30% من الاحتياطي العالمي من النفط الخام، وبعد يومين تعتلي شقيقته الأميرة للا حسناء منصة الأممالمتحدة إلى جانب الأمين العام بان كيمون والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ورئيسة قمة المناخ باريس Cop لكي تلقي كلمة نيابة عن الملك محمد السادس بمناسبة مراسم التوقيع على اتفاقية باريس، إذن هذا المغرب الشريك المحترم، في مواجهة آثار الاحتباس الحراري ومحاربة الإرهاب والتطرف، وإرساء السلام وإشاعة قيم التسامح والتعايش، هو اليوم مغرب يرفع عاليا رايته ويختار سياديا موقعه ويعرض على حلفائه وشركائه دفتر تحملات جيوسياسية بالالتزامات واضحة مضبوطة. ضمن نفس السياق والمقاربة، وبمزيد من الجرأة والوضوح، جاء خطاب الرياض لإضفاء مزيد من الدقة على بنود دفتر التحملات المؤطر للعلاقات الدولية بين المغرب وشركائه المفترضين، وذلك بما يجعله خطابا نقديا واقعيا واستشرافيا بامتياز، خطابا يؤسس لخمس حقائق أساسية كأرضية ضرورية للتفاهم ومدخل الزامي للحوار والتعاون، حقائق تخص مكانة المغرب ومغربية الصحراء ووظيفة الأمين العام للأمم المتحدة وأسطورة الربيع العربي والمخطط التآمري في المنطقة: فالمغرب ليس محمية تابعة لأي بلد، والمقصود هنا فرنسا التي لم تتخلص بعد من عقدة الحماية، لذلك وجب التنبيه إلى أن المملكة المغربية هي في الحقيقة دولة عريقة ذات سيادة وتتمتع بالحرية في قراراتها واختياراتها، وستظل وفية بالتزاماته تجاه شركائها. والصحراء في الحقيقة هي قضية كل المغاربة، وليست قضية القصر الملكي وحده، بمعنى أن الذين يستهدفون المؤسسة الملكية من بوابة الصحراء المغربية لن يحصدوا إلا غضب الشعب المغربي، كما تجسد مؤخرا في مسيرة الرباط، وبالتالي لن يساهموا سوى في إشعال الحرائق بالمنطقة. والأمين العام للأمم المتحدة، ليس في الحقيقة سوى وكيل حرب ورهينة بين الأيدي التي تعبث في المنطقة وتهدد مصالح شعوبها. والربيع العربي لم يكن في واقع الأمر إلا خريفا كارثيا خلف خراباً ودماراً ومآسي إنسانية. أما التحالفات الجديدة في المنطقة، والمقصود هنا الولاياتالمتحدةالأمريكية، فهي في الحقيقة محاولات لإشعال الفتنة، وخلق فوضى جديدة لن تستثني أي بلد، وستكون لها تداعيات خطيرة على المنطقة، بل وعلى الوضع العالمي. هذه هي الحقائق الخمس التي لا يرددها في العادة قادة الدول إلا تلميحا، وأعلنها محمد السادس جهرا وتصريحا، كما يجدر بأي زعيم قومي، بل إنه اختار مكان إعلانها بعناية فائقة بعدما فضل تأجيل القمة العربية التي كان مقررا لها نهاية مارس المنصرم بمراكش، وكأنه اعتذر للقيادة المصرية الخالدة على رأس جامعة الدول العربية الفاشلة، عن المشاركة في اجتماع للتفرج على مآسي العرب وثرثرة قادتهم، أما اتحاد المغرب العربي المحتضر، فإن مجلسه الرئاسي لم يجتمع منذ اثنتين وعشرين سنة، ليبقى مجلس التعاون الخليجي، والحالة هذه، هو الإطار التنسيقي الوحيد الذي يجتمع بانتظام ويتخذ قرارات نافذة. الرسالة النقدية في الخطاب الملكي، هي رسالة نقد مزدوج تجاه الذات وتجاه الآخر. فهو ينتقد نفاق الغرب وازدواجيته الطاعنة من الخلف، وينتقد اختلالات الأممالمتحدة وتسلط موظفيها وانحيازهم، ولكنه في الآن نفسه ينتقد منظومة الجامعة العربية الغارقة في الخطابات والقمم الدورية الشكلية القرارات الجاهزة غير القابلة للتطبيق، ويدعو إلى العمل الجاد، والتعاون الملموس، وتعزيز التجارب الناجحة، والاستفادة منها، وفي مقدمتها التجربة الرائدة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي. لقد كان الخطاب الملكي حاسما في أمرين: الأمر الأول هو أن يوجه تحذيرا صارما لمن تسول لهم أنفسهم إخراج مسرحية جديدة باسم الموجة الثانية للربيع العربي، من أجل استكمال مخططهم في تفتيت الدول العربية إلى كيانات انفصالية و تمزيق مجتمعاتها إلى تشكُّلات بدائية عشائرية وطائفية، أما الأمر الثاني فتمثل في إعادة موضعة قضية الصحراء المغربية بشكل غير مسبوق في أي تجمع عربي رسمي ، بحيث كانت نقطة محورية على جدول أعمال القمة وتكررت في خطابات القادة، وفي البيان الختامي للقمة. واذا استحضرنا أن جامعة الدول العربية فشلت فشلا ذريعا في بلورة مقاربة توافقية بخصوص الصحراء المغربية، وبالتالي في إيجاد آلية فعالة لتسوية هذا النزاع المفتعل، وإذا استحضرنا أن نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، كان الوحيد الذي يقف إلى جانب المغرب في قضية وحدته الترابية دون مواربة أو حرج منذ اليوم الأول لاندلاع النزاع، فإننا نعتبر تأكيد الدعم الخليجي الصريح لمغربية الصحراء بكيفية قوية غير مسبوقة ، هو اختراق عربي وحاسم لصالح الموقف المغربي وانحياز إرادي لتكتل استراتيجي تضامني سيبعثر بالتأكيد الكثير من الأوراق والحسابات.