تعدّ القاصة فاطمة الزهراء الرغيوي (المولودة عام 1974) من المبدعات الشابات، اللاتي انضمت إلى المشهد القصصي في المغرب في العقد الأخير، إثر صدور مجموعتها الأولى «جلباب للجميع» سنة 2008. أما المجموعة القصصية الثانية «خمس رقصات في اليوم» فقد صدرت سنة 2011 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، وتقع في 98 صفحة من الحجم المتوسط، وتضم أربعة عشر نصا. نلاحظ أن القاصة ف. ز. الرغيوي كانت تعمل على اقتناص موضوعات قصصها من بعض اللحظات والمواقف والتجارب التي تعيشها بعض النماذج البشرية، وتسعى إلى معالجتها بمجهر بُؤْريّ مثل: الأحلام- الألم- الخوف- الموت- السفر- الرغبة – الجسد- الحب – الأنوثة، وهي قاصة تجيد جماليات الحفر في مثل هذه الثيمات ذات الارتباط الحميم بالواقع والمجتمع والحياة وتتفاعل معها بجرأة خاصة ومتفردة. ويمثّل الجسد داخل المجموعة القصصية الصورة السردية المحفّزة بالموازنة مع العناصر الأخرى، بل أن امتداده يتسع ليشمل بقية المكونات السردية، بحيث يصبح العمل الإبداعي برمته نصا معبرا، وتصبح صورة الجسد هي صورة النص نفسِه، ولا يمكن تناول الجسد في سكونيته وفي علاقته بذاته، بل في تفاعلاته مع عناصر أخرى مرتبطة به، وتُعدُّ هيئة الجسد وأوضاعُه وحركاتُه وسكناتُه وإيماءاتُه، بل حتى الثيابُ التي تكسوه علامات دالة عليه. ومثلُ كافة العلامات لا يدركُ الجسدُ إلا من خلال وظائفه واستعمالاته، إذ كلُّ استعمال يحيلنا إلى نسق، وكلُّ نسق يحيلنا بدوره إلى الدلالة الكائنة في الذات وفي الجسد والأشياء. ولا يمكن إدراكُ هذه الدلالات إلا عند تحديد السياق النصي الذي تتردد داخله. ومن هنا يصبح الجسد مظهرا لكل محاولة تسعى إلى فهم الوضع الإنساني في أبعاده الحقيقية ومراميه القصيّة، وهو الأمرُ الذي يجعله أصلا ومصدرا لكل معنى ودلالة. إن هيئة الجسد قد تعتبر تجليا لتصورات المجتمع وتمثلاته، وتأسيسا على ذلك يغدو الجسد معطى ثقافيا يحمل عدة دلالات: دلالة لكونه موضوعاً، أو شكلا، أو رمزا تستعمله الجماعة للتعبير عن رغباتها وأحلامها. والجسد في التصور الإنساني ليس جسدا واحدا، بل هو جسد متعدد، بحيث إن تمثيله يتفاوت في مجال الفن والأدب بين مبدع وآخر. وقد اتضح أن ثمة منظورين مختلفين تجاه جسد الإنسان: منظور يحتقر الجسد وينتقص من قيمته، ومنظور يمجده ويتباهى به ويعلي من قيمته، والمبدع يستطيع أن يختار تصورا محددا للجسد. وفي هذا السياق نستحضر الدراسة التي أنجزتها الباحثة سعاد الناصر عن «السرد النسائي العربي بين قلق السؤال وغواية الحكي»، حيث تطرقت إلى هذا الجانب عند حديثها عن التشاكل الأنثوي في السرد النسائي. أما بالنسبة للتجربة الإبداعية عند القاصة ف.ز الرغيوي، فنرى أن ثمة تفاوتا واضحا بين المجموعة الأولى «جلباب للجميع» والمجموعة الثانية قيد التحليل «خمس صلوات في اليوم» من حيث توظيف الجسد، ومن خلال عتبة العنوان يلحظ القارئ مدى احتفاء القاصة بالجسد، بحيث إنها اختارت لمجموعتها الأولى مؤشرا دالا عليه ألا وهو الجلباب، ليضفي على الجسد حمولة ثقافية واجتماعية خاصة. أما في المجموعة الثانية فقد اختارت أن تقدم لنا عنوانا يحمل صورة أخرى للجسد، بحيث يبدو من خلال رقصاته المتكررة كل يوم في أقصى درجات التوهج والاندفاع والابتهاج والتحرر. بعد هذه العتبات يمكننا أن نتساءل إلى أي حد تمكنت القاصة فاطمة الزهراء الرغيوي من بناء خطاب للجسد في المجموعة القصصية «خمس رقصات في اليوم»، وهل ثمة سمات نوعية مميزة لكتابتها القصصية، ذلك ما سأحاول تعقبه من خلال مجموعة من المقاطع التي سأتناولها بالتحليل. ففي الأقصوصة الأولى المعنونة ب»وقت قاتل» يعمل السارد على تفجير الطاقة الدلالية لحركة الجسد، ليتم تبئير الرؤية على بعض أجزائه، فيحصره في عضو من أعضائه ألا وهو الذراع، التي سيتركها مبسوطة في الهواء طليقة حرة تعبيرا عن الحرية التي يتوق إليها خلف القضبان. وينساب السرد عن طريق سلسلة من الأفعال سيقوم بها هذا العضو بحيث ستعمد الكاتبة إلى منحه تشكيلات آدمية تنبض بالحياة، فيأتي في صورة أنثى، قد تكون صاحبة أو رفيقة تمده بكوب ماء وتناوله صحن حريرة وتداعب شعره وتساعده على قضاء بعض حاجاته. كما أن الكاتبة أضفت على الذراع أيضا حمولة دلالية مكثفة وإشارات رامزة إلى الفعل الجنسي. ويبدو أن الكاتبة أجادت في تشكيل الذراع كرمز للجسد المتشظي تحت سلطة الرغبة المقيدة بالمصادرة والإلغاء، والباحثة عن التوافق والتوازن، من خلال فاعلية التجسيم الاستعاري بحيث عملت على تقديمه في صورة مجنحة وتشخيصه في صورة أنثى، مما تثبت للقارئ جدة التعاطي مع بلاغة الجسد وفرادته. أما أقصوصة «ثلاث نساء» فتتطرق فيها الكاتبة إلى الوجع الذي يتعرض له جسد الأنثى، بسبب الاغتصاب، نستشف ذلك من خلال هذا المقطع الذي تدور أحداثه في فضاء المحكمة، والذي يصور لنا حالة الفتاة شامة التي تعرضت للاغتصاب من طرف مشغلها الحاج مأمون: تقول الساردة: «شعرتْ بالتعب. بطنُها البارزُ من تحت جلبابها بدأ يُثقل حركتَها، أرجعتْ خصلة شعر خلف أذنها، ثم وضعت يدها فوق بطنها تتلمسه بدهشة ثم برعب إذ لمحتْ غيرَ بعيد الحاجَّ مأمون يتقدم بجلبابه الأبيض ورائحة المسك النفاذة. شعرت بالغثيان ككل مرة كان يقترب منها باحثا عن جسدها وبكثير من الألم». (ص:17) غير أن هذا الوجع سوف لن يقتصر فقط على جسد شامة، بل إنه مس أيضا المحامية التي كانت تدافع عن الحاج مأمون، بحيث كانت قد تعرضت هي الأخرى إلى الممارسة نفسها من قِبَل ابن الجيران الذي كان ينفرد بها في السطح. أما الضحية الثالثة فتشير إليها القصة في النهاية، وتتمثل في شخصية القاضية (نورة) التي ستترأس الجلسة، فقد تعرضت هي الثالثة إلى ممارسة جنسية مشينة من طرف زوجها الشاذ مما جعلها تجد صعوبة في الجلوس. إن وجع السرد هو في وجع هذه الأجساد، ولعل قارئ هذه الأقصوصة بالذات لا ينصت فيها إلى صوت الساردة بقدر ما ينصت إلى هذه الأجساد وهي تتألم أو تتكلم. أما أقصوصة «خمس رقصات في اليوم» وهي الأقصوصة الرابعة داخل المجموعة فتعكس الصراع المتأجج داخل ذات البطلة بين انهزام جسدها وانتصاره، ولذلك نجدها تتحسسه بين الفينة والأخرى، بعد أن شعرت بفقدان نضارته، ونعومته وخفته وبزحف التجاعيد عليه وتهديد الشيخوخة إياه. ونلاحظ في القصة تجاذبا بين الذات والجسد، هذا التجاذب هو الذي يغذي الحركة السردية ويدفعها، ويمثّل هذا التجاذب المحور الذي يجمع بين مفاصل الأقصوصة من بدايتها إلى نهايتها. كما يثبت هذا المقطع حقيقة الذات وكينونتها، إنها كينونة الجسد التي تفتتن المرأة بالتأمل في وجوده وتختفي داخل عالمه، وهذا العالم الأنثوي قابل للتحرك برقصاتها وحيويتها إذا ظل الجسد منتصرا، غير منهزم. أما المتأمل في أقصوصة «البهلوان يحلم بعيدا» فيلحظ أن دينامية الأحداث تنمو في إطار حركة «الجسد» الذي أمسى عند الكاتبة بؤرة لتوليد محكياتها السردية، فالجسد هو الباعث على فعل التداعي والحلم، والمؤشّر على كل التحولات الطارئة. وهذا يبين لنا مدى قدرة الكاتبة على استثمار هذا المكوّن بأشكاله المختلفة، وتوظفيه باعتباره طاقة أكثر ترميزا، ودلالة داخل كتابتها القصصية. فلننظر كيف يتحول الحبل المعلق في الفضاء وينزاح عن معناه المباشر؛ لينفتح على دلالات أخرى جديدة تدل جميعُ مؤشراتها على الجسد، جسد أنثوي يراقصه البهلوان ويضمه إليه. كما اعتمدت الكاتبة في هذه القصة على أحد أجزاء الجسد ألا وهو العين، فبالعين نُبصِر وننظر ونرنو ونتفحص، وفي العين يتناسل كل مرئي: الأحلام والأشياء والألوان والرموز وغير ذلك، ومن خلالها تنعكس الذاتُ الخفية للجسد وتنكشف أسرارُها. بعبارة شديدة الاختزال يمكن القول إن كل شيء يُقرأ في العين، وأن الجسدَ كلَّه يتجلى في العين، وبذلك تكون لغة الجسد الأولى هي العين. بعد هذا القراءة السريعة نخلص إلى أن القاصة وظفت الجسد في مجموعتها القصصية بمصدريه الأنثوي والذكوري، والجسد المستخدم في المحكي ليس جسدا واقعيا، بل هو تمثيل رمزي له عبر اللغة، وقد بدت لنا القاصة تحسن التعامل مع اللغة التي اختارتها، بوصفها مجازاً محبوكاً، وهو يشتغل على النص الأنثى، والجسد الأنثوي. وتأسيسا على ذلك، تبدو هذه القصص إنصاتاً لهذا الجسد، في أوضاعه المختلفة، لأن الكاتبة حينما تكتب هذا النص فإنها تحاول إثبات أنماط حضور الجسد المغيب: الجسد البيولوجي وجسد الكتابة وجسد اللغة.