ربما لو فرض علينا هذا الموضوع أهميته وجدواه في بداية التسعينيات من القرن الماضي لوجدنا التبرير المقنع في بداية إدماج مادة التربية الموسيقية في المنهاج الدراسي المغربي الذي شكل حدثا تربويا فعليا عزز مسار التحديث التربوي في حياتنا المدرسية. لو طرح هذا الموضوع مند قرابة ثلاثين سنة أو ما يزيد التي تؤرخ لحضور التربية التشكيلية والفنون التطبيقية والرسم والأعمال اليدوية في مدارسنا الابتدائية والثانوية الإعدادية والتأهيلية لبدا حينها عاديا ومرتبطا بسياق بكامله عرف أشكالا مختلفة من محاولات التأسيس والتحديث والبحث عن الذات وإمكانيات الخروج من قوقعة التخلف تربويا وثقافيا. ولو كان موضوع اليوم الدراسي هو ضرورة تطوير تدريس المواد الفنية والارتقاء بمكانتها وإصلاح مناهجها الدراسية، مثلا، لكان الأمر عاديا ومنسجما مع تاريخ حضور هذه المواد في المنظومة التربوية. لكن أن نناقش اليوم موضوع أهمية تدريس المواد الفنية في مدارسنا ونحن في العشرية الثانية من القرن 21 هذا أمر يحمل تشكيكا في خياراتنا السابقة وكأنه يدفعنا للتساؤل عن جدوى هذا التدريس وحضور التشكيل والموسيقى والشعر والمسرح ولو بأشكالها الباهتة في فضاء حياتنا المدرسية والثانوية. ويبقى السؤال المهم الذي يفرض نفسه في سياق هذا التوضيح هو من له المصلحة، أقصد السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو حتى الإيديولوجية، في جعلنا نطرح السؤال ونحاول جاهدين تقديم الإجابات . من خلال متابعتي وبحثي اكتشفت بأن هذا النقاش لا يهم المغرب لوحده، بل يتم حاليا في عدة دول سبق أن نالت فيها المواد الفنية مكانة مهمة في المنظومات التربوية، كلبنان وتونس وخاصة فرنسا التي تحظى فيها التربية الفنية بمختلف مجالاتها بدور أساس في نظامها التعليمي العمومي الذي راكم تقاليد سياسية وتدبيرية وسوسيولوجية ونقدية تحرص على دمقرطته كمؤسسة كبيرة للتنشئة الاجتماعية وتكافؤ الفرص في التربية والتكوين والتثقيف. وقد أثارني ما يقوله فليب ميريوPhilippe Merieu «العديد من التخوفات لا تزال قائمة، ولعل أهمها تحيلنا على تلك المشاريع القديمة التي لا تزال راقدة في علب بعض الإيديولوجيين والتي يمكنها أن تطفو عند أدنى مناسبة، ويتعلق الأمر بالزج المنهجي بالتربية الفنية والثقافية خارج الفصول الدراسية بدعوى أنها ترتبط بالمجال الخاص وباختيارات الأسر، والاعتقاد بأن مهمة المدرسين يجب أن تحدد في «تعليم القراءة والكتابة والحساب». أعتقد أن الأمر يتعلق بخطأ جسيم، فمن جهة عملية الكتابة والقراءة والحساب لا تستمد معناها إلا من خلال اندماجها في إطار مشروع تربوي يتفاعل باستمرار مع كل ما يمكن المتعلم من ولوج وإدراك المعنى ومتعة المعرفة، ولمتعة الفكر وسعادة القدرة المشاركة بفضل الفن والثقافة في الشرط الإنساني. فالمدرس الذي سيتفرغ لمجرد تعليم القراءة والكتابة والحساب، يضطر باستمرار إلى تبرير جدوى ما يدرسه، ومن منظور جد تقنوقراطي وأداتي لمهنته. إضافة إلى ذلك فكل تصور من هذا النوع يشكل نكوصا كبيرا في موضوع «الحق في التربية» لأنه يربط حظوظ لقاء وتلقي الفن والثقافة بالفوارق الاجتماعية. نعلم مند مدة طويلة خاصة مع كتابات بيير بورديو بأن الطلب على الفن والثقافة ليس أمرا بديهيا بل سلوك وتربية يتم بناؤهما. فإذا كنا نرغب فعلا في دمقرطة الفن والثقافة، لا يكفي تطوير العرض، -كبناء المتاحف والمسارح وتنظيم المهرجانات...-، بل يجب بناء الطلب على الفن والثقافة، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال المؤسسة الوحيدة التي يلجها الجميع ذكورا وإناثا، وهي المدرسة.- لماذا التربية الفنية والتربية على الفن، إذن؟ ثلاثة أسباب كبرى تكفي للإجابة عن هذا السؤال الذي صار لازمة لكل إصلاح وتطور فعلي في مشروعنا التربوي: الجواب الأول يحيل على موضوع التربية الوجدانية وصقل الخيال، فالوجدان والخيال هما مثل الطبيعة لا يقبلان الفراغ. فالخيال إما أن يكون مفعما بالجمال والنور والألق والحياة...إما أن يكتسحه التردد والقبح والظلام والموت.والخيال إما أن يصقل ويغذى فينفتح ويتفتق ويوظف في الابتكار والتجديد والتطور، أو يترك فيجتاحه الانغلاق والتنميط وتملأه مختلف الصور والرموز والنماذج التنميطية التي يعج بها عالم اليوم الواقعي والافتراضي. إن تدريس الفنون والتربية الفنية، بما في ذلك التشكيل والموسيقى والمسرح والشعر والصورة والسينما...، وتربية وصقل الخيال وتغذيته هي شرط أساسي للإبداع الإنساني وللانفتاح والابتكار وإدراك الأشياء والعالم في أبعاده وممكناته المختلفة. وصقل الخيال الذي يتأتى عبر تدريس الفنون وتعرف ولقاء الأعمال والآثار الفنية وإبداعات المجتمعات والأفراد والمدارس والأساليب والحساسيات المختلفة التي غدت تاريخ الثقافات والفنون البشرية، هو شرط لتكوين المتعلمين من أطفال ومراهقين وشباب على الإبداع وتهذيبهم وتنمية ذوقهم ودفعهم لتجاوز المألوف والجاهز والقوالب النمطية وابتكار حلول وأشكال ومسوغات وصور وأجوبة جديدة في مختلف مناحي حياتهم. فإنسان بدون خيال وقدرة على توظيف ملكاته لن يعدو فردا نمطيا يستهلك ويكرر ويحاكي ويخضع ويقبل ويستسلم ويذوب في الجاهز والمألوف والقائم والموروث والموجود لديه وأمامه والمفروض عليه. احذروا ميكانيكية العقل الأداتي في التربية والتكوين، وفي التخطيط والتدبير، وفي السياسة والإدارة والهندسة وما شئتم من مجالات الحياة والمعرفة والمجتمع والدولة. فمهندس بدون خيال ووجدان مفعمين، لن يكون قادرا على الإبداع في مجاله، سيكتفي بالجاهز والمنقول والمدرك في حدود معرفته وتجربته المحدودة، بل أنه سيكون فريسة سهلة للخطابات والصور والتمثلات الاجتماعية والثقافية المنغلقة والتنميطية بل والمظلمة. والمربي والمكون الذي يفتقر إلى الخيال والحس الوجداني لن يدرك حقيقة وأبعاد مهمته المعقدة، لن يسائل نفسه ومحيطه وبرامجه وأدواته ومعرفته وسيظل بدوره رهين تصورات وممارسة جاهزة. احذروا السياسي الذي يفتقر إلى الخيال والوجدان المفعمين بالحياة وقيم النسبية والممكن البشري والابتكار والخلق والتجاوز، ففقر الخيال والوجدان إذا امتزج وحظي بالسلطة يتحول إلى تسلط واستبداد وقسوة وجهل أعمى. الجواب الثاني يهم قضية المدرسة والاختيار بين المشروع التربوي الديمقراطي الذي يستهدف جميع المغاربة، وبين مدرسة تجزيئية بخيارات تربوية معزولة ومتنافرة، أي بين مدرسة للمجتمع أو كيتوهات معزولة ومتنافرة. فالتربية الفنية على مستوى التكوين التربوي الأساس على الأقل هي حق للجميع وعرض تربوي ينبغي أن يمتد للجميع، وإلا أصبحت مدرستنا سواء الابتدائية والثانوية مؤسسة لإعادة إنتاج الكيتوهات المحكومة بالإيديولوجيات: التقليد والتحديث، الجمال والقبح، الحياة والموت، الخيال والإبداع أو التقليد والتنميط. فتدريس الفنون وتحقيق تكافؤ الفرص في الولوج إلى التربية والثقافة، وأداء المدرسة لدورها ووظيفتها الاجتماعية والمؤسساتية في التنشئة والتعليم والتثقيف، يتطلب أن يتم هذا التدريس من خلال منهاج دراسي ممتد، وليس من خلال أنشطة موازية أو نوادي ومراكز استتتنائية ومحدودة أو معزولة. فالنوادي والمراكز والأنشطة تأتي بشكل مواز لإتمام المنهاج الدراسي وتطوير العرض التربوي وتعميقه وإتاحة فرص إضافية للتلاميذ ذوي الميولات والرغبات والكفاءات الفنية، وليس بأن تحل محل المنهاج الدراسي وتضييق حيز الولوج التربوي وخلق كتوهات معزولة داخل المؤسسات والجماعات والأقاليم والجهات. كما أن تكوين المواطن هو شرط للتربية على المواطنة، فلا يمكن الحديث عن مواطنة حقيقية إذا كانت جل مؤسسات التنشئة وعلى رأسها مؤسسات التربية والتكوين تنتج وتكرس لانقسامية المجتمع حول نفسه وانشطاره إلى كتوهات ومعتركات اجتماعية وثقافية وقيمية غير متجانسة بل متضادة ومتصارعة يقوض بعضها البعض. الجواب الثالث يرتبط بموضوع التنمية والتطور الصناعي والتكنولوجي. فإضافة إلى التربية على الفن أقصد التربية على الخيال والحس والإدراك، فالفنون التشكيلية والتطبيقية والموسيقية والمسرحية صارت أساس عدة مجالات صناعية وإنتاجية وتكنولوجية خلال السنوات الأخيرة. فالحاجة المتزايدة إلى التقنيين والمهندسين والمصممين والمخرجين...في عدة مجالات صناعية كالإشهار و(الديزاين) والتواصل والديكور والسينوغرافيا والسينما والفوتوغرافيا والطباعة والتلفزة والويب...تتطلب الرفع من مستوى وجودة التدريس الفني بالمدرسة المغربية، بل وإحداث معاهد عليا ومسالك وماسترات جامعية ومدارس للفنون الجميلة...للإعداد في هذه المجالات الصاعدة. لكن لا يكفي العمل على المستوى العالي فقط، بل الأساس هو المدرسة والثانوية، وإلا حلت الرداءة الفنية والإبداعية في فضاءاتنا كما بدأ يتضح ذلك من عدة أمثلة: علامات تجارية، تصاميم مجالية، تصاميم صناعية، تصاميم التواصل والطباعة والإشهار...تجمعها الرداءة وضعف الابتكار – مع التأكيد على القيمة الإبداعية الكبرى التي تميز بعضها حيث أن تجليات فقر الخيال والوجدان وضعف الإبداع البصري والفني عامة في فضاءاتنا العامة ومجتمعنا ترتبط أساسا بضعف التعليم الفني والتكوين وتهميش الخيال والحس الفني والجمالي في منظومتنا التربوية والتكوينية. أما السؤال الأخير فيتعلق بالمستوى الإداري والتدبيري. قد يقول البعض بأن السبب الرئيسي في التفكير في شكل تدبيري وإداري جديد هو عدم تمكننا من تعميم تدريس المواد الفنية، فيتم تبرير قرارات مضادة وملتبسة. والمطلوب هو أن نبحث عن بدائل لتعميم تدريس المواد الفنية ليستفيد منها أبناء كافة المغاربة، وإحداث مسالك جامعية وتخصصات ودبلومات عليا، ودورنا نحن أساتذة ومفتشين تربويين وباحثين وفنانين وشعراء ومواطنين هو أن نبدع الحلول التي لا تتأتى إلا عبر التفكير الصعب لنساهم في تطوير منظومتنا التربوية والتكوينية عبر تطوير عرضها التربوي حتى نتقدم إلى الأمام، لا أن نكرس أو نتمن الأخطاء أو الأوهام لنعود إلى الوراء.