بدأ مربو الأغنام بأولاد دليم يتذوقون النتائج الأولية لتحويل الأراضي القاحلة إلى مراعي تخفف عنهم كلفة العلف، فبعد أن كان الجفاف الحاد يفرض عليهم بيع دوابهم بأبخس الأثمان, فإن المراعي الجديدة تحولت إلى صمام أمان صاروا يتحملون مسؤولية تدبيره وتسخيره في توفير الكلأ الضروري لجني أرباح من الكسب, التجربة تستحق أن تعتمد كمرجعية لمعالجة جانب من المشاكل الحيوية التي تعرض سكان الوسط القروي إلى الإفلاس وتفرض عليهم الرحيل إلى المدن والمراكز الحضرية ولو من باب الهروب من أنظار وأقاويل سكان القبيلة. للوقوف على مستجدات الوضع بالمنطقة غادرنا بعد زوال يوم الأربعاء 26 يناير 2011 مراكش عبر الطريق المؤدية إلى أسفي وكلنا أمل في أن نعاين ما يؤكد تكامل مختلف المشاريع لتعزز المكانة المتميزة لمراكش كوجهة سياحية عالمية، كم كانت صدمتنا كبيرة عندما اقتربنا من مطرح الأزبال، فهبوب الرياح ألهب النيران المشتعلة ووجه الأدخنة المتصاعدة في اتجاه الطريق المؤدي كذلك إلى الطريق السيار المؤدي إلى كل من الدارالبيضاء وأكادير، بدون أدنى مبالغة كانت الأدخنة تحجب الرؤية وتفرض على سائقي السيارات إضاءة المصابيح وإغلاق النوافذ تفاديا لشم الروائح الكريهة، أما الذين لا يملكون سيارات فمن المحقق أن عبور المقطع المجاور للمطرح يشكل بالنسبة إليهم كابوسا يتمنون صباح مساء التخلص منه. عندما وصلنا إلى المنابهة التي تبعد عن مراكش بحوالي 20 كيلومترا, استعنا بتقنيين تابعا عن كثب مشروع تحويل الأراضي الجماعية غير القابلة للاستغلال إلى مرعى جماعي في خدمة سكان المنطقة، كانا يدلاننا على المسالك التي يجب اتباعها وكانا في نفس الوقت يتحدثان عن مضمون البرنامج الرامي إلى تحسين المراعي في مساحة تقدر ب 2000 هكتار ، وكانا يركزان بشكل خاص على مشروع تغطية 1400 هكتار بالشجيرات الكلئية و 600 هكتار بالصبار الأملس. انطلق المشروع سنة 2010 بتغطية 250 هكتارا بالشجيرات الكلئية التي تمتاز بقدرتها على تحمل الجفاف الحاد وعلى تغذية الحيوانات في الأوقات الحرجة، فهذه النبتة، التي تستعمل في عدة أقاليم لمحاربة التصحر، تمتاز بكونها تتطلب عناية خلال السنتين الأوليتين فقط من زرعها، ولذلك فإن الدولة هي التي تتحمل كل نفقات حرث الأراضي الجماعية غير القابلة للاستغلال وتتولى زرعها وسقيها والعناية بها طيلة سنتين ثم تسند مهام تدبيرها للتنظيم المحلي الذي انتظم فيه من لهم قطعان الماشية. في هذه المنطقة يتم التركيز على تربية الأغنام من صنف السردي، وقد بادرت مصالح وزارة الفلاحة بالجهة إلى تأمين حاجيات المربين من الماء فبرمجت حفر وتجهيز 8 نقط للماء، منها 2 في طور الإنجاز، ومن ميزة هذه الآبار، التي يتراوح عمقها بين 50 و 80 مترا، أنها توفر صبيبا يتراوح بين 3 و 5 لترات في الثانية . وتبرز أهمية المشروع من كون تربية الماشية تمثل مصدر العيش الأساسي للسكان, إذ تضم جماعة اولاد دليم حوالي 13000 كساب يربون قطيعا يتكون من حوالي 117000 رأس من الغنم و حوالي 11500 رأس من الماعز وحوالي 6000 رأس من الأبقار التقنيان اللذان أوضحا أن المشروع يهم أربع جماعات وهي اولاد دليم التي تتوفر على 64 ألف رأس و المنابهة التي تتوفر على 30 ألف رأس, ثم أحربيل وأحد سيدي ابراهيم اللتان تتقاسمان الباقي ، حرصا على إبراز مكانة التنظيم المحلي في تأمين استمرارية وديمومة مثل هذه المشاريع، ومن خلال المناقشة تبين أن الدور الأساسي لهذه المراعي يتمثل في تغطية الكلأ للحاجيات من مواد التغذية في الفترة الحرجة التي غالبا ما تمتد من أكتوبر إلى دجنبر، فطوال هذه الفترة يقتصر دور الفلاحين على تحمل كلفة المواد المكملة لمكونات الكلأ الذي تم زرعه بالمنطقة عوض تحمل الكلفة الكاملة للأعلاف التي غالبا ما ترافع أسعارها، وبذلك فإنهم يتفادون بيع أغناهم بأسعار قد لا تغطي حتى رأس المال. السنة الأولى من بداية السماح بالرعي في المراعي الجديدة حفزت المربين على التنظيم ومهدت لتعميم التجربة على باقي الأراضي الجماعية، غير أن أهداف المركز الجهوري للاستثمار الفلاحي تتوخى أكثر من ذلك, إذ تراهن على أن يبادر الفلاحون إلى تعميم التجربة لتشمل حتى الملكية الخاصة، وحتى بالنسبة لما يروج من تخوف يقوم على التعرض لمخاطر فقدان الملكية في حالة تحويلها إلى مرعى مشابه للمراعي التي تنجزها الدولة، تبين أن هذه المخاطر غير واردة وأن الأيام وحدها ستجعل من تأخروا عن القيام بذلك يندمون على كونهم لم يكونوا من السباقين لجني ثمار المراعي التي أبانت عن قدرتها على التخفيف من انعكاسات الجفاف وخاصة في السنوات التي يتأخر فيها موعد تساقط الأمطار إلى يناير أو فبراير. ظروف التنقل إلى المرعى جعلتنا نتطرق إلى عدة مواضيع لها صلة وطيدة بنمط عيش من يزاولون تربية الماشية، وقد تبين أن المنطقة تواجه إشكالية ضعف التساقطات المطرية إذ يصل معدل التساقطات إلى حوالي 200 ميلمتر في السنة, كما أن هذه التساقطات غير منتظمة، وعلى ضوء ذلك, فإن معدلات الحصاد تراوحت خلال السنوات العشر الأخيرة بين 4 و 5 قنطار من القمح في الهكتار وحوالي 5,5 قنطار من الشعير, في حين أن التساقطات المطرية المسجلة في موسم 2008 ? 2009 بلغت 237 ميلمترا وسمحت بجني محصول جيد تراوح بين 14 و 15 قنطارا في الهكتار, أما في الموسم الموالي فإن المحصول تراجع إلى ما بين 4 و 5 قنطار في الهكتار بفعل تأخر موعد تهاطل الأمطار وتراجع مستواها إلى 136 ميلمترا في السنة، أما بالنسبة للموسم الحالي فمن المرتقب أن يستفيد من نتائج تدخلات المديرية الجهوية المتمثلة في التشجيع على الزرع المبكر، ابتداء من دجنبر ويناير ، عبر توفير البذور المختارة بأسعار تراوحت بالنسبة للقمح بين 355 و 370 درهم للقنطار، حسب الجودة، وتراوحت بالنسبة للقمح الطري [فارينة] بين 395 و 325 درهما للقنطار، وبعد أن ساهمت إعانات الدولة في شراء 17 جرارا و 11 آلة حصا, فإن المكننة صارت كافية لتغطية جل حاجيات فلاحي المنطقة، في حين أن المساحة المزروعة بالحبوب الخريفية بلغت 60 ألف هكتار. فضلا عن تربية الماشية وزراعة الحبوب, فإن المنطقة التي استفادت من عملية تشجيع السقي بالتنقيط وصارت تتوفر على 194 هكتارا بعدما كانت لا تتوفر إلا على 117 هكتارا من الأراضي التي تعتمد السقي بالتنقيط، صارت تؤمن تكثيف زراعة البطيخ و»الدلاح» والذرة والقرع الأحمر والطماطم، بل إنها مكنت من إدخال مزروعات جديدة ك»القوق» مع أن الأغلبية الساحقة من الفلاحين بالمنطقة يتعاطون زراعة الزيتون، وخاصة منها أصناف البيشولين المغربية ? الحوزية ? المنارة والبيشولين لونكدوك، فإن التقنيين ربطا بين التحولات الجارية في مجال تثمين الماء وبين تنويع الإنتاج في المنطقة ولاحظا أن الاهتمام بالرعي سيظل من الأنشطة الرئيسية بالمنطقة، إلا أنه سيتعزز بأنشطة جديدة تقوم على التقنيات العصرية، وفي هذا السياق سجلا أن المنطقة صارت تتوفر منذ سنة ونصف على 33 هكتارا من أغراس الحوامض الموجهة للتصدير، وعبرا عن قناعتهما بأن المنطقة مرشحة لأن تكون من أكثر المناطق المغربية تجهيزا بتقنيات الري بالتنقيط, خاصة أن دعم الدولة في هذا المجال يصل إلى 100 % بالنسبة للملكيات التي تقل مساحتها عن 5 هكتارات وإلى 80% بالنسبة لمن تزيد مساحة ملكياتهم عن 5 هكتارات, العمليات الأولية التي قامت بها مصالح وزارة الفلاحة بالمنطقة في إطار توفير شروط جني ثمار مجهدات الدولة والقطاع الخاص دفعت بالتقنيين إلى الحديث عن العمليات التي انطلقت سنة 2010 بتوزيع 15 ألف شجيرة للزيتون وعن برمجة توزيع 30 ألف شجيرة سنة 2011 خاصة أن الطلب على هذه الشجيرات متوفر. من الناحية التقنية تم التغلب على عدة معيقات ولاحت في الأفق بوادر رفع وثيرة الإنجاز على كافة المستويات، ولكن القناعة الراسخة بضرورة إشراك الفلاحين في كل مراحل الإعداد والإنجاز ، وكذلك في تحمل الكلفة وفي التسيير والتدبير، إن هذه القناعة فرضت الاهتمام بالعنصر البشري من خلال تحفيزه على التنظيم والتأطير والتكوين، وبعد أن صارت المنطقة تتوفر على 8 تعاونيات للحليب و 11 تعاونية لتحسين المراعي و 4 تعاونيات لإنتاج اللحوم الحمراء, فإن ما يتم تداوله بين الفلاحين حول النتائج السنوية التي حققها كل منهم سيلعب الدور الحاسم في اتخاذ قرار الانخراط في ورشة الانتقال المتسارع من نمط الإنتاج التقليدي إلى نمط الإنتاج العصري. أثناء العودة إلى مراكش عاينا بعض الحقول العصرية اليانعة الخضرة وعاينا في نفس الوقت تقدم الأشغال في أوراش استثمارية تقوم على تثمين الماء وبالمقابل سجلنا غياب التشجير في التجمعات السكنية بالدواوير علما بأن الأشجار توفر الظل للماشية وتخفف من قوة الرياح، ولكن ما أثار انتباهنا بكثرة هو نفور الشباب من العمل في الوسط القروي, إذ أكد أحد التقنيين أن الفلاحين يعانون في موسم جني العنب من قلة اليد العاملة ويضطرون إلى التنقل إلى عدة دواوير من أجل جلبها دون أن تكون لهم أدنى ضمانة بأن من جلبوهم سيشتغلون معهم حتى نهاية الجني، فالسائد هو أن العمال يغادرون العمل بمجرد ما يتقاضون أجر الأيام الأولى من العمل، والقاعدة هي أن الشباب المولود في الوسط القروي صار يفضل العمل في الوسط الحضري ولوكان ذلك في أوراش البناء التي تتطلب مجهودا أكبر مقابل أجر أقل من الآجر الذي يعرضه الفلاحون، فغياب أبسط المنشآت الترفيهية في البادية هو الذي يفرض التوجه نحو المكننة وهو الذي يساهم في تكرر المنظر اليومي المتمثل في أن الحافلات تذهب في الصباح ممتلئة من البوادي إلى المدينة وفي المساء من المدينة إلى البادية. إن التنمية كل لا يتجزأ، وإذا كان من المفروض في مصالح وزارة الفلاحة أن تواكب الفلاحين من أجل رفع إنتاجهم وتحسين دخلهم عبر العصرنة والتطوير والتأطير والتكوين وعبر التأقلم مع متطلبات الدورة الزراعية, فإن من واجب باقي المصالح أن يتعاملوا مع البادية ومع القطاع الفلاحي من منطلق أنها قاطرة النمو ومؤشر عملي على ما آلت إليه التنمية على المستوى الجهوي والوطني.