تبدو واجهات الوجود فقيرةً قياسا إلى تنوع التجربة الإنسانية وغناها. ذلك أن "الوجود الفعلي" لا يستوطن العيان العيني وحده، إنه مودع، في ما هو أبعد من ظاهر الأشياء والكائنات، ضمن ما تأتي به اللغة من خلال سيرورة التمثيل ذاتها. فاللغة لا تعين عالما خاما ولا تستنسخ وقائع، بل تعيد تشكيل كل شيء وفق منطقها في التقطيع وصياغة الحدود بين الكائنات والأشياء. فلا أحد منا رأى العالم "عاريا"، لقد ورثناه، كما هو جاهزا، ضمن تجربة تُعيد إنتاج نفسها ضمن عوالم الوجود الرمزي كله، "فلا وجود للرمزية قبل انبعاث الإنسان المتكلم" (ريكور). وهو ما يعني أننا لا نسكن عالما، بل نُقيم ضمن حدود ما تصفه اللغة وتصنفه وفق قوانينها، فهي "الشاهد الوحيد على براءة ضاعت منا إلى الأبد" (ج. غوسدورف). وهذا دليل قطعي على أن المعنى ليس رصدا لمعرفة موضوعية موجودة في الطبيعة خارج حالات التمثيل المفهومي، بل هو حصيلة ما تأتي به الممارسات الرمزية كما تتسلل إلى النصوص وإلى أشكال التصرف في المحيط والسلوك الاجتماعي في الوقت ذاته. فلا دَخْل للمنافذ الحسية في ذلك، فما يأتي منها ليس سوى إشارة إلى "اصطدام" وعي يهفو إلى امتلاك موضوعات بما يؤكد وجوده ووجودها في الوقت ذاته، أما المعنى فيتطور ضمن صيغ مضافة بلورها الإبصار والسمع والذوق... من أجل تجاوز محدودية الإدراك الحسي: فنحن نُحَدق ونرنو ونحدج، وننصت ونصيخ السمع ونسترقه، ونتلذذ متعة أو نتقزز، ونتحسس المحيط، إننا نفعل ذلك كله في الثقافة وحدها، خارج الفعل الحسي، بعيدا عن حاجات الإدراك المباشر. ولو لم يكن الأمر كذلك لما انتابنا الرعب من كائنات هي إفراز لحالات القلق والضعف فينا، من قبيل الجن والغول والعفاريت والكثير من الكائنات التي لا تُرى. لذلك لا نتعرف، في جميع هذه الحالات، على كون "موضوعي" مستقل بذاته، بل نتحسس الطريق إلى ما تُخْفيه اللغة أو تقوله عنه، فداخل هذه اللغة وحدها تتناسل سياقات تستوعب عمليات البناء والتلقي والتداول في الوقت ذاته. ذلك أن نظام الأشياء خلاف نظام الكلمات، فنظام الأشياء مرئي في ذاته خارج التغطية الرمزية، أما الكلمات فلا تحيل على شيء آخر غير الكلمات ذاتها، فالحقيقة فيها وحدها، تماما كما يمكن أن تكون خزانا للضلال والتيه وكل أشكال التزييف. وهذا ما يؤكد أن إيحاءات التَّمَثُّل وممكنات الافتراض أعمق بكثير من واجهات الإدراك المباشر. إن الذهنيات البدائية وحدها تَرى في الكون سلسلة من المَجَرات المشخصة يرتبط بعضها ببعض وفق منطق الإحالات الحرفية والمعنى التقريري، وتلك هي سمات الفكر التناظري، لا يمكن أن يستقيم الوجود داخله إلا من خلال تَحَيُّزه في صيغة بصرية تشد الكلمات إلى الأشياء. استنادا إلى هذا، وجب التعامل مع وقائع الوجود كلها من زاوية تعدديتها في الدلالة والتداعيات والإسقاطات المضافة، وتلك خاصية من خاصيات الكون الإنساني، ذاكرة الرمز فيه أقوى من كل الذاكرات. لذلك لا فائدة من البحث عن المعنى في ما يشير إليه التعيين المباشر، ولا أمل في الوصول إلى تمثيلات دلالية مضافة من خلال ما تقترحه الأشياء على العين خارج وساطة الرمز وكل الصيغ الإيحائية. هناك في الذات وفي السياق ما يكفي من الإحالات لكي يصبح النص مستودعا لكل ما ينبعث من عوالمه وما يأتيه من القارئ، وما يتسرب إليه من السياقات القريبة والبعيدة في الوقت ذاته. فالحقيقة لا تختفي في مركز قَصِي غامض وملتبس تُحيط به الأسرار من كل الجوانب، بل تُبنى ضمن هذه السيرورة وحدها. وذاك هو سبيلنا نحو الخروج من "عري" المباشر والنفعي والمعطى الجاهز، للتدثر بغطاء التمثيل الرمزي، أي البحث في "الظاهر" و"المألوف" عما لا تقوله الكلمات بشكل مباشر، والنبش في المشخص عما يتضمنه من حالات التجريد. إن التعدد والغموض هما القاعدة في تشكل النصوص واستقبالها، أما حاجات النفس المباشرة فلا تشير سوى إلى أشد المناطق فقرا في الذات وفي الوجود. فما تقدمه الكلمات لا يُصنف ضمن محاكاة لعالم هو ذاته عند كل الناس، بل هي التعبير الصريح، أو الغامض، عن تجربة "روحية" تنتشر في كل شيء، في الوقائع والطقوس وتسمية الأشياء وصفاتها، وتنتشر في الحكايات وما يتداوله الناس من أحكام ويمارسونه من الطقوس والشعائر. إن الإمساك ببعد الإيحاء فيه وحده يمكن أن يُعيد إلى هذه الوقائع جزءا من ذاكرة لم تستوعبها حالات التمثيل المباشر، أو تطورت على هامشها في شكل أحكام غامضة، أو احتفاء بانفعالات غطى على مصادرها التداعي الرمزي. إن النصوص تحيى بغموضها لا بما تقوله الكلمات فيها صراحة. إن الاحتفاء بهذا الغموض هو أداتنا لاستعادة ما تخبئه الحكايات وما تتستر عليه حالات التشخيص في النص الدنيوي ونصوص المقدس على حد سواء. فهذه وتلك ليست في غالب الأحيان سوى وجه خفي تَجَسَّد في وقائع تُخفي هواجس وقلق ورغبة في استعادة ما مضى أو خوفا مما سيأتي. إنها تحتاج إلى تدَبُّر يُخلصها من شكل التجلي الظاهر للإمساك بالجوهر التجريدي فيها، فهو المضمون الصامت لما تقوله الكلمات جهرا. إننا نتجاوز فتوى الفقيه بالكشف عن المضمر في النصوص: إن الفتوى "حسم" و"فصل" بين "باطل" و"حق"، فهي منع وردع وإباحة وتحليل، أما المضمر فإسقاط لعوالم ماضية محكومة بشرطها، بما فيها حالات "المحظور الطوعي" الذي نتعلم من خلاله كيف ننتمي إلى ثقافة تستوعب "الأنا" المفردة ضمن "النحن" العابرة لكل الذوات. لايتعلق الأمر في هذه الحالة بحرية تُبيح للذات تشكيل العالم وفق هواها، بل هي رغبة في استيعاب " أفق" النص ضمن أفق الذات التي تريد أن " تفهم": تفهم ما مضى وولى إلى الأبد، وما يجري بين أيديها. وهي صيغة أخرى للقول، إن التأويل ليس هروبا من عقل يُحاجِج للاحتماء بهلْوَسات بلا معنى، بل هو في الجوهر تمكين للعقل وجعله قادرا على استيعاب ما يمكن أن يتطور على هامش قوانينه في الحكم والتصنيف. وذاك ما يقوم به المؤرخون والحفريون وهم يبحثون عن "حقيقة" الوقائع في ما اختفى أو تسلل إلى البنايات واللقى القديمة. فنحن لا نلْهث وراء حقيقة قديمة ضاعت، ولا نرغب في استنباط حكم أو مقاصد، بل نصبو إلى بلورة "حقائق" هي حاصل مزج بين آفاق تنتمي إلى زمنيات مختلفة، إننا نود فهم الماضي لنعرف الحاضر بطريقة أفضل.