الموسيقى ليست غذاء للروح فحسب، لكنها امتداد نفاذ للثقافات والفكر أيضا، وقد تتجاوز هذا وذاك لتصبح نفحة إنسانية عابرة للقارات لتصالح شعوبا مع أخرى وتعرف أناسا على ثقافة آخرين، ولعل خير شاهد على ذلك هو تلك المجموعة التي تكونت في بضعة أيام فقط بين أربعة أقطاب موسيقية مغربية والتي ضمت كل من الفنان القدير الحاج يونس عازف العود صحبة عازف الكمان المتميز أمير علي والشاب الاستثنائي كريم قمري الذي يعتبر فعليا أول عازف مغربي على آلة السيتار الهندية بالإضافة إلى عازف الإيقاع حسن. هذه الثلة من الفنانين المغاربة والذي يحمل كل منهم رصيدا ورؤى فنية غنية ومتميزة، تعود اليوم من نيودلهي بعدما أحيت مجموعة من السهرات هناك تركت صدى واستحسانا إيجابيين. ولعل اللافت للنظر أن هؤلاء اختاروا أن تكون آلة السيتار، وهي أم الآلات الهندية، سيدة الموقف في هذه التجربة الجديدة، لما تتمتع به من قدرة على السفر عميقا في المقامات الموسيقية المتنوعة والمتشعبة، نذكر أن هذه الآلة الوترية تتميز بجيدها الطويل، الذي هو موطن اللحن، أما صوتُها فيعتمد نبرَ الأوتار بأصابع اليد اليمنى، ثم تطويعَ اللحن في الوتر المنبور بأصابع اليد اليسرى، والعكس صحيح لدى كريم قمري، هذا العازف الأعسر الذي يستطيع تطويع السبعة عشر وتراً بيده اليسرى لتستلم اللحن الذي يلائمها، وتزيده ذبذبة ليولد نغمة ذات صدى في العمق. صدى النغمة التأملية. لقد سبق لعازف العود المغربي الحاج يونس أن شارك ضمن فرق أجنبية كثيرة منها «جينيسيس» حيث عزف إلى جانب الفنان اليوناني الأصل ، ألبيرطو ميزراحي والفنان الأمريكي هووارد ليفي و الفنان الإثيوبي مونيب جواد والفنان الأفغاني هميون خان، وعازف القيثارة الإيراني شاهين. أما إبن مدينة مكناس الفنان أمير علي الذي شب وترعرع بمدرسة الملحون على يد الراحل الكبير الحسين التلالي، فهو اليوم يعتبر اليوم علامة موسيقية مغربية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، كما أن إبداعه الفني راسخ في الأصول المغربية والعربية وبالتالي فهو يعتبر بحق سفيرا للموسيقى المغربية. كريم قمري.. خفقة قلب قلت وأنا أمزح مع كريم قمري قبل سفره إلى نيودلهي، إنك وأنت تتوجه إلى الهند بسيتارتك، هذه الآلة الهندية الساحرة، لأشبه بشخص يتوجه من البيضاء ليداعب الكرة أمام الجماهير البرازيلية بملعب ساوباولو أو كمن قصد إشبيلييا ليرقص الفلامينكو.. فرد ساخرا: لا هذا ولا ذاك غير أن زادي الأساسي هو هذا الإيمان الراسخ بأن الموسيقى لا موطن لها وكل العالم وطنها، لقد طاوعتني هذه الآلة كي أعطي لمجموعة من الألوان الموسيقية المغربية والعربية نكهة أخرى وميلادا آخر... ولعل تجربة كريم قمري إلى جانب الفنانة الرقيقة سليلة الموسيقى الهندية الكلاسيكية كاترين بوتر،العازفة على آلة البانسوري والحائزة على جائزة جون هيغينز قد أعطى الدليل على صدق هذا التمازج الموسيقي الرائع، خصوصا خلال تجربتهما صحبة فنانين أفارقة وفرنسيين وهم يعزفون مقطوعات جماعية انصهرت فيها أشكال موسيقية مختلفة. وللتذكير فالفنانة بوتر سبق وعزفت الى جانب ساحر السيتار رافي شانكر، ولعل مشاركتها كريم قمري وهو بسيتاره تحمل أكثر من معنى. نعتقد أن المجتمع الهندي الذي تتسم ثقافته بدرجة عالية من التوفيق بين الأديان والتعددية الثقافية قد استقبل هذا التمازج الموسيقي لمجموعتنا المغربية برحابة صدر لا نظير لها. قد تستطيع الهيمالايا منع هبوب رياح الكاتاباتيك الباردة القادمة من آسيا الوسطي، لكنها حتما سترحب بدفئ موسيقى قادمة من بلاد كناوة والأندلسي والملحون.