كان الصباح ماطرا رغم أن الفصل كان صيفا. الأيام الأخيرة من شهر غشت أتت بالمطر والبرد. حين تركت فندق «الإيتاب 1» خلفي لم أكن أحمل معي مظلة مطر. أنى لي أن أفكر في ذلك وأنا لم أتعود بعد على مدينة باريس. لكن ذلك لم يزعجني البتة. على العكس، كنت منشرح الصدر، رائق المزاج، وكان الفرح فراشة تحلق في سماء قلبي. قلت لنفسي فيما يشبه البوح العلني: هو يوم غريب الروعة. وذرعت شارع سانت أوين أرقص تقريبا، بفعل المطر وبفعل المرح. ألقي التحية على العمارات القديمة ونوافذها حيث ستارات بيضاء تحف بالسر، وأصص الورد تُسقى بهدوء. وكنت ألقي بصري على الأبواب الخشبية العتيقة بمقابضها النحاسية القديمة، شاهدة على قرون سابقة، لكنها ما تزال تنسج حيوات أناسها في الخلف المستور في الدفء. كنت مأخوذا وأتساءل ما بيني وبين نفسي، هل أنا هنا وهل هذا الحي الموجود في المقاطعة الثامنة عشر هو ما أرى. نعم بكل بلادة طيبة كنت أفعل. أرمي النظرة تلو الأخرى واستفتي خاطري. ولم أدر إلا وأنا أردد أغنية جاك ديترون الشهيرة «هي السادسة صباحا، وباريس تستفيق من سباتها «il est six heures, Paris s_éveille». وفعلا كان هناك أناس يفتحون محلات وآخرون يكنسون بتؤدة الرصيف القريب من دكاكينهم، ونسوة ورجال من كل الأعمار يذرعون الشارع والأزقة الخلفية ويصعدون أو ينزلون مترو الأنفاق، بكل هدوء ساكنين أسفل مظلاتهم. مشهد ناضج جعلني أتحسر قليلا أنني لم أكن هنا في زمن خروج الأغنية في أسطوانة 33 السوداء. ربما كان نبت لي مصير آخر وفصول أخرى. وبحت من جديد لنفسي: هو يوم غريب الروعة. وهذه الأخيرة كانت في الأجواء وكانت تصلني مثل ريح أخرى لم أعهدها، تلف جسدي قليلا، ترجه في مكانه قبل أن تدعه وتصعد عاليا بين قطرات المطر. وفي تلك الأثناء كنت لا أفتأ أنتقل من هذا الرصيف إلى الآخر، أتصورني في باطن أمري كطفل لا يلبث على حال استقامة، وفي الظاهر كرجل رصين يبتسم حييا وياقة معطفي تغطي عنقي. هكذا أمشي متجها نحو الصباح لأتناول فطوري. وأبدأ يومي الباريسي. شتاءات صغيرة، هنا وهناك، حنت على كتفي، ورافقتني كظلال منيفة حتى لحظة وصولي عند نيكول، صاحبة بيسترو لا بونبونيير، وقد بدت لي خلف الكونطوار الصقيل بجسدها الثخين وصدرها الناهد لامرأة في حوالي منتصف الخمسين من العمر. رصينة ومنتصبة فوق كرسي دائري أمام جريدة لوباريزيان وصندوق النقد. بونجور مدام، بونجور مسيو، كما هي العادة؟ نعم، قهوة بالحليب وهلاليتين وكأس ماء. دار الحوار المقتضب المعاد المعروف بسلاسة وأنا أنثر قليلا من الماء من حول معطفي وشعري. وفي المقهى اتجهت إلى حيث تعودت على أخذ فطوري في الطاولة المركنة مباشرة أمام الباب على اليسار. من حيث كان بإمكاني رؤية العالم هذه المرة جالسا والمطر يسقط حثيثا عل أكتاف السابلة، المهرولين والمخففي السرعة على حد سواء. لكن الأغرب أنه حال وصولي تلقفتني كلمات الأغنية التي كنت أشدو، فتكاثفت الغرابة أكثر وأكثر. كان اللحن صادرا من مذياع متوقف عند محطة إذاعة نوستالجيا. وبدأت أسمع بتنغم وفي نفس الوقت أرجع بالبصر نحو الداخل الدافئ وأغرق في التملي بجو المقهى وأثاثتها المنوع بالمرايا وبمشروباته المختلفة الألوان واللوحات والإعلانات الغربية المثيرة بجملها الغريبة المثيرة. مثل متحف صغير ثابت في اليوم المار وللحياة العادية. وأقول بعد أن تكون عيناي قد شبعت ولم ترتو : هو يوم غريب الروعة. كان في المقهى شخصان فقط، وقدرت أعمارهما في حوالي الستين سنة. ومثل الإحساس السابق الذي انتابني منذ غادرت الفندق، بدا لي كما لو كانا خارجين من قصة قديمة لفرانسيس كاركو، الأول بدين الجسد ولا يكف عن الكلام، والتعليق على أي شي, الجو الذي تغير فجأة، وخطاب ساركوزي حول تجريد الجنسية من الأجانب، وهزيمة منتخب فرنسا المخجلة في كأس العالم لكرة القدم. وكان يتوقف من حين لآخر لشرب جرعة متلذذة عارفة من جعته النصفية. أما الزبون الثاني فكان منظره يوحي بمدمن قديم، بلحيته الأسبوعية، وحركات أطرافه الكثيرة التي لا تقف على حال. وكان يكرع من كأس بورتو بلونه القرمزي المتلألئ. وكنت أنظر، وأتملى، وأملأ عيني، دون أن أعي في حقيقة الأمر معنى ذلك,, سوى أنني كنت أشعر بغرابة رائعة رغم أن لا شيء قد يوحي بذلك.. ربما لأنني لم أتعود، وربما لأنني سائح عابر، أو لأن ما أراه سبق لي أن شاهدته في زمن ما سابق أو لاحق، لا أدري.. وفي لحظة ما، والكلام صار ثلاثيا ما بين نيكول والزبونين الذي يبدو أنهما متعودان على المقهى كأثرين من آثارها، نهضت هي من مقعدها خلف الكونطوار، وخرجت من المقهى، وغابت مدة دقائق، ثم عادت وهي تحمل في يديها اليمنى سديرة سوداء ما تزال في مشجبها اقتنتها من عند مدام كاثرين صاحبة محل الملابس بالجوار حسب ما باحت به وهي راجعة، وأخرجتها وراحت تلبسها، وهي تردد: نحن في عز الخريف وليس الصيف ! من كان يظن هذا يحدث؟.. ورد عليه الزبون البدين في الحال: أوف ! يا له من جو حزين.. ثم التفتت جهتي وبادرتني بالكلام: آه ! حظك غير موفق اليوم يا سيدي. ولماذا يا سيدتي الطيبة ؟ لقد أمطرت والجو كئيب.. لا بالعكس يا سيدتي.. الجو أكثر من رائع. آه فهمت، أنت تحب المشي تحت المطر.. لا ليس الأمر كذلك. وما هو ؟ إن تقبلت فضولي.. بكل بساطة، أنا أحب باريس تحت المطر.