خمس وثلاثون سنة مرت على ذلك التاريخ الذي بزغ من التاريخ... لم تكن المسيرة الشعبية الخضراء مجرد حدث تاريخي يوم 6 نوفمبر1975 . وللدقة، هي مجرد أن سارت وأنجزت هدف سيرها، كفت عن تكون مجرد حدث تاريخي، أضحت تاريخا، «ثقف» الجغرافية وأعاد التاريخ إلى مسار تدفقه الأصلي... المغرب الموحد، الواحد... المغرب المتنوع في تعدده والمتفاعل في تنوعه. حدث «المسيرة الشعبية السلمية»، تاريخ بكل مواصفات التاريخ، لأن ما تلاها من أحداث ووقائع، على مدى هذه الخمس وثلاثين سنة، لم يكن إلا من نسلها ... لا حدث بعدها تمكن من تجاوز قامتها، و لا النيل من مناعتها ولا الحد من مفعولها. لقد أنتجت «أم الحقائق»، الصحراء منصهرة في مغربها. و هي الحقيقة الأساس والفاعلة، والتي على أسوارها ارتطمت وتناثرت كل محاولات تهريب مغاربة من مغربيتهم إلى هوية معلبة، ومحاولات فصل أجزاء من منافذ الدفء عن المغرب. الحقيقة التي فرضتها الإرادة الوطنية، النابضة بالحماس الشعبي، كون الصحراء الغربية مغربية، حقيقة تاريخية، كما قبل الأمس، الأمس، اليوم، الغد وأبدا... المسيرة الشعبية لنوفمبر 1975، أكدت هذه الحقيقة، ودونتها في سجلات التاريخ، وسيجتها بالإرادة الوطنية المغربية، المتضمنة لقناعة وإيمان المغاربة، كل المغاربة، وفي طليعتهم سكان الصحراء المغربية نفسها. خمس وثلاثون سنة، وهذه الحقيقة هي الحقيقة الثابتة والصامدة أمام كل تجاذبات الأحداث، ومرورها من دوي نيران الحرب إلى همس الديبلوماسية، أو العكس، في حالة اليوم، من صمت مدافع خطوط النار إلى هدير استعراض المناورات الديبلوماسية. الاستفتاء ألغته استعصاءات تحديد الهوية. وحدة الهوية وتاريخها أبطلت محاولة التقسيم (مقترح بيكر ...) وكل المفاوضات، الرسمية وغير الرسمية، المباشرة والمدارة عن بعد، تنتهي بأمل مفاوضات أخرى، وما لا تستطيع تجاوزه ولا التغاضي عنه ولا تجاهله، حقيقة واحدة منيعة، وعنيدة هي ارتباط الصحراء بمغربها... وهي الحقيقة التي أعلت صرحها ومتنت بنيانها المسيرة الشعبية الخضراء. الذين كانوا سنة 1975 مجرد أجنة في بطون أمهات أرغمن في سياقات « أحداثئذ»على النزوح إلى خارج وطنيتهم... هم اليوم، نساء ورجال، في عمر خمس وثلاثين سنة. المئات منهم عادوا إلى منابع مغربيتهم و إلى رحابة وطنيتهم...الآخرون، يعيشون في مخيمات تندوف، بعضهم قادة وقواعد جبهة البوليساريو وأكثرهم مجرد مرغمين على العيش هناك إلى حين، وقد طال بهم المقام... خمس وثلاثون سنة. حياة جيل. أتصور أن في تندوف، ومن بين مواليد تلك المسيرة الخالدة، من سيطرح على نفسه، اليوم سؤال المآل... ربما فعل ذلك في السنوات الماضية، و لم تتوفر له عناصر جواب مقنع أو أجاب عليه باندفاعة حماس «لقضية» قدمت له ملفوفة في «جمل ثورية»... اليوم، وأفترض أنه «نضج»، و قد هده الانتظار و المراوحة في المكان، ربما سيجيب، على نفس السؤال، بحكمة عقل يبحث عن حلول واقعية.إذا تمعن لن يعدم مؤشرات و لا معطيات و دلائل، ستفيده في أن «القضية» لا تعدو أن تكون لعبة في حسابات دولة الجزائر، لا تعير فيها أي اعتبار لمبادئ تحررية و لا لمصالح «شعب» صحراوي افتراضي...يهمها وحسب أن تضايق المغرب، حتى، وعلى المدى المتوسط، قبل البعيد، هي من سيتضرر أولا من سياستها «المغاربية». لن نذهب بعيدا...و ندعو ذلك الشاب الصحراوي إلى التمعن في تصريح السيدة وزير الخارجية الإسبانية السيدة ترينيداد خيمينيث قبل أيام قليلة. في أول تصريح لها بخصوص نزاع الصحراء، قالت الوزيرة بأن «الوقت قد حان بالنسبة للمغرب وجبهة البوليساريو للجلوس والتفاوض والبحث عن حل واقعي». ولكي تعطي لتصريحها بعد «دفتر التحملات السياسية» لمهمتها، تضيف «صحيح أننا وقعنا على جميع قرارات الأممالمتحدة التي تتحدث عن حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره. لكن من أجل تحقيق ذلك يجب أن يحدث اتفاق بين الطرفين». لنتمعن معا في هذا التصريح «التوجيهي». إلحاح الوزيرة الإسبانية على «الحل الواقعي» معناه أن لا مجال للمطالب القصوى. المغرب غادر مطلبه الأقصى المتمثل في التشبث بالإندماج التام للصحراء في المغرب... إنه اليوم، يقترح حكما ذاتيا للمنطقة، فيه، يحافظ المغرب على رموز السيادة الوطنية ومؤسساتها ويتولى سكان المنطقة، الصحراويون، تدبير شؤون حياتهم وحكامتهم بأنفسهم، إنه حل واقعي صادر عن إرادة وضع حد للنزاع، وإقرار«سلام الشجعان» الذي لا غالب فيه ولا مغلوب. في المقابل الجزائر (تحت مسمى البوليساريو) تتشبث بمطلب الإستفتاء لتحقيق الإستقلال التام «للشعب الصحراوي». إنه موقف أقصى ولا يراعي انحباس منافذ حل النزاع، بعد أن وقفت الأممالمتحدة (عبر مبعوثيها) على استحالة إجراء الإستفتاء وتبين لها عدم قابلية فكرة «الدولة الصحراوية» للتحقيق. ففتحت مسار مفاوضات البحث عن حل آخر. حل من خارج المطالب القصوى. الجزائر لا يهمها أن تطرح حلا واقعيا، غير المطلب الأصلي و الأقصى...لأنها لن تستفيد من حل النزاع، و لا ترى في ذلك خدمة لسعيها إلى تحجيم النمو المغربي. ولكي توضح الوزيرة الإسبانية أنها توجه كلامها إلى «الطرف» الآخر غير المغرب، حين تحدثت عن «الحل الواقعي»، أضافت بأنه «يجب أن يحدث اتفاق بين الطرفين» للتوصل إلى حل قابل للحياة على الأرض. بالواضح، كلامها يعني أن موازين قوى المنطقة لا تسمح بأي ضغط لا من الأممالمتحدة ولا من غيرها على أي طرف ولا لصالح أي طرف (هذا النزاع لا يزعج الغرب كثيرا، ولا دولة مهتمة، في مصلحتها، الآن، المفاضلة ما بين المغرب والجزائر)... كلامها هنا أيضا، موجه لغير المغرب. التصلب في الموقف و في المطلب لا يساعد على الإتفاق المطلوب، بينما المغرب تقدم خطوات في اتجاه الحل الواقعي، معبرا بذلك عن إرادة الإتفاق و سعيه إلى إنهاء هذا النزاع من أصله.. وإلى حين أن يتحقق الإتفاق المطلوب بين «الطرفين» يبقى الوضع على ماهو عليه. الصحراء في مغربها، مند المسيرة الشعبية لنوفمبر 1975 وإلى...الأبد. والبوليساريو في مخيمات تيندوف إلى أن تشاء الدولة الجزائرية. إنها الحقيقة التي يجدر أن يتأمل فيها إخوتنا في تندوف...و أن نستحضرها نحن، هنا من طنجة و وجدة إلى كل ربوع الصحراء المغربية... و نحن نحيي ذكرى المسيرة الخضراء، و نقف بإجلال وفاء و تقديرا لمبدعها و قائدها المغفورله الملك الحسن الثاني.