ما من شك أن موضوع جمع القرآن، ضمانا لحمايته كنص مقدس، عمل «ابتكره» الخليفة عثمان بن عفان. غير أن هذا العمل أثيرت حوله الشبهات وطرح إشكالات كبرى لم يقع تجاوزها تماما، إلا عبر اختيارات إيديولوجية مملاة،. ذلك أن مجموعة من الروايات تذهب إلى أن «المشروع العثماني» قام على مصادرة سلطة القراء (الحفاظ) كمؤتمنين على الذاكرة الشفوية، ومنهم أزواج الرسول، ومجموعة من الصحابة. ولعل هذا ما فتح الباب أمام القائلين بأن عثمان- الذي أمر بحرق المصاحف-كان وراء انفساخ العلاقة بين تلقي الحدث القرآني وبين الأثر المكتوب والمرتب في «المصحف». بل سمح لمجموعة من الباحثين «القرآنيين»- القدامى والمعاصرين- بتقديم بيانات حول وقوع التحريف في القرآن والتغيير في آياته وترتيبه وسقوط أشياء منه».. جاء في كتاب «المصاحف» لابن أبي داود: «قال ابن شهاب: ثم أخبرني أنس بن مالك الأنصاري، أنه اجتمع لغزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق قال: فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة قال: فركب حذيفة بن اليمان لما رأى من اختلافهم في القرآن إلى عثمان، فقال: إن الناس قد اختلفوا في القرآن حتى والله لأخشى أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف قال: ففزع لذلك عثمان فزعا شديدا، فأرسل إلى حفصة، فاستخرج الصحيفة التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها، فنسخ منها مصاحف، فبعث بها إلى الآفاق، فلما كان مروان أمير المدينة، أرسل إلى حفصة يسألها عن الصحف؛ ليحرقها وخشي أن يخالف بعض الكتاب بعضا فمنعته إياها». «قال ابن شهاب: فحدثني سالم بن عبد الله قال: فلما توفيت حفصة أرسل إلى عبد الله بعزيمة ليرسلن بها، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها عبد الله بن عمر إلى مروان ففشاها وحرقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك اختلاف لما نسخ عثمان رحمة الله عليه». وهنا يتضح- حسب ما انتهى إليه الباحث التونسي يوسف الصديق- كانت مكلفة بحفظ الأصل المكتوب للقرآن الذي جمعه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وأنها قامت بهذه المهمة باقتدار كبير. فقد كانت «تسترد» دائما «ملكها» (القرآن) حيث كلما طالبها عثمان بصحيفة لمقارنتها سلمته له لتكون مصاحفه مستندة إلى أصل أبي بكر المستند بدوره إلى أصل النبي، المكتوب بين يديه بأمره وتوقيف منه. ولم تأل تلك الكتابات أي جهد لتذكرنا- ربما لتنزع أي شك- بأن الخليفة نفسه هو الذي أشرف على استنساخ القرآن. لكن هناك من العلماء- تأسيسا على ما اعترى جمع القرآن من خلاف- يذهب إلى أن المصاحف لم تكُن إذاً هي القُرآن الكريم، وإنما كان مِمّا كُتِب فيها بعضٌ مِن القُرآن الكريم ..فكتب كُل صحابي مِنهم بمِقدار ما سمِعهُ وعلى الحرف الذي سمِعهُ مِن رسول الله صلّى اللهُ عليْهِ وسلّم .. لكِن لم يُطلق على أي مُصحف مِن مصاحِفِهِم قط أنهُ القُرآن الكريم. وقد كانوا يُدوِّنون في مصاحِفِهِم هذه ما قد يُساعِدُهُم على الحِفْظِ و الإستِذكار. فمِنهم- حسب هؤلاء- من أخطأ في الكِتابة، ومِنهم من كتب ما صار منسوخاً ومِنهم من كتب تفسيراً أو حديثاً ... وجميعُهُم لم يكتُب القرآن الكريم كامِلاً ولا بِعُرضتِهِ الأخيرة. لِذا لا يُمكِن أن يُطلق على تِلك المصاحِف أنها القُرآن وإنما بكُل بساطة هي كتابات وكُتُب الصحابة ومُدوّناتُهُم الخاصة. وأوضح الباحث الصديق أن هناك بعض الآيات القرآنية التي ظلت تطرح المشاكل، وتقلق. فمعلوم أن «المقول» القرآني نزل متفرقا (منجما)، وهو ما يترك مساحة من الشك في «نسخة» (مصحف) عثمان، مثلما هو الشأن بالنسبة للمصاحف الأخرى التي أتلفت أو منعت من الاستعمال أو النشر. وهذا ما يورده أبو داوود السجستاني حول المصير الذي رتبه مروان بن الحكم، القائد الأموي ووالي المدينة، وأحد الوجوه الرمزية للموالين لعثمان ورجال بلاطه. «فلما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها عن الصحف ليحرقها وخشي أن يخالف بعض الكتاب بعضا فمنعته إياها. قال ابن شهاب فحدثني سالم بن عبد الله قال: فلما توفيت حفصة أرسل إلى عبد الله بعزيمة ليرسلن بها، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها عبد الله بن عمر إلى مروان ففشاها وعرفها مخافة أن يكون في شيء من ذلك اختلاف لما نسخ عثمان». وهكذا أصبح «المصحف» أكثر اكتمالا من النموذج الأصلي، وهكذا- وعلى وجه الخصوص- يتبن أن إتلاف الأثر الأصلي للوحي- إذا كنا نستند على المصادر الإسلامية الأصولية غير المطعون في صحتها- يستجيب للفعل السياسي المرغوب فيه والمطبق الذي يتضمن شحنة دلالية قوية يلزم أن تكون مرتبطة بفعل آخر تقدمه الكتابات التقليدية ك«فعل فاشل»: فالخليفة عثمان نفسه أسقط خاتم النبي في بئر. حدثنا بكر بن الهيثم قال: «حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وقتادة قالا: «اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من فضة ونقش عليه محمد رسول الله. فكان أبو بكر يختم به ثم عمر ثم عثمان وكان في يده فسقط من يده في البئر فنزفت فلم يقدر عليه وذلك في النصف من خلافته. فاتخذ خاتمًا ونقش عليه محمد رسول الله في ثلاثة أسطر. قال قتادة: «وحربه كذا». حدثنا هناد قال: «حدثنا الأسود بن شيبان قال: «أخبرنا خالد بن سمير قال: «انتقش رجل يقال له معن بن زائدة على خاتم الخلافة». فأصاب مالًا من خراج الكوفة على عهد عمر فبلغ ذلك عمر فكتب إلى المغيرة بن شعبة: «إنه بلغني أن رجلًا يقال له معن بن زائدة انتقش على خاتم الخلافة فأصاب به مالًا من خراج الكوفة.. فإذا أتاك كتابي هذا فنفذ فيه أمري وأطع رسولي. فلما صلى المغيرة العصر وأخذ الناس مجالسهم خرج ومعه رسول عمر». فاشرأب الناس ينظرون إليه حتى وقف على معن. ثم قال للرسول: «إن أمير المؤمنين أمرني أن أطيع أمرك فيه فمرني بما شئت». فقال للرسول: «ادع لي بجامعة أعلقها في عنقه». فأتى بجامعة فجعلها في عنقه وجبذها جبذًا شديدًا. ثم قال للمغيرة: «احبسه حتى يأتيك فيه أمر أمير المؤمنين». ففعل. وكان السجن يومئذ من قصب فتمحل معنٌ للخروج وبعث إلى أهله: «أن ابعثوا لي بناقتي وجاريتي وعباءتي القطوانية». ففعلوا. فخرج من الليل وأردف جاريته فسار حتى إذا رهب أن يفصحه الصبح أناخ ناقته وعقلها ثم كمن حتى كف عنه الطلب. فلما أمسى أعاد على ناقته العباءة وشد عليها وأردف جاريته ثم سار حتى قدم على عمر وهو يوقظ المتهجدين لصلاة الصبح ومعه درته. فجعل ناقته وجاريته ناحيةً ثم دنا من عمر فقال: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمه الله وبركاته». فقال: «وعليك.. من أنت؟» قال: «معن بن زائدة جئتك تائبًا». قال: «ائت فلا يحييك الله». فلما صلى صلاة الصبح قال الناس: «مكانكم». فلما طلعت الشمس قال: «هذا معن بن زائدة انتقش على خاتم الخلافة فأصاب فيه مالًا من خراج الكوفة فما تقولون فيه؟» فقال قائل: «اقطع يده». وقال قائل: «اصلبه». وعليٌ ساكت. فقال له عمر: «ما تقول أبا الحسن». قال: «يا أمير المؤمنين رجل كذب كذبة عقوبته في بشره». فضربه عمر ضربًا شديدًا - أو قال مبرحًا - وحبسه. فكان في الحبس ما شاء الله. ثم إنه أرسل إلى صديق له من قريش: أن كلم أمير المؤمنين في تخلية سبيلي. فكلمه القرشي فقال: «يا أمير المؤمنين معن بن زائدة قد أصبته من العقوبة بما كان له أهلًا فإن رأيت أن تخلي سبيله». فقال عمر: «ذكرتني الطعن وكنت ناسيًا.. علي بمعن». فضربه ثم أمر به إلى السجن. فبعث معن إلى كل صديق له: «لا تذكروني لأمير المؤمنين». فلبث محبوسًا ما شاء الله. ثم إن عمر انتبه له فقال: «معن». فأتى به فقاسمه وخلى سبيله.