يُعتبر التفكير في الإسلام اليوم ضرورة من الضروريات التي تكتسي طابعا استعجاليا اليوم بالنسبة للمسلمين أنفسهم، وبالنسبة لغير المسلمين أيضا. ومع ذلك، فإنّ إعمال هذا التفكير هو ورش كبير وصعب يبقى، رغم كلّ الإيجابيات الكبيرة التي تحقّقتْ، مفتوحا على مصراعيه لإنجازه. إنّ التفكير بالنسبة لي معناه فهم دلالات الدّرس الذي تحمله هذه الديانة، ومعناه أيضا الوعْي بأسسه، بعيدا عن كلَ ما يكتسي طابع القداسة. إنَ الفهم، المقصود هنا، يقوم على إلقاء الضوء على مختلف التشريعات التي جاء بها النّص القرآني. ومن ثمّ، فإنّ النصوص التي تتكوّن منها هذه السلسلة من الحلقات تساهم بكل تواضع ضمن هذا الطموح. وهي تسعى إلى تسليط الضوء على الجذور العميقة والاجتماعية، والتاريخية العميقة إذن، لمثل هذه التشريعات. وهي تنطلق من قناعة مفادها أنّ سرّ تلك التشريعات يكمن في تاريخ البشر، الأمر الذي لا يمسّ في شيء محتواها القدسي. إنّ المسلمين اليوم مهتمون أكثر، في سياق مغامرة الحداثة، بمعرفة بأسس ديانتهم الخاصّة من خلال إنجاز قراءة عقلانية. وقد آثرتُ أنْ أتناول بالتحليل مظاهر محددة من الممارسات الدينية، ولم أقُم بشيء آخر سوى إنجاز قراءة أخرى للحجم الهائل من المعطيات التي أوردها المفسّرون العرب والمسلمون قديما. وأعتقد أن رفع المظهر الأسطوري والخرافي، بمعنى التمييز ما بين الحدث الأسطوري والحدث التاريخي، تمرّ من هنا. وقد فضّلتُ أن أتناول بالتحليل مظاهر حاضرة بقوّة في الحياة اليومية للإنسان المسلم، والتي تبدأ من شعائر الصلاة إلى السلطة، وإلى مختلف الوقائع الاجتماعية. إنها عناصر تنطوي على أهمية قصوى تهمّ وتشغل بال المؤمن وغير المؤمن. نزاع في محيط الرّسول «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ» (سورة النساء، الآية 34). هل تحتلّ المرأة في الأصل مكانة دونية على الرجل؟ ذلك هو الرأي التي يمكن أن يخرج بها المرء من هذه الآية القرآنية. فما هي الشروط التي نزلت فيه هذه الآية؟ وما رأي رجال التفسير فيها؟ وما هو التفكير الذي توحي به لنا، بعيدا عن الاستنتاجات التي يقدّمها أهل التفسير؟ الميراث، سوء المعاملة أو رعايا الشّقاق ظاهريا، يبدو أن هذه الآية مرتبطة، جزْئيّا على الأقلّ، بنصيب الميراث الذي يأخذه الرجال، والذي يمثّل ضعف نصيب المرأة:»وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا»(1). أفضال الرجال هي التي تُخوّل لهم التحكّم في النساء. لقد نزلت الآية 34 إثْر الاحتجاج الذي عبّرتْ عنه إحدى زوجات الرسول، وهي أمّ سَلمة. وهو الاحتجاج الذي نجد صداه من قبل في الآية 32 من السورة نفسها، وتوحي به عبارة:» وَلاَ تَتَمَنَّوْا». ذلك أنّ أمّ سلمة كانت قد توجّهت إلى زوجها تلومه محتجّة: «يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزي، ولا نقاتل فنستشهد، وإنما لنا نصف الميراث»(2). تتطرّق الآية، بصفة عامّة، للعلاقة الزوجية، ولتوزيع المهامّ فيما بين الرجال والنساء، وهي تعترف بهذه المناسبة بتفوّقهم وتحكّمهم في النساء. وهي تأتي لكي تقدم المُبَرّر القويّ والعميق لهذا التفضيل للرجال. فهم مثل الأمراء الذين يملكون السلطة بين أيديهم، وبالتالي يجدون أنفسهم مسؤولين عن رعاياهم الذين من الواجب عليهم حمايتهم والذّود عنهم بالسّهر على أمنهم وراحتهم. ومن ثمّ، فالرّجل، باعتباره سيّدا في مملكته، يمتلك المرأة كرعيّة. وبالمقابل، من الواجب عليه حمايتها وكسوتها وإسكانها والإنفاق عليها. إنّ الآية تعتبر أنّ الرجال أكثر أهلية لإنجاز مثل هذه المسؤولية. ومن هنا القرار الإلهي بتفضيلهم(3). ويسجل الطبري(4)، في هذا السياق، أنّه على الزوجة أن تطيع زوجها؛ ويمكنه عقابها إذا عصته بالعقاب الذي تستحقّه، وقد يكون العقاب جسديّا دون أن يصل إلى العُنف الجسدي الذي يتعرّض له العبْد، لأنّ درجة التحكّم والتّسيّد ليستْ هي نفسها. غيْر أنّ العقاب مشروع من حيث المبدأ:»وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا»(5). إنّ القرار الإلهي حول تفوّق الرجال هو ردّ، بحسب رأي حتّى بعض مفسّري القرآن، على ما يمكن اعتباره بيانا «نسويّا» لاستنكار انعدام التكافؤ في الحصول على الميراث. يروي الإمام الرازي تفاصيل هذا الاستنكار كما يلي:» ذكروا في سبب النزول (الآية 32 من سورة النساء) وجوها: الأوّل: قال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله، يغزو الرجال ولا نغزو، ولهم من الميراث ضعف ما لنا، فليتنا كنا رجالا؛ فنزلت الآية. الثاني: قال السدي: لما نزلت آية المواريث قال الرجال: نرجو أن نفضَّل على النساء في الآخرة كما فُضلنا في الميراث، وقال (كذا) النساء: نرجو أنْ يكون الوزْر علينا نصف ما على الرجال كما في الميراث، فنزلت الآية. الثالث: لما جعل الله الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء: نحن أحوج لأنا ضعفاء، وهم أقدر على طلب المعاش، فنزلت الآية. الرابع: أتت واحدة من النساء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: ربّ الرجال والنساء واحد، وأنت الرسول إلينا وإليهم، وأبونا آدم وأمنا حواء. فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا، فنزلت الآية. فقالت: وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : « إن للحامل منكن أجر الصائم القائم، فإذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر، فإذا أرضعت كان لها بكل مصّة أجر إحياء نفس»(6) . هذا التشكيك الأخير والمجهول يعبّر بما فيه الكفاية عن حجم التذمّر. يتعلق الأمر بالنوع إذن. ومع ذلك فقد تمّ اختزال المرأة في دور الإنجاب والأمومة فقط ،وبالتالي فإنّ امتيازها لا يقاس إلا بهذا المقياس. الآية 34 حول التفوّق الذي خصصه الله للرجال هو بمثابة جواب يغلق المسألة ولا يعطي أيّ صدى لهذه الشكاوى والتظلّمات. لكن يبدو، خارج هذا الإطار العامّ، أنّ هناك ظروفا خاصّة وراء نزول هذه الآية. فلقد كان السبب المباشر هو امرأة تُدعى حبيبة بنت زيد بن زهير، زوجة سعد بن الربيع، وكان من النقباء، وهما معا من الأنصار. وذلك أنها نشزتُ عليه وعصته، فصفعها فانطلق أبوها معها لإخبار الرسول فقال: «أفْرَشْته كَريمتي فَلَطَمها»، وقد استجاب الرسول لشكواها وأمرها، في مرحلة أولى، بأنْ تقتصّ من زوجها، غير أنه سرعان ما أمََرها بألاّ تتسرّع، وأن تنتظر حُكما من السماء. وهكذا حسم الله ونزلت الآية 34(7). هكذا إذن تمّ التصريح علانية بشرعية القصاص الجسدي. وقد أضاف الرسول بعد ذلك قائلا: «أرَدْنا أمراً وأراد الله أمراً، والذي أراد الله خير»(8). غير أنّ الرازي يسهب أكثر في ذِكْر التفاصيل من غيره، وهو كعادته صريح في ذكر الأسباب العميقة وراء التفوّق الذي يفرده النصّ القرآني للرجال. وهويقسّم هذه الأسباب إلى فئتيْن يمكن اعتبار الفئة الأولى بنيويّة بمعنى من المعاني: «واعلم أنّ فضل الرجال على النساء حاصل من وجوه كثيرة، بعضها صفات حقيقية ، وبعضها أحكام شرعية، أما الصفات الحقيقية فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها إلى أمرين : إلى العلم، وإلى القدرة، ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر، ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل، والحزم، والقوة والكتابة في الغالب، والفروسية، والرمي، وإن منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والاعتكاف، والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق. وفي الأنكحة عند الشافعي - رضي الله عنه -: وزيادة النصيب في الميراث، والتعصيب في الميراث (...) والسبب الثاني : لحصول هذه الفضيلة: قوله تعالى: ( وبما أنفقوا من أموالهم ) يعني الرجل أفضل من المرأة ؛ لأنه يعطيها المهر وينفق عليها»(9). ابن كثير حاسم كذلك في الحكم، بل سريع في التعبير عنه: «الرجل قَيّم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدّبها إذا اعوجَّتْ»(10). فبقدر ما يعترف النّص القرآني للمرأة ببعض الحقوق، بقدر ما يعيد التنصيص على دونيتها: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(11). 1 سورة النساء، الآية 32. 2 الشوكاني، فتح القدير، الجزء الأول، ص. 580 3 نفسه، ص. 581 4 الطبري، التفسير، الجزء الرابع، ص. 59 5 سورة النساء، الآية 34. 6 الرازي، التفسير الكبير، المجلد الخامس، الجزء الثاني، ص. 67 7 الواحدي، أسباب النزول، ص. 119 8 الرازي، المصدر السابق، ص. 71 9 الرازي، المصدر السابق، ص. 71 10 ابن كثير، التفسير، الجزء العاشر، ص. 642 11 سورة البقرة، الآية 228. غدا: القرآنُ والمرأةُ (2)