أصبح من البدهيات أن يتمّ الإقرار اليوم بالدور المتميز الذي يمكن أن ينهض به المدرس، خاصّة في هذا العصر الذي تتبوأ فيه المعرفة موقع الصدارة، ويتحدد بالأخذ بأسبابها مكان الإنسان فيه إنتاجا أو استهلاكا، إبداعا أو اتّباعا، تحرّرا أو تبعية. ذلك أن التعليم هو المرآة التي تنعكس عليها الأشباح الهائلة التي يلقيها المستقبل على الحاضر. ومعلوم أن بتأثير من هذا العصر يعيش المغرب مظاهر حراك اجتماعي وثقافي واقتصادي وقيمي بالغة التعقيد والتراكب، تمتد إلى الذهنيات والأنساق الثقافية وما كان في عداد المسلمات التي لا تقبل الجدل. ولربما يفسر هذا المناخ ما تشهده المنظومة التربوية من تعدد في الخطط والمقاربات والاستراتيجيات لاشتقاق مسارات للإصلاح من شأنها المساهمة في إرساء تعليم عصري بإيقاع جديد، قادر على أن يأخذ بالاعتبار احتياجات المواطنين للتعليم، بل حقهم المشروع فيه. ليس من الضروري أن نمضي في الإعلاء من شأن المدرس وذكر ما يتصل بمنزلته في المخيال الاجتماعي، فالأهم هو تأكيد الدلالة التي تصل التعليم بالمعرفة والإبداع والتجدد الذي لا يكف عن التطلع نحو المستقبل. بهذا المعنى، أحسب أن متابعة التقارير ذات الاختصاص التي تصدر عن مؤسسة الأممالمتحدة وهيئات المجتمع المدني والمنظمات المعنية بقضايا التربية والتعليم تؤكد أن المدرس هو في القلب من كل الاختيارات والرهانات، بل إن كل الأهداف ترتهن في تحققها لمدى قابليتها لأن تتلاءم وانتظاراته، ولقدرتها على حفزه ودعم تفاعله الإيجابي مع مقتضياتها وتوجهاتها. وهو ما يتطلب الاشتغال العميق على إرساء أسس تعاقد جديد بين المدرسة والمدرسين مفعمة بروح الديموقراطية وكفيلة بضمان مناخ من الحرية الحقيق بتكريس معاني الإبداع والابتكار والتميز. إن هذا التعاقد الجديد لا يمكن أن يستقيم دون تعزيز واضح لذاتية المدرسة، وتمكينها من الاستقلالية الضرورية لإنجاز مهامها والاضطلاع بالأعباء ذات الصلة بمحيطها السوسيوثقافي. ويقتضي ذلك العمل على مستويين اثنين: أولا بتمكين المؤسسة من استقلاليتها المادية، وتشجيعها على اقتراح وتنفيذ مصادر للتمويل الذاتي بما يساعدها على تطبيق برامجها، والارتقاء بجودة العرض التربوي فيها، وتنمية حياة مدرسية متواشجة ومترابطة تشعر كل مرتاديها بأنها بحق مكانهم الطبيعي. والعمل ثانيا بما يكفي من الحزم والجدية والكفاءة والعدل، وتشجيع العروض الإيجابية، بل وجعلها نموذجا للتثمين والتقدير والتعزيز، بما يجعل من المدرسة حاضنة، بالمعنى الحقيقي، لقيم المعرفة والعلم والإبداع والابتكار. وإذا استحضرنا أن المجتمع المغربي اليوم في مسيس الحاجة لأن يتلقى أفراده، وبدون استثناء، تعليما وتكوينا مناسبين، وأن يستفيد القدر الأكبر منهم من تعليم متقدم ومتطور وحديث ينمّي الكفايات العقلية العليا التي تمكنهم من استيعاب التحولات السريعة التي تحدث في العلوم والتقنيات والعلوم الإنسانية والفنون، أمكننا أن ندرك حجم الأعباء المطروحة أمام نظام التربية والتكوين. وهذا السياق يمنح المشروعية للتساؤل عن طبيعة الهابيتوس(habitus) الذي يمكن أن يتوفر في المدرس اليوم ليكون بالفعل قادرا على الإحساس بفرديته، وتمييز هويته المهنية، مدركا لطبيعة العلاقة الجديدة المفترضة بالمتعلمين، بما يعنيه ذلك من حرص على استقلاليتهم ورعاية مشاركتهم في بناء موضوعات المعرفة، وتمكينهم من أسباب الفعالية والإنتاجية والعطاء. إننا أمام أدوار جديدة لا تموضع المدرس في سياق مغاير يتكرس فيه الاهتمام على المتعلم بالمفرد وحسب، وما يتصل بذلك من معاني المتابعة والمصاحبة في مسيرته التعلمية الخاصة، وإنما تضع موضع المساءلة كل الأنساق ذات العلاقة بصورته باعتباره المصدر الأساس للمعرفة. بما يعنيه ذلك من تنازل، وقبول بعلاقة متحررة بين المتعلم وموضوع المعرفة. فهل يعني هذا أن على المدرسين أن يفكروا في تغيير طرائقهم التدريسية؟ أتصور أن من الصعوبة بمكان اجتراح جواب عن هذا السؤال، لأنه، استنادا إلى الأبحاث البيداغوجية المعاصرة ذات العلاقة، لا يكفي توفر الرغبة حتى يكون المدرس قادرا على تغيير طريقته التدريسية. فإذا كان من الواضح أن مفردات الإصلاح تضعنا بإزاء منهجية جديدة يتكرس نشاطها على المتعلم باعتبار ما يتصف به من فضول ودينامية وقدرة على الاعتماد على الذات، والتعاون مع الآخرين، لزم القول أنه لا يمكن كسب هذه الرهانات اعتمادا فقط على تغييرات جزئية تتصل بالتدريس بالدعم ومراعاة الفوارق الفردية، بما يوهم بوجود تغييرات حقيقية في الطريقة التدريسية. وكما أوضح ذلك (مارسيل كراهايMarcel Crahay 1989) في دراسة بالغة الأهمية حول هذا الموضوع، فإنه بالاعتماد على الطريقة التقليدية في التدريس لا شيء يمكن تغييره داخل الفصل، إذا لم يتوفر مناخ جديد وعلاقات بيداغوجية ميسرة. فطريقة التدريس تتصل بقوة بإكراهات الأوضاع الصعبة التي يلاقيها المدرس داخل الفصل. من دون شك فالمخططات الإصلاحية التي شرع المغرب في تنفيذها منذ عقد من الزمان، أي مع ظهور الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وامتدادا إلى الفترة الراهنة، حيث تعيش المنظومة التربوية على إيقاع جديد يتمثل في البرنامج الاستعجالي، تراهن على مدرس مختلف حتى وإن كانت لا تصرح بذلك بشكل مباشر. وإذا كان هذا التوجه يلقي على عاتق المدرس بمسؤوليات الإبداع والابتكار والمشاركة الفعالة في الارتقاء بمعارف المتعلمين ومداركهم في ظروف تتميز بالصعوبة والدقة والافتقار إلى الملاءمة، فإنه يضع أمام المؤسّسات المعنية بالقطاع تحديات أكبر، لا بد من مواجهتها واجتراح الخطط والبرامج الكفيلة بكسبها. ولعل في طليعة هذه التحديات ما له علاقة بالمناخ العام الذي يشتغل فيه المدرسون وما يتطلبه من تغييرات جذرية وجوهرية تدعم الشعور بالانتماء إلى المؤسسة التربوية، وببرامج إعداد المدرس وتكوينه وإعادة بنائها وفق رؤيات جديدة تستجيب للرهانات المطروحة على المنظومة التربوية. فإذا كان السياق التعليمي الجديد مطبوعا بمتغيرات وقيم وتطلعات تختلف بقوة عما ساد خلال العقد الأخير من القرن الماضي، فإننا بحاجة إلى التفكير في بلورة مرجعيات جديدة وملائمة من شأنها تمكين المدرس من المهارات والخبرات والكفايات التي تجعله قادرا على تأدية دوره على النحو الأفضل. ويقتضي هذا، فضلا عن الاهتمام بالوضع الاعتباري، إعدادا بيداغوجيا جيدا ومتينا ومنفتحا، وقابلا لأن يحاور به المتعلمين داخل الفصل وفي فضاء المدرسة، وقمينا بأن يساعده على قياس استعداداتهم الإيجابية، والتغلب على الصعوبات التي يمكن أن تواجههم، وتشوش على مسيرتهم التعلمية. وأحسب أن عملا من هذا النوع لا يمكن إنجازه بالاعتماد على المذكرات أو الدلائل فقط، وإنما يحتاج في المقام الأول إلى منهاج جديد وبغايات وأهداف محددة وبمرجعيات بيداغوجية قابلة لأن تتشرب الغايات التربوية، وأن تستجيب لأهدافها. إن هذا الهدف لم تخط المنظومة التربوية بعد باتجاهه بهدف التفكيك وإعادة البناء. وأتصور أنني لا أغالي إذا قلت إن لدى حقلنا التربوي ما يكفي من الموارد والطاقات ذات الكفاءة والمقدرة العلمية والبيداغوجية والاستعداد والمبادرة لبلورة ما نتطلع إليه من حيازة موقع متميز تحت سماء الحضارة الإنسانية، لكنها للأسف يغطيها الكثير من الظل، ولا يُفسَحُ المجال أمامها لاستثمار مؤهلاتها وإمكانياتها الفكرية وخبراتها في حقول التدريس والبحث والحياة. ولذلك فالمدخل إلى غد أفضل في هذا المجال والتقدم في مبدأ الحكامة الجيدة يبدآن بتعزيز الأصول الديمقراطية في نظامنا التربوي والتعهد برعايتها وصيانتها ومقاومة كل أشكال الالتفاف عليها، واعتبارها أساسا لكل مظاهر الاهتمام بالمدرسين، ولمختلف أشكال رعايتهم المادية والاجتماعية. ذلك أن الشعور بالحقوق المهضومة هو من أخطر العوائق النفسية التي تحول دون الاندماج المنتج والخلاق والمبتكر.