هذا العنوان ، الذي يعتلي رأس الصفحةِ في مقالتي ، ليس عنواناً اعتباطياً ، وليس من بنات خيالي ، إنما هو عنوانٌ اختاره صاحبه ، بأناةٍ وفق تعبيرات واضحة ، أراد لها أن تدل ، على سياقات طبيعية وتاريخية ، تؤكد الحالة التي ذهب إليها . " الأقصى يسكن الأقصى " هو عنوان فيلم وثائقي للمخرج المغربي – عبد الرحمن لعوان – وقد شارك هذا الفيلم ، بالدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة ، وقد حظي الفيلم بالتنويه من قبل لجنة التحكيم . على الرغم من أنني أحببتُ الفيلم ، وقد قلت فيه هناك ، في خريبكة : أنه فيلم يستحق التقدير والمشاهدة ، وذلك لما يحمله من مادة علمية ، تعليمية تفيد العرض والتوثيق ، لطبيعة العلاقة التاريخية ، بين القدس والشعب المغربي . وقد فعل ذلك الفيلم وباقتدار ، من خلال استحضاره للشهادات التوثيقية والصور ، من مختلف الأزمنة ، ولكن اخترت عنوان الفيلم ، عنواناً لمقالتي التي أوجز الحديث فيها عن الفيلم ، لأدلف للحديث عن رحلتي الأولى إلى المغرب ، وعن مشاركتي في الدورة الرابعة لمهرجان خريبكة وبصفتي شاعراً وليس سينمائياً . منذ سنين وأنا أحمل بين جوانحي ، شوق لزيارة المغرب ، حباً بالتعرف على هذا المكان العربي القصي ، وعلى أهله ، ولطالما علمت من الأصدقاء ، الذين زاروه ، سحر المكان وأهله ، فقد إستبدّ بي الشوق إليه ، إلى أن تعهد أخي وصديقي المخرج فائق جرادة ، بتحقيق هذه الرغبة ، وكان ما وعد . في هذا العام تنعقد الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة وسنذهب معاً ، هكذا قال : فائق جرادة ، الذي سيشارك بفيلمه " ناجي العلي في حضن حنظلة " والذي كان لي فيه شهادة محب لناجي وفنه المقاوم إضافة لمشاركتي في أمسية شعرية يقيمها المهرجان في اليوم الثالث . لا شك أنني فرحت بهذا ، وقد بدت الرغبة ، قاب قوسين أو أدنى من التحقق ولكن بدأت العقبات بالظهور : واحدة هنا وأخرى هناك ، وبدون تفصيل ممل لم يتمكن فائق من الخروج من غزة للمشاركة ، تكدرتُ وكدتُ أن أفقد الأمل برؤية المغرب، ومشاركة مثقفية بالتظاهرة الثقافية السينمائية الرائعة . ولكن بعد جهد الرفاق المخلصين وتحديداً رفيقي د . أحمد مجدلاني وصديقي الشاعر مراد السوداني تمكنت من مغادرة قطاع غزة باتجاه المغرب . فكيف الوصول إليه ، وكيف أصفه ، ذلك المكان الذي يضج بجمال طبيعته وجمال أهله ، كيف اصف تظاهرة خريبكة الثقافية ، وحميمية أناسها ؟ كل ذلك يحتاج إلى الكثير ، من البلاغة المنزاحة ، عن مواضعها الطبيعية ، لأن طبيعة البشر هناك ، أجمل مما نتصوره ، إنها ترهقك بالجمال وبالحب الذي لا تستطيع مجاراته . في المغرب يرتبك اللسان ، ويعجز عن مجاراة أهله ، في الحديث عن الثقافة والوطن ، فكيف ستتحدث عن فلسطين ، لأناس تسكنهم فلسطين ، ويعبرون عن همها بكل جوارحهم ، وكثيرا ما يغالبهم الدمع ، وهم يتحدثون عنا وعن معاناتنا ، وعن الظلم التاريخي الذي يحيق بأرضنا وشعبنا . منذ نزولي في مطار / محمد الخامس ، لم اشعر بغربةٍ لان الهواء كان عربياً أصيلاً ، والناس هناك لم يكونوا في الجوازات عسكراً ، دركاً, يريدون تعذيبك إلى أن يتحققوا : أن القادم الفلسطيني " ليس مخربا " على العكس من ذلك تماماً فعندما عرف " الدرك " أنني فلسطيني وآتٍ للمشاركة بمهرجان ثقافي سارع إلى تسهيل أموري ، وبكل حفاوةٍ ، لم المسها بالمطارات الأخرى . قالوا : تفضل على الرحب والسعة ، فأنت في بلدك يا أستاذ ، يا الله ما أجمل وما أروع هذه الصورة البسيطة ، السلسة بالتعامل والتي تشعرك بقيمتك كانسان ، كدنا نفتقدها ، وربما افتقدناها في مطارات ومعابر أخرى . ولكن الأجمل كان خارج حدود المطار ، هناك على الناصية كان " حسن مجتهد " الذي لم يسبق لي رؤيته ، أومها تفته ، لقد جاءني وأنا أبحث بعيني عن يافطة تحمل اسمي ، لأعرف مستقبلي هناك ، كي نذهب إلى المهرجان . لم أر اليافطة ، لكن حسن رآني بفطرته ، فجاء مباشرة لي وقال : هل أنت سليم النفار ؟! قلت :نعم ، هل أنت حسن مجتهد ؟ لم يكمل وعانقني والدموع تترقرقُ في سماء عينيه الصافيتين كعين البحر أهلاً يا صديقي ، أهلا بفلسطين هكذا كان يقول ، وركبنا السيارة خاصته باتجاه خريبكة ، غير أنه لم يكف عن السؤال طيلة ساعة من السفر : كيف فلسطين ، وكيف غزة ، وكيف الأصدقاء ، كيف تعيشون في الحصار الخانق ، كيف وكيف وكيف ... الخ أسئلة المحب عن محبهم ، أسئلة الأهل عن ذويهم ..، وهكذا يتواصل الحديث مع حسن إلى أن وصلنا " خريبكة " هناك إلى الفندق حيث كان بانتظارنا الطبيب الفنان : بو شعيب المسعودي والدكتور : الحبيب ناصري ، والذين أضافوا سخونة أخرى لحرارة الشوق المغربي إلى فلسطين . في هذا المناخ الحميمي ، الأسري بدأت مشاركتي في دورة خريبكة الرابعة للفيلم الوثائقي . خمسة أيام ، لم نعرف كيف مضت ، لا مكان فيها للنوم ، فإما في قاعة الندوات التي تعقب الأفلام ، وإما في المركب الثقافي ، لمتابعة العروض الفلمية ، وما بين هذاكله, والسهرات المسائية ، تحتاج وقتا إضافيا من عمر اليوم لإدامة البهجة التي تحيط بك ، من كل صوب . ولكن ما يقال حقيقة في هذه التظاهرة الثقافية السينمائية ، وبعيداً عن المجاملات ورد الحب بالحب ، فان الفن لا يعرف ذلك ، وان الفن أيضا لا يستطيع ادعاء الكمال ، وانجاز مهامه الجمالية ، في أي محطة سواء في السينما أو الشعر أو أي فن آخر ، فدائما هناك نقص ما ، ودائماً هناك استتباع ما وإضافة ما ، لابد منها سعياً نحو الأجمل والأكمل . ولكن الذي يعرف حقيقة الجهد الفردي المبذول من قبل الأخوة في جمعية المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي ، لا يستطيع إلا أن يرفع القبعة احتراما وتقديراً لهذا الجهد الرائع سواء من حيث القدرة العالية على التنظيم أو القوة الفنية التي تمتعت بها عموم الأفلام المشاركة عربياً ودولياً ، وهذا ما يؤكد حقيقة أن القائمين على المشروع ، لم يكن في ذهنهم ركوب موجةٍ ما ولا يحبون الصخب والتعب ، من اجل غاية أو نزوة آنية ، بل أكدوا وباقتدارٍ عالٍ ، علمهم بالفن السابع وبتطوره على الصعيد العربي والعالمي وعلى الصعيد المغربي ، وهم بذلك يحاولون وبجدية عالية ، تقديم إسهامهم الرفيع في تنمية المشهد الثقافي المغربي والعربي على حد سواء ، كما أن القوى الداعمة لهم في المجتمع المغربي المحلي ، تستحق الشكر أيضا ، لأنها تدرك بدعمها لهذا المساق الثقافي ، أن الوطن لا يعني العسكر والخدمات التحتية فقط ، فان الخدمات التنموية الجادة على الصعيد الثقافي ، هي على جانب كبير من الأهمية ، لأنها تنمي رأس مال الأوطان ، ألا انه الإنسان . وفي هذا السياق فان ما قدمه مهرجان خريبكة للفيلم الوثائقي ، يُعدُّ إضافة وإسهاما نوعياً من خلال الأفلام العربية التي لامست الهموم العربية الآنية والتاريخية, بشكل جاد ومتميز ، أو الأفلام الأجنبية التي انتصرت للإنسان من خلال مضامينها الراقية . وعندما نتحدث عن " خريبكة " لا نستطيع نسيان الحاجة " سليماني خدوج " قد يسأل أحدكم : من هي الحاجة سليماني خدوج ؟. هي امرأة مناضلة ، قاتلت ضد الاحتلال الفرنسي ، اعتقلت وعذبت ولكنها واصلت نضالها إلى أن رأت المغرب ينعم باستقلاله . الحاجة " خدوج " امرأة تقارب الثمانين ربيعاً ، ولكنها مازالت تحتفظ بنضارة الربيع وبحب جم للعروبة ولفلسطين على وجه الخصوص . وقد أخذت على عاتقها منذ الدورة الأولى للمهرجان على أن يخصص لها يوم ببيتها الجميل الواسع ، تضرب الألحان ويلقى الشعر وفي الختام يقدم العشاء المغربي اللذيذ والمتنوع . ربما لا تسعفني الكلمات للحديث أكثر ، فإن الحميمية التي يجدها زائر المغرب من أهله ، تضيق بها الكلمات ، ولكنني أو أحاول وصفها هنا . أما اليوم الأخير فكان الأكثر تعبيراً عن حب المغرب لفلسطين وللإنسان الذي يدافع عن القيم النبيلة ، ففي الختام الذي كرم فيه الفنان الكبير " مارسيل خليفة " كانت خريبكة عرس وطني كبير ، استقبلت مارسيل بترديد أغانيه وبالدموع التي يملؤها الألم والأمل ليوم عربي جديد مشرق . في هذه السطور ، وعلى عجالة من أمري-أحاول وصف ما أحسست ورأيت بالمغرب ولكن وأنا أعود إلى بلادي ، إلى غزة .. وأرى الأمور على ما هي عليه من انقسام واحتقان ، ينفطر القلب لها ، أناشد القوى السياسية كلها وعلى اختلاف مشاربها ، أن صونوا هذا الحب ، المكنون لكم وليس من صيانة له ، بغير الوحدة ، نحو الهدف الواحد ، والأوحد ، فلسطين الأحلى والأجمل ، وإن اختلفتم فليكن إختلافكم الأجمل ، من أجل الأجمل فهل نرى ذلك. سليم النفار